"لن ننسحب قبل إتمام المهمة"، عبارة كثر تردادها على لسان أكثر من مسؤول أميركي، وفي مقدمتهم الرئيس جورج بوش. ولكن ما هي هذه المهمة؟ المراقب للسياسات الأميركية منذ وضع مشروع"تحرير العراق"موضع التنفيذ، مروراً باحتلال العراق... حتّى اليوم، يلاحظ شكلين من أشكال المهمة: أحدهما معلن ينادي باستبدال الأنظمة الديكتاتورية بأخرى ديموقراطية تحترم الحريات وحقوق الإنسان، والآخر غير معلن، ويتلخص في تحقيق أمن إسرائيل بصورة مباشرة والسيطرة على الثروات النفطية، وتأمين خطوط نقل الطاقة العالمية، والقضاء على الإرهاب وفق المفهوم الأميركي. كان واضحاً تركيز الإدارة الأميركية في هذا الجانب على إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية في المنطقة، لإخراج الأنظمة والحركات المعادية لمصالح الولاياتالمتحدة وإسرائيل خارج معادلة الفعل. ويأتي احتلال العراق خطوة في هذا الاتجاه، وكذلك إعادة تشكيل سياسة أنظمة حكم أخرى بما يتفق مع ما تريده الولاياتالمتحدة أو تنادي به، كالإصلاح السياسي والحريات وحقوق الإنسان. وهذا لا يعني بالضرورة جدية مسعاها، فالمهم لديها هو ما تقدمه هذه الأنظمة من خدمات تصب بالتالي في خدمة الأهداف الأميركية الحيوية. يمكن أن يكون العراق منطلقاً لرسم شرق أوسط جديد، بحسب إرادة المحافظين الجدد في وضع حدود لكيانات سياسية وفق أسس يريدون اعتمادها كالدين والعرق والمذهب، انطلاقاً من نظرية عدم إمكان التعايش للمجتمعات المتباينة دينياً أو قومياً ضمن مكوناتها في حدود كيان سياسي واحد. وعليه، يمكن تلخيص الاستراتيجية الأميركيّة في المنطقة في تحقيق هيمنة عسكرية واقتصادية وأمنية وسياسية كاملة بالشراكة مع إسرائيل، ودفع الأنظمة جميعاً إلى الدوران في فلك السياسة الأميركيّة وخدمة أهدافها، أي جعلها تحت الوصاية الأميركيّة، إضافة إلى ضرب خيار مقاومة الاستراتيجيات الأميركيّة وفق مبدأ الحرب على الإرهاب. يمكن اعتبار الانتخابات النصفية التي أجريت في السابع من الشهر الحالي منعطفاً مهماً في سياسة الإدارة الأميركيّة في العراق، إذ شهدت خسارة الحزب الجمهوري للغالبية في مجلسي النواب والشيوخ، أي أنّ الرئيس الحالي الجمهوري سيمضي السنتين القادمتين في البيت الأبيض في ظل أقلية جمهورية، ووسط استياء شعبي أميركي وعالمي من سياسته في العراق. ضمن السياسات الاستراتيجية الأميركيّة، أدخل بوش سياسة"استراتيجية النصر"في العراق، وهي التي يؤخذ بها جدياً خارج الولاياتالمتحدة، خصوصاً أنّها سبقت الانتخابات النصفية بأسابيع قليلة. وهي في حقيقتها تستهدف إنقاذ شعبية بوش التي وصلت إلى أدنى مستوياتها في تاريخ البيت الأبيض، بسبب عدم وجود رؤية واضحة أو استراتيجية عسكرية وسياسية لإدارة عراق ما بعد الاحتلال إثر تدمير مؤسساته وبناه التحتية، ما أدى إلى فشله في إيجاد عراق قادر على الوقوف على قدميه ويحكم بأيدي شعبه، بل جعل من العراق ساحة صراع مفتوحة بين الولاياتالمتحدة والإرهاب. الأمر الذي جعل منه بؤرة انطلاق لمزيد من