يؤشر ميزان حرارة العلاقات المصرية - الإيرانية الآن إلى دفء ملحوظ، فقد طرأت جملة من المستجدات، بدءاً من زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي إلى القاهرة قبل ستة شهور، مروراً بلقاءات التشاور التي لم تنقطع بين دبلوماسيين مصريين وإيرانيين، وانتهاء بالمفاوضات الدبلوماسية التي أجريت في مقر وزارة الخارجية المصرية في القاهرة قبل أيام. المفاوضات استغرقت يومين بين معاون وزير الخارجية الإيراني مدير إدارة الدول العربية وشمال أفريقيا في الخارجية الإيرانية عباس عراقجي عن الجانب الإيراني ومعاون وزير الخارجية ومدير إدارة الشؤون الآسيوية في الخارجية المصرية حسين ضرار. وتناولت المفاوضات سبل إحياء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد قطيعة مستمرة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، ومهدت المفاوضات للقاء مرتقب بين وزيري خارجية البلدين. دخل الطرفان المفاوضات الأخيرة ولكل منهما أجندته، واضعاً الاعتبارات والمستجدات الجارية في الإقليم في حساباته التي تختلف عن حسابات الطرف الآخر. ومن ناحيتها حرصت الإدارات الإيرانية المتعاقبة، من رفسنجاني وخاتمي ونجاد، على عودة العلاقات الدبلوماسية مع القاهرة لأن ذلك يشكل اعترافاً عربياً كاملاً وغير منقوص بدور إيران قوة إقليمية كبيرة في المنطقة، وهو خط ثابت في السياسة الخارجية الإيرانية. الأمر الثاني الدافع للعجلة الإيرانية تجاه إعادة العلاقات الآن هو التصعيد المستجد ضد طهران التي تعي تشابكات العلاقات المصرية - الغربية عموماً، والمصرية - الأميركية خصوصاً، ولأن طهران تريد فتح باب خلفي للمفاوضة عبر مصر مع واشنطن، خصوصاً بعد أن جربت في السابق أبواباً أخرى مثل أفغانستان وسويسرا وقبرص وتركيا ولم تثمر كثيراً. وفي الناحية المقابلة تبدو الحسابات المصرية على قدر أكبر من التعقيد والتشابك مقارنة بالحسابات الإيرانية، فقرار اعادة العلاقات مع إيران له محاذيره وحساباته الخاصة، خصوصاً في ضوء التسخين الجاري في ملفها النووي وعلى خلفية اندفاعة إيران في الإقليم بعد احتلال العراق، والتي تلقى معارضة مصرية وعربية معلنة. يفترض الوزن الإقليمي لمصر أن تكون لها علاقات مع كل الأطراف الفاعلة في الإقليم، حتى تستطيع التأثير في مجريات الأحداث في المنطقة عبر التأثير في أطرافها الرئيسة. لذلك من المفترض والمطلوب - نظرياً - ألا تنعزل مصر عما يجرى في المنطقة وألا تغلق أبواباً يمكن عبرها التأثير في سياسات الإقليم. والطرف الإقليمي الوحيد الذي لا تحتفظ مصر بعلاقات معه هو طهران، لذلك يمكن تفسير الدافع المصري الموضوعي للمفاوضات تمهيداً لعودة العلاقات، فالأصل في العلاقات بين الدول هو افتراض وجودها، والاستثناء هو غير ذلك. أما الادعاء القائل ان قرار إعادة العلاقات مع إيران ليس قراراً مصرياً، فتدحضه بسهولة حقيقة وجود علاقات دبلوماسية كاملة لإيران مع دول المنطقة كافة - باستثناء إسرائيل -، وغالبيتها الساحقة لها ارتباطاتها وتحالفاتها الدولية المقاربة لمثيلتها المصرية. وإذ تتشابك عوامل قياس التأثير الاستراتيجي لدول المنطقة مع اعتبار التوقيت. وإذ تؤثر عودة العلاقات مع ايران في الروافع الأساسية للسياسة الخارجية المصرية ومنها العلاقات المصرية - الخليجية... تبدو الحسابات المصرية بالفعل أعقد كثيراً مما يبدو للوهلة الأولى. تقاس التأثيرات الإقليمية لدولتين بناء على نقطة المنتصف، لذلك، إذا تم قياس المسافة من القاهرة إلى طهران نجد أن نقطة المنتصف الجغرافية تقع في سورية، ومن المفترض لتكافؤ الإيقاع أن يكون النفوذ المصري والإيراني متعادلين في سورية مع احتفاظ كل طرف بمواقع تأثير في جانبي نقطة المنتصف. لكن احتلال العراق قلب الموازين والتوازنات، إذ تمكنت إيران في ظل الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين من تمديد نفوذها هناك في شكل فاق التصور، وعلى