هي من دون أدنى شك الرواية الأشهر في الأدب العربي في القرن العشرين. الرواية التي ربما يصح ان نقول ان عدد الذين قرأوها، في أصلها العربي على الأقل، يوازي عدد الذين قرأوا كل الروايات العربية الأخرى مجتمعة. نتحدث هنا عن"الثلاثية". وعلى رغم ان ثمة ثلاثيات كثيرة في عالم الأدب، فإننا حين نتحدث عن"الثلاثية"من دون أي تعريف آخر يكون واضحاً اننا نتحدث عنها... عن"ثلاثية نجيب محفوظ"، ذلك العمل الأدبي الذي إذا كان قراؤه العرب يعدّون بعشرات الألوف - وهذا أمر طبيعي في منطقة لا يطبع فيها من أي كتاب جدي سوى بضعة آلاف قليلة من النسخ-، فإن الذين يعرفونه يعدون بالملايين، وذلك بفضل الفن السابع الذي حوّله أفلاماً، ثم بفضل التلفزة. ومن هنا لن يحتاج العربي الى ان يفكر طويلاً ليتذكر حين تذكر أمامه عناوين مثل"بين القصرين"،"قصر الشوق"وپ"السكرية"، أي العناوين التي تحملها أجزاء الثلاثية الثلاثة بالطبع، علماً أن هذه هي ايضاً - وبخاصة - اسماء ثلاثة شوارع قاهرية هي التي تدور فيها أحداث هذا العمل الرئيسة. وإذا كنا هنا قد تحدثنا عن القراء العرب، فما هذا إلا كي نحصر الكلام في هذه العجالة، من دون ان يفوتنا ان عدد الذين قرأوا"الثلاثية"مترجمة الى لغات أخرى - من بينها الفرنسية والإنكليزية ? يزيدون عن عدد قرائها العرب. ولن يكون مبالغة ان نقول ان"الثلاثية"، مجتمعة أو مجزأة، هي الرواية العربية الوحيدة المترجمة الى لغات غير العربية، التي دخلت الثقافات المحلية في بلدان أخرى وصارت تُقرأ كما يُقرأ نتاج أي أدب كبير في العالم. نقول هذا ونحن نعرف كثيراً عن أرقام ما تُرجم من الأدب العربي وما بيع وما وزّع. ومن هنا لم يكن صدفة ان يكون نجيب محفوظ الكاتب العربي الوحيد الذي نال جائزة نوبل للآداب حتى اليوم، ولو أن أهل نوبل، حين منحوه الجائزة تحدثوا عن عمل آخر له هو"أهل حارتنا"أكثر مما تحدثوا عن"الثلاثية"والسبب معروف! المهم ان"ثلاثية"نجيب محفوظ، ومنذ بدء صدور أجزائها متتابعة خلال النصف الأول من خمسينات القرن العشرين، صارت جزءاً اساسياً من ثقافة كل عربي متنور، وربما كل قارئ حقيقي ايضاً. ولربما يفيد ان نذكر هنا أن"الثلاثية"لم تكن ثلاثية أول الأمر، بل كانت نصاً واحداً. ولكن حين قدمه محفوظ الى ناشره"السحّار"، استفظع هذا الأخير ان ينشر رواية يربو عدد صفحاتها عن الألف صفحة فاقترح تقسيمها ثلاثة أقسام وهكذا كان. ومنذ ذلك الحين، حضر هذا العمل الأدبي الكبير في الثقافة العربية. ولكن ايضاً في الذهنية الاجتماعية العربية، إضافة الى حضوره الطاغي في علاقة كثر من المثقفين العرب بمدينة القاهرة. ذلك ان الرواية، بأجزائها الثلاثة، هي في شكل أو في آخر، تاريخ لمدينة القاهرة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ناهيك بكونها ايضاً أشبه بصورة طوبوغرافية للمدينة، منظوراً إليها من خلال حكاية عائلة. وهذا البعد