المجندين الجدد لتنظيم"القاعدة"حول العالم. ويبقى أنّ عدم الانسحاب من العراق خلال سنين قادمة هو الثابت الاستراتيجي الأساس للسياسة الأميركيّة في العراق، بذريعة الخشية من تحول العراق إلى ملاذ للإرهابيين والمتطرفين، أو وقوع العراق في أتون فوضى عارمة وحرب أهلية قد تهدد استقرار دول المنطقة. يخطئ من يرى خلافاً جوهرياً في الرؤية بين الجمهوريين والديموقراطيين حول الأهداف العليا للسياسة الأميركيّة في العراق والمنطقة. وما يطفو على السطح، يدخل في باب الحملات الانتخابية والمناقشة السياسية بين الحزبين للحصول على أكبر عدد من أصوات الناخبين في انتخابات الكونغرس الأخيرة. ولكن قد تشهد السياسة الأميركيّة في العراق تغييراً في الأساليب والآليات، أي في ما يعرف بالتكتيك، فيما تبقى الاستراتيجيات الأميركيّة من دون تغيير. ويمكن أن نشهد تغييرات في السياسات الأميركية، وليس في الأهداف، كالتالي: - اهتمام أكبر بدور المؤسسات الدوليّة، وفي مقدمها الأممالمتحدة التي ظلت خارج دائرة الفعل طيلة السنوات الست من حكم الرئيس بوش. - تقليص سياسة اللجوء إلى الحروب الاستباقية أو الوقائية. - تخفيف حدة الضغوط على سورية وإيران، في مقابل أن تلعبا دوراً ترى الولاياتالمتحدة قدرته على الدفع باتجاه الحدّ من الفوضى الأمنية في العراق. - إعطاء الحكومة العراقيّة الحالية أو التي ستخلفها مزيداً من الصلاحيات، خصوصاً في الملف الأمني للتخفيف من الخسائر التي تتكبدها القوات الأميركيّة لمنحها المزيد من حرية الحركة والمناورة باتجاه تحقيق الأهداف الحيوية العليا للولايات المتحدة. - احتمالات تقليص دعم الولاياتالمتحدة للحكومة العراقية الحالية، وتركها تواجه مصيرها بعدما أثبتت عدم قدرتها على الإيفاء بوعودها خلال الأشهر الستة الماضية بتحقيق الاستقرار، أحد أهم عوامل نجاح مشروع الاحتلال، واحتمال التفكير الجدي بحكومة بديلة خاصّة بعد الإعلان عن توصيات لجنة بيكر التي يعتقد اعتمادها مستقبلاً في إدارة الأزمة في العراق. - الاتجاه أكثر نحو الحل السياسي في العراق بعد اقتناع الإدارة الأميركيّة بفشل الحل العسكري، وهذا ما عبرت عنه جولات اللقاءات المستمرة مع أطراف من المقاومة العراقيّة وأطراف سياسية خارج العملية السياسية. - إعادة النظر في تحالفات الولاياتالمتحدة مع القوى العراقيّة، خصوصاً تلك التي تحالفت معها قبل الاحتلال وشاركتها مشروعها بعد الاحتلال. - إعطاء دور سياسي أكبر للعرب السنة في السلطة، في محاولة لاستمالة أطراف مقاومة يعتقد بأنّها تمارس عملها احتجاجاً على ما تراه تهميشاً لدورها في تشكيل مستقبل العراق. - العمل الجدي على حلّ الميليشيات كضرورة آنية ملحة من وجهة نظر كلا الحزبين الأميركيين. ويبقى أنّ مشروع الاحتلال فشل وفق كلّ المعايير على يد المقاومة العراقيّة، بدءاً من الخسائر البشرية المتصاعدة مروراً بارتفاع كلفة الحرب إلى مئات بلايين الدولارات، وانتهاء بالفشل السياسي وسقوط هيبة الولاياتالمتحدة. رائد الحامد - بريد إلكتروني.