حساب الحضور العربي برمته. نتيجة لذلك تستطيع إيران ? نظرياً - فرض إيقاعها على الإقليم واستخدام العلاقات الدبلوماسية مع دوله أداة لتعزيز حضورها الإقليمي، ويتضافر هنا عامل التوقيت مع القياس النظري للتأثير الإقليمي. وفي ظل الضغط الدولي المتزايد على إيران"وعلى خلفية حاجتها الى أبواب مفاوضات مع واشنطن في المرحلة المقبلة، ربما تكون المرحلة الحالية هي الأنسب لعودة العلاقات المصرية - الإيرانية من المنظور المصري، فمن شأن ذلك تلطيف الجموح الإيراني وإفساح دور أكبر للسياسة المصرية في الإقليم. ويتصدر الخليج اهتمامات القاهرة وحساباتها في ما يتعلق بعودة العلاقات مع طهران، وذلك أن جزءاً كبيراً من موارد قناة السويس تأتي من نقل النفط العربي إلى أوروبا، وأي تراجع في اره أو تدفقاته يرتد سلباً عليها. كما أن تحويلات العاملين المصريين في الخليج هي ركن أساس من أركان الموازنات المصرية، لذلك تتشابك الروابط العربية والثقافية والسياسية المصرية مع الخليج مع رابط المصالح الاقتصادية، اذضع القاهرة في مواجهة غير مباشرة مع طهران في الخليج. بناء على ذلك من المتوقع أن يكون الملف الخليجي، بؤرة الاختلاف في الرؤى بين البلدين، على رغم الانفراج الحالي في العلاقات. وحتى بعد عودة العلاقات بين القاهرةوطهران ستبقى قضايا عدة قابلة للحل، فالعلاقات الدبلوماسية بين بلدين لا تعني أنهما يتشاركان بالضرورة في رؤية متطابقة الى الاحداث الإقليمية والدولية. وذلك أن السياسة الخارجية لكل منهما تقف في مواجهة الأخرى، لأن النطاق الاستراتيجي المصري وضرورة تواصله ثقافياً وسياسياً واقتصادياً مع المنطقة يصطدم بالتصورات الإيرانية لمنطقة الخليج ونسق نظامها الأمني الإقليمي. ولا يبدو من ملاحظة الثوابت الإستراتيجية المصرية في الخليج أن السياسة الخارجية المصرية يمكن أن تصب في مسار"محايد"، لجملة العوامل والاعتبارات المذكورة. وبإضافة العلاقات المصرية - الخليجية الممتازة إلى كل ذلك، يمكننا استنتاج أن هذا الموضوع سيبقى خارج الانفراج المصري - الإيراني، وفوق إطار عودة العلاقات الديبلوماسية الكاملة بينهما. يحمل الانفتاح الإيراني على القوتين الإقليميتين العربيتين، مصر والسعودية، في طياته انفتاحاً على التحالفات الدولية لهاتين القوتين، وهو هدف أساس للسياسة الخارجية الإيرانية في الأجلين القريب والمتوسط. بات التنسيق بين الأقطاب في المنطقة ضرورة مصيرية لتجاوز الاستقطاب الحاد الذي تتنفسه المنطقة يومياً، في شكل يمكّن الخارج من فرض أجندته وأهدافه"ويطمس التناقض الرئيس فيها، وهو ليس ذلك التناقض الثانوي القائم بين العرب وإيران الآن. وإن كانت أسباب المآخذ المصرية والعربية على السياسة الإقليمية الإيرانية لا تخفى على طهران، فالرهان يبقى على رغبتها في إحداث تغيير في طبيعة الخطاب السياسي والممارسة الإقليمية في المنطقة. كانت إيران ولا تزال دولة إقليمية كبيرة بفضل ما تملكه من خصائص ومقومات، لكن هذه المقومات الموجودة لدى طهران والتي تؤهلها للعب دور إقليمي مستحق لا تستطيع أن تلغي الآخرين وأدوارهم المشروعة. تأسيساً على كل ذلك فالأرجح أن يكون مفاد الرسالة المصرية الدبلوماسية للوفد الإيراني المفاوض أن منطق الغَلَبَة الذي تشكو إيران من اعتماده أميركياً تجاهها، لا يمكن قبول ممارسته في المنطقة من أي طرف كان. تنظر القاهرة جدياً في إعادة العلاقات مع طهران على قاعدة أن الأصل في العلاقات بين الدول هو وجودها والاستثناء هو غيابها، لكن الأصول تحتاج دائماً إلى أفعال تعززها. ونظراً الى تعقيد وتشابك الحسابات المصرية ولضرورة فتح أبواب التأثير المصري في كل أطراف الإقليم الفاعلة من دون استثناء، فالأرجح أن تستمر المفاوضات التقنية - الدبلوماسية بين الطرفين انتظاراً للحظة تاريخية تراها القاهرة مواتية، ويبدو أن هذه اللحظة لن تطول كثيراً. * كاتب مصري خبير في الشؤون الإيرانية والتركية.