الأخير، البعد العائلي، هو الذي يدور في أذهاننا عادة حين نتحدث عن علاقة"الثلاثية"بالذهنية الاجتماعية العربية، حيث اننا نعرف ان رب العائلة ? الحاضر جسدياً بقوة في"بين القصرين"، ولكن الحاضر أكثر كطيف يملي على الأبناء والأحفاد ذهنياتهم ومسالك حياتهم - رب العائلة هذا، السيد وسي السيد صار مع مرور الوقت مَعْلَماً وعلامة، حتى لدى الذين لم يسمعوا بالرواية في حياتهم. فسي السيد حتى إذا غضضنا الطرف عن البعد الرمزي فيه ? وهذا أمر ليس هذا السياق مجاله-، نجده صورة حقيقية لكل أب أو زعيم أو سيد، في الحياة الاجتماعية العربية، كما انه صورة لازدواجية صاحب السلطة منزلية أو دولتية هذه السلطة كانت، ولتناقضاته، إنما منظوراً إليها نظرة غير شريرة، من جانب كاتب كان يؤمن بالجدل في رسم الشخصيات، وكان يجعل التناقضات الأساسية في الأخلاقيات والذهنيات، على صراع داخل المرء، وليس بين المرء والآخرين. والحقيقة ان هذه الشكسبيرية في رسم الشخصيات، ميزت دائماً أعمال نجيب محفوظ الكبرى، وربما كانت هي من أعطاها نكهتها الأساسية، إذ خاطبت لا وعي القارئ، ودلّته على زوايا في شخصيته الخاصة لم يكن ليشكك في انها موجودة لديه. غير ان هذا العنصر - وإن كان أساسياً، وخلق رمزية سي السيد في الحياة الاجتماعية العربية-، يبقى عنصراً خارج السياق الروائي نفسه. إذ ان هذا السياق والذي كان هو من يصل دائماً الى القراء مخاطباً وعيهم، يتجلى في متابعة حياة أجيال متعاقبة من عائلة سي السيد، على مدى عقود من الزمن، وعبر تبدلات اجتماعية نجدها حيناً واقعية النزعة - على النمط البلزاكي - وحيناً على طبيعتها - على نمط إميل زولا -، وهما أي هذان الكاتبان الفرنسيان الكبيران هو أونوريه دي بلزاك، وإميل زولا المبدعان الأساسيان اللذان تأثر محفوظ بهما منذ شبابه وقرر ان يسير على نهجهما في كتابة تاريخ بلده القاهرة أعني وإنسان هذا البلد، منظوراً إليه عبر مرشحه الخاص وفي هذا المعنى تبدو"الثلاثية"أشبه برواية في السيرة الذاتية ايضاً، حيث كثيراً ما جرى التشبيه بين سي السيد ووالد نجيب محفوظ، واعتبر كمال - الابن الثالث لسي السيد - صورة ما لنجيب محفوظ نفسه. طبعاً من الناحية التاريخية قد لا يكون هذا التشبيه صائباً، ولكن في الأعماق، ومن ناحية التطور الذهني والتاريخ الفكري تبدو الأمور منطقية الى حد ان كمال يبدو صورة من محفوظ - بالطريقة ذاتها التي كان غوستاف فلوبير يقول عن نفسه فيها انه هو نفسه مدام بوفاري-. وإذ نقول هذا، فإننا في طريقنا نود ان نبتعد كلياً من اولئك الدارسين الذين يحلو لهم بين الحين والآخر ان يقاربوا بين"الثلاثية"و"حكاية آل فورمايت"لغاسورتي، أو بينها وبين رواية"آل بودنبروك"لتوماس مان. فالتشابه، في حقيقته يتوقف عند واقع ان الروايات الثلاث تتناول تاريخ أسرة عبر أجيال متعددة ومتعاقبة. ولكن أوليس ثمة عشرات الروايات في آداب العالم تعالج الموضوع نفسه. بل أوَلا يمكننا القول ان في كل أدب من آداب العالم رواية وأكثر تعتبر رواية أجيال؟ الحقيقة ان ثلاثية نجيب محفوظ، إذا كانت تشبه، حقاً، شيئاً ما، فإنها تشبه القاهرة نفسها، خلال العقود المرصودة في الرواية، وتشبه محفوظ نفسه وتشبه البشر الذين عرفهم وعرفوه. ومن يشكك في هذا قد يجدر به ان يقرأ مذكرات عدد لا بأس به من المفكرين والأدباء المصريين الذين عايشوا المرحلة نفسها - الممتدة، مثلاً من ثورة 1919 الى ثورة 1952-، ومن بينهم لويس عوض الذي يبدو في كتاب مذكراته وكأنه يقدم المعادل الموضوعي لأحداث رواية محفوظ. غير اننا إن اكتفينا بهذا التوصيف للرواية سنكون قد عاملناها معاملة ظالمة، فهي - كذلك - أكثر من هذا بكثير: هي رواية عن الحياة الداخلية للناس، عن صراع الأفكار، عن الحب - وصولاً الى الحب المحرم-، عن العلاقة مع الدين في القاهرة العابقة بإسلامها المحبب اللطيف، زمناً طويلاً قبل ان يولد مدّعو الإسلام الذين سيحاولون قتل محفوظ لاحقاً بالطريقة ذاتها التي سعوا فيها الى قتل كل ما هو حلو وعقلي في حياة مصر، ورواية عن السلطة، وعن حيرة صاحب السلطة وتناقضاته، ناهيك بكونها رواية عن الوعي المكتسب مع مرور الزمن وتبدل الأحداث، وبكونها رواية عن شتى ضروب النضال الذي خاضته القاهرة وأهلها ضد التخلف، ضد الظلم وضد الاستعمار الإنكليزي... ولا سيما الى جانب حزب الوفد الذي ظل نجيب محفوظ يكنّ له وداً حقيقياً. فهل ترى علينا ان ننسى اخيراً انها ايضاً رواية عن المرأة ووضعيتها في المجتمع المصري؟ كل هذا يطرحه نجيب محفوظ 1911 - 2006 كأسئلة أو صورة للحياة، في ثلاثيته هذه، أكثر مما يطرحه في أبعاد ايديولوجية أو على شكل أجوبة. يطرحه ربما كسؤال فلسفي وكموضوعة سيكولوجية، ولكن بصفة السؤال والموضوعة منتميين الى الحياة نفسها... لا الى صورة للحياة تحمّلها مثقف يعيش خارج تلك الحياة. وفي"الثلاثية"لا يأتي هذا على شكل صدفة، بل يبدو كجزء من مشروع طويل، مشروع ادبي طويل، صاغه مهندس عقلاني لا يفوته في الوقت نفسه ان يعيش روح بلده وروح الإنسان في بلده وروح تاريخه بكل عقلانية وحب وتفهم لا ننسينّ هنا ان محفوظ كان، فلسفياً، منتمياً الى ما يمكن تسميته اليسار الهيغلي. وهذا المشروع إذا كانت"الثلاثية"قد شكلت نقطة مركزية فيه، فإنه استبق قبلها واستكمل بعدها بأعمال عدة تراوحت بين القصة القصيرة والطويلة وبين الرواية، بين النص الحواري وبين النص السياسي، بين الرواية التاريخية والأدب الواقعي، في شكل خلق ذلك المتن الذي قد يصح اخيراً ان نقول ان من الأفضل والأروع أن يُقرأ سوية... لأن قراءته على هذا الشكل كفيلة بأن تعطيه قيمة مضافة، وتمكن من ان تستخلص منه على الأرجح، متناً فلسفياً متكاملاً، اضافة الى روعة بعده الفني والإنساني، قد يقول لنا ان نجيب محفوظ، ربما كان الفيلسوف العربي الوحيد الذي أنتجه القرن العشرون.