صرح أخيراً نائب وزير الخارجية الأميركي السابق، توماس بكرينغ، أن الأميركيين يجدون أنفسهم في هذه الحرب المدمرة في العراق"شركاء ولاعبين وضحايا"في آن واحد. لكن ما أغفله هذا المسؤول الأميركي السابق، هو أن تعدد الأدوار والمهمات في العراق يعد جزءاً كبيراً من الأزمة التي يعيشها العراق والتي لا تزال تحصد العديد من الضحايا يومياً. فالإدارة الأميركية هي جزء كبير من هذه المأساة التي ما تزال مستعصية على الحل، خصوصا أن أهداف جل الأطراف، من شركاء ولاعبين وضحايا، ما تزال متباينة، كما أنها لا تعكس طموح وآراء العديد من أفراد الشعب العراقي. ومع استفحال الأزمة واستمرار الخسائر الضخمة بين المدنيين، من قتل خارج القانون إلى عمليات تهجير قسرية للسكان، تزداد الهوة عمقا وتنعدم الثقة بين الأطراف العراقية وتختلط الأولويات. في هذا الجو المشحون جاء قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1770 الذي يسعى إلى توسيع دور الأممالمتحدة في العراق، ولإخراج العملية السياسية من حالة الجمود ومحاولة خلق مناخ مغاير يسمح بتدويل الأزمة السياسية والإنسانية التي يعيشها العراق اليوم، وربما هذا ما سيساعد على الخروج من هيمنة الإدارة الأميركية على القرار السياسي بالعراق. فالتدخل الأميركي اليوم أصبح سجينا لضغوط الرأي العام الأميركي الذي يعرف تراجعا قويا في تأييده للحرب، هذا بالإضافة إلى الجدل الدائر حول الانتخابات الرئاسية المقبلة، خصوصا مع استمرار الخسائر البشرية والمادية. فالإدارة الأميركية اليوم أسقطت من خطابها أي حديث عن الديموقراطية في العراق وأصبحت تلهث وراء مخرج مشرف لمغامرتها غير المحسوبة فيه، مدركة أن الأجندة السياسية لم تعد تسمح بالوقت الذي تتطلبه العمليات العسكرية. لكن إلى أي مدى يتيح قرار مجلس الأمن الأخير لبعثة الأممالمتحدةباالعراق، أن تلعب دوراً أكبر في مساعدة العراق على الخروج من هذا المأزق السياسي، خصوصا في ظل انعدام الأمن والاستقرار واستمرار العنف والدمار في أنحاء كثيرة من العراق؟ فالعملية السياسية تلقي بظلالها على الجانب الأمني. وتشكل الأزمة العراقية تحديا كبيرا لقواعد الأممالمتحدة حول الأمن وحقوق الإنسان والأزمة الإنسانية. فالأممالمتحدة تشكلت ل"حفظ السلم والأمن الدوليين"، وتحقيقا لهذه الغاية تتخذ التدابير المشتركة والفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم وإزالتها، والتصدي لأعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتحقيق"التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الإنسانية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً، والتشجيع على تحقيق ذلك بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ومن غير تفريق بين الرجال والنساء". كما تشكل هذه الأزمة كذلك تحديا كبيرا للمفوضية السامية لحقوق الإنسان والتي تملي عليها صلاحياتها العمل على حماية حقوق الإنسان والارتقاء بها في أي منطقة من العالم. ليس هناك اختلاف في أن القرار يوسع من صلاحيات بعثة الأممالمتحدة لمساعدة العراق ليلعب دورا في تشجيع ودعم الفرقاء العراقيين على الصلح وحثهم على البحث عن أرضية مشتركة تمكن العراق من الخروج من الأزمة الراهنة. كما أن القرار يفتح الباب أمام مبعوث الأمين العام في العراق للعب دور الوسيط في حل النزاعات الداخلية، بما فيها قضية كركوك المستعصية. وهذا الأمر لن يكون سهلا، خصوصا أن هناك من الأطراف العراقيين من يعتبر الأمر محسوما دستوريا، وبالتالي فما يمكن تداوله لا يجب أن يخرج عن النطاق الإجرائي لتفعيل المادة المنصوص عليها في الدستور. لكن وعلى رغم كل هذا فالقرار 1770 لا يخرج عن إطار وفلسفة القرارات السابقة، والتي كانت محدودة الصلاحيات ومنعدمة القوة. إن القرار سيرفع من دون شك من صورة الأممالمتحدة، وربما سيمهد نحو التقليص من قوة القرار والوجود الأميركي في العملية السياسية العراقية إقليمياً ودولياً. فالإدارة الأميركية أصبحت مدركة عدم إمكانية تحقيق الحسم بواسطة النصر العسكري. لكنها تحاول تحقيق استقرار، ولو نسبي، يسمح بتفعيل العملية السياسية. وربما كان تقسيم الصلاحيات بين الأممالمتحدة والإدارة الأميركية مناسبة لفتح المجال نحو إخراج العراق من الأزمة الراهنة عبر عمل البعثة الأممية لدعم العملية السياسية من خلال تشجيع الفرقاء العراقيين على المصالحة الوطنية. لكن محدودية قرار مجلس الأمن تجعل العملية السياسية برمتها متوقفة على مدى إرادة القوى السياسية العراقية في المصالحة، والعمل على تحديد أولويات تتفق عليها كل الأطياف العراقية، لتدبير هذا النزاع خارج دائرة العنف الذي يحصد الآلاف من الضحايا العراقيين. فالتحدي الكبير الذي تواجهه بعثة الأممالمتحدة يكمن في مدى رغبة الساسة العراقيين في التوافق على الحد الأدنى الذي يفتح المجال في المستقبل القريب امام وجود حل فعلي للأزمة السياسية والأمنية، ومدى مساعدة دول الجوار للعراق على تخطي هذه الأزمة التي طال أمدها، وموافقة الإدارة الأميركية على تمكين الأممالمتحدة من العمل باستقلالية ومن دون ضغوط. فالقرار 1770 لا يلزم أية جهة بأي شيء، وهذا ما يخلق الكثير من التردد حول جدواه. فالقرار غير ملزم لأي من الأطراف على احترام القانون الدولي والعمل على ترسيخ دولة الحق والقانون، عبر استقلالية القضاء العراقي والحد من النزاع الطائفي والعمل على مساءلة كل من يخرق القانون. كل ما يمكن أن نطمح إليه إذن هو أن يفتح هذا القرار المجال لقرارات أممية أخرى قوية وملزمة لكل الأطراف العراقية وغيرها، قرارات تمكن الأممالمتحدة من لعب دور قوي وفعال من أجل إعادة بناء عراق ديموقراطي، مع تقليص دور الولاياتالمتحدة، لخلق المناخ المناسب للدفع بدول الجوار إلى التعاطي مع الأزمة العراقية بما فيه مصلحة العراق والحفاظ على سيادته ووحدته الترابية. فمن دون تقليص الدور الأميركي، وتمكين الأممالمتحدة من لعب دور قوي لتدارك أخطاء الماضي، سيكون من الصعب علينا أن نتحدث عن الخروج من الأزمة العراقية. كما أن العراق اليوم في أمس الحاجة إلى حوار عراقي - عراقي حول أي عراق يطمح إليه العراقيون. * باحث مغربي