حين تراه تظن انه عبقري أو شحاذ، شعره الخشن طويل ومهوش، ولحيته مهملة، وثيابه قديمة بالية، وغير مهندمة بالمرة، يتأبط أوراقاً بيضاء، ويضع قلماً فوق اذنه. يمشي مائلاً قليلاً نحو اليمين، تتقلقل قدماه في حذاء من دون رباط، لا يكف عن المراقبة، ينظر هنا وهناك، فلا يفلت شيئاً ومن حين لآخر يلتفت خلفه، أو عن يمينه ويساره، لأنه يعتقد أنه يسير بين كثير من الأعداء الذين يتربصون به، ويعتقد أن الحكومة أطلقت عيوناً خفية لمتابعته في كل مكان. إذا ابتسم شخص في وجهه، ظن انه يسخر منه، وإذا صادف واصطدم به عابر يعتقد أنه يقصد الأذى، وإذا حدقت في وجهه عينا فتاة جميلة، قال لنفسه: إنها تتهكم منه. هذا هو الشاعر الذي قدم من مدينة عريقة كانت يوماً عاصمة الدنيا. اسمه طه، منسوب الى عائلة كريمة في مسقط رأسه، ولكن الشعر الذي سلب عقله وسحبه من عنقه بحبل غير مرئي، ككلب يتبع صاحبه، جعله يترك حياة الركود والاستقرار، ويتخذ طريقه منحدراً مع النيل الى الدلتا ليتوقف هاهنا في عاصمة الحاضر التي تتمدد كأنشوطة كبيرة على العنق. نزل إليها وهو لا يملك خريطة ترسم له المواقع، لا سكن له، ولا مأوى. سأل عن مقاهي الأدباء والفنانين، فدلوه على واحدة منها، انضم الى زمرة تشبهه، قدم كل واحد منهم من بلد، أو من قرية، أو من نجع. سأل عن أهل بلدته، فدلوه على مكان يتجمع فيه التجار والباعة الجائلون، وحراس العمارات، وعمال البناء. سأله كبيرهم: وما الحرفة التي تجيدها؟ - كتابة الشعر. - ماذا تصنع يعني؟ - أكتب البيت بعد البيت حتى تتشكل قصيدة متكاملة. - إنك تنطق كلاماً لا أفهمه. وأجابه شيخ آخر يسحب الدخان من مبسم الشيشة: - نحن نبني بيوتاً من حجر. - أي بيوت أنت تجيد بناءها؟ - بيت القصيد. تبادلوا القهقهات، وأشار واحد منهم بالإبهام والسبابة الى موضع العقل، إشارة يفهم منها ان ابن بلدهم مجنون، أكرموه ليوم واحد، أطعموه، ومنحوه علبة سجائر كاملة، ودس كبيرهم بعض النقود في يده، وأشار إليه بالذهاب الى مكان آخر يمتلكه رجل من بلدتهم،"ربما تجيد حرفته، فهي سهلة، لا تشقى بها كما نشقى في اعمالنا". فذهب إليه، وجده يجلس على كرسي ضخم أمامه طاولة عريضة يتناثر على حوافها طحين ناعم، قص عليه قصته، وذكر اسم الشيخ الذي أرسله، قال له وهو حزين من اجله: - نحن يا ولدي نصنع الخبز من اجل أهل المدينة، ونوزعه عليهم عبر المحلات، أو نرسله إليهم في منازلهم، هل تصلح لهذه المهنة؟ - أجرب. - بدنك هزيل، ولا يقوى على العمل. - دعني اقيم بينكم حتى أجيد الحرفة. - ادخل فتخير لك مكاناً في ساحة المخبز. قضى أسبوعاً، وأسبوعاً، وأسبوعاً، يطعم مما يطعم به الخبازون، وعمال الفرن، وبالليل يعود في ساعة متأخرة يلف جسده المجهد في"جوال"من اجولة الطحين، وينام بعمق لا يوقظه أحد، هكذا أمرهم صاحب الفرن، يستيقظ مع الغروب، يرش وجهه بقليل من الماء، ويسرع الى مقهى الشعراء يسمع قصائدهم الجديدة، ويسمعهم مقاطع سجلها على ورق مطوي على ذرات الطحين. هذه الليلة لم يرغب في الذهاب الى المخبز.. الخبازون صاروا يسخرون منه، يسمع حديثهم الخفي، وهو ملتف بالجوال. - هذا مجرد مجنون لا يجيد شيئاً في الحياة. - المعلم ضج به. - ولا يستطيع يطرده لأنه منسوب الى بلدته. - يقول إنه لا يكلفه شيئاً، ثم إنه لم يخلق لهذا العمل. - اسمعه يردد"ربما يكون له شأن في المستقبل فيذكرنا بالخير". في هذه الليلة انقضت السهرة في مقهى الشعراء، وعاد كل واحد منهم الى مأواه، فذهب الى مقهى الزهور، فوجده مغلقاً. قال:"اذهب الى مقهى الخُرس، فهو لا يغلق ابوابه أبداً..". وقال:"زبائنه يتحدثون بالإشارة: فلا ضجيج مذياع، ولا ثرثرة فارغة، يمكنني ان اميل على الطاولة حتى يطلع نهار الغد". قطع دائرة الميدان ليتخذ طريقة الى الشارع المؤدي الى مقهى الخُرس. وقفت عربة الشرطة أمامه بالضبط.. نزل شرطيان من الخلف، وامسكاه من ذراعيه، تقدما به الى الضابط الذي هبط إليه ليجره من ياقة القميص بغضب. - بطاقتك.. دار بيده حول جسده النحيل، وطه استسلم له تماما وهو يردد في سره"ها هو اليوم المنتظر قد جاء". "كم مرة أتفادى الوقوع في أيديهم، ولكنهم ينقضون ببراعة النسر على فريسته..". - لا املك بطاقة. - أظنك بلغت السن التي يحق لك امتلاك هوية تعرف بها. - أملك ما يثبت شخصيتي. - أرني إياه. بحث طه في جيبه، ثم اخرج محفظة نحُل جلدها، مرر أصابعه في فتحاتها حتى عثر على ورقة صغيرة باهتة. - انظر. - ما هذا؟ - صورة، نشرتها إحدى المجلات والى جوارها قصيدة من تأليفي. - هذا لا يثبت شيئاً، الصورة تبدي بعضاً من ملامحك. ومكتوب تحتها طه الاسيوطي، ما اسمك بالكامل. - طه محمد محمود الاسيوطي. - وكيف أتأكد من هذا؟ - زملاء المقهى، ورجال بلدتي. - واين أجد هؤلاء. - ناموا جميعاً. - جرّوه. واستجاب الشرطيان لأمر الضابط، فشداه من ذراعيه، حاول المقاومة بتثبيت قدميه على إسفلت الشارع، من دون جدوى، قدرته اضعف من مقاومة جذبة الشرطيين، وقبل ان يرفع الى صندوق العربة صاح في وجه الضابط. - اسمع يا هذا، لا يجوز القبض على إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً. ضحك الضابط بسخرية. - وأين سمعت بهذا الكلام. - هذا حق من حقوق الإنسان التي لا يعرفها الجهلاء من أمثالك. - ستعرف من منا الجاهل يا صعلوك.