بُح صوت المسؤولين العراقيين والأميركيين، وهم يعلنون من شرم الشيخ ان المؤتمرين اللذين عقدا قبل ايام كانا في غاية النجاح، وانهما استجابا لدعوات الحكومة العراقية في ان يظهر المجتمع الدولي دعما قوياً لها وللعملية السياسية التي تقودها منذ سقوط نظام صدام حسين. غير ان لا احد من الذين تابعوا عن كثب تصريحات المندوبين الآخرين وتمعنوا في وثائق المؤتمرين، بإمكانه ان يرى سبباً للتفاؤل، الذي اصر المسؤولون العراقيون على اشاعته في اجواء المؤتمر، والذي ربما عكسته اجواء المنتجع السياحي المصري، النقيض التام للمأساة العراقية. القراءة الاخرى لنتائج مؤتمري شرم الشيخ هي أنه لا جديد في الازمة العراقية، وان اما اضيف هو حزمة اخرى من الاوراق التي ستضاف الى ارشيف هذه المأساة التي لا تجد من يسعى إلى إنهائها. بالامكان وصف نتائج المؤتمرين بأنهما حملة علاقات عامة قامت بها الاطراف التي ساهمت في إيصال الوضع العراقي الى ما هو عليه وهي الادارة الأميركية والقوى العراقية والاطراف الاقليمية والمجتمع الدولي التي يتحمل كل منها قسطه الوافر من المسؤولية عن الكارثة العراقية. اذ مرة اخرى تستعرض هذه الاطراف براعتها في الانكار والتلاعب والانتهازية، من دون اي اعتبارات اخلاقية وسياسية للوضع الكارثي الذي يعيشه العراقيون، وللنتائج المريعة التي يمكن ان تنجر إليها المنطقة، اذا ما عجزت هذه الاطراف عن وضع حد لذلك. فالعهد الدولي للعراق والبيان الختامي لاجتماع دول الجوار العراقي، لم يكونا بصيغتيهما التلفيقيتين، الا مجرد وصفة عقيمة، من خلطة اعشاب بدائية، لعلاج حالة مرضية مستعصية وصلت، او في طريقها، الى غرفة الانعاش. تقوم صيغة الوثيقتين على اساس معادلة طرفاها الحكومة العراقية والمجتمع الدولي، ويلتزم كل منهما بالتزامات ومسؤوليات متبادلة يتعهدان بتطبيقها من دون جدول زمني واضح ومحدد ومن غير آلية واشراف حقيقي ومستقل. ففي الوقت الذي تتعهد فيه الحكومة العراقية بتنفيذ جملة اصلاحات دستورية وقانونية وسياسية لتوسيع المشاركة السياسية واعادة توزيع منصف للثروة، متزامنة مع انهاء حال الانفلات الامني، وبناء قوات مسلحة، ممثلة للجماعات العراقية كافة، مع تحديد أفق لانسحاب القوات الاجنبية، يتعهد المجتمع الدولي بمساعدة الحكومة على انجاز هذه الاهداف وتوفير الضمانات لإنجاح صيغة جديدة لعراق موحد وتعددي وديموقراطي وفيدرالي. واذا كانت الصفقة تبدو معقولة ومنطقية فإن الاشتراطات التي رافقتها تبدو وكأنها وضعت خصيصاً لعرقلة انجازها، او على اقل تقدير، ادراكا من كلا الطرفين لصعوبة انجازها. ترتكز الصفقة على مبدأ تعهد الدول المشاركة بمساعدة"الحكومة العراقية المنتخبة ديموقراطياً على تنفيذ ما ألزمت نفسها به أمام المجتمع الدولي"وهذه عبارة تقوم في حد ذاتها على تناقض فاضح. فإذا كانت الحكومة العراقية الحالية منتخبة ديموقراطياً، وانها ماضية في إجراء الاصلاحات المطلوبة، فلماذا التدخل في شأنها الداخلي وفرض شروط واملاءات عليها؟ واذا كان جل الامر يتعلق بمساعدة الحكومة في ان تنفذ ما ألزمت هي نفسها به، فما هي الشرعية التي سيسوغ بها المجتمع الدولي لنفسه التدخل في شأن حكومة منتخبة ديموقراطيا؟ وما هي الآلية التي سيلجأ إليها في تنفيذ تدخله؟ هذه قضية سياسية وقانونية جوهرية لا ينبغي ان تطمسها صياغات ديبلوماسية ووعود خلابة، تثبت الوقائع على الارض العراقية، والصراع الاقليمي الشرس الجاري في المنطقة، والمأزق الأميركي في العراق، انها في حاجة لأكثر من الكلمات المنمقة المعادة والمستهلكة التي اطلقت في شرم الشيخ لحلها. واذا كان للنصوص روح، فإن القراءات الحقيقية للوثيقتين وللخطابات التي دوت في قاعة المؤتمرين، والتصريحات التي اطلقت على الهامش، والمناقشات التي جرت خلف الكواليس، تكشف ان النيات المبيتة هي غير تلك التي وضعت فيهما، ما يؤهل للتشكيك في امكان ان تساهما في ايجاد حل للمأزق العراقي المتعمق. من المؤسف ان يصل المؤتمران الى هذه النتيجة، وهي نتيجة جاءت محصلة للارباك الذي يسم الطريقة التي تدير بها الادارة الأميركية سياستها في العراق في مسعاها للعثور على مخرج يساعدها على الهروب من الورطة التي تجد نفسها فيها، من جهة، ومن جهة ثانية، لعجز القوى العراقية المتصارعة عن الوصول وحدها الى حل وطني مرضٍ، ومن جهة ثالثة، الى نيات الاطراف الاقليمية في استغلال الوضع العراقي لتحقيق مكاسب سياسية وامنية واستراتيجية لها. ومع ذلك فإن الوثيقتين الصادرتين عن المؤتمرين تنطويان على عناصر يمكن البناء عليها في ايجاد الحل المبتغى للمأزق العراقي، بغض النظر عن نيات الاطراف الموقعة عليهما ونيتها في التعامل مع ما تعهدت به. اولها اقرار الحكومة العراقية الضمني، بأن العملية السياسية الجارية وصلت الى طريق مسدود وان الاستناد الى شرعية الانتخابات التي جاءت بها الى السلطة لم يعد كافياً وان هناك حاجة لعملية سياسية جديدة. ثانياً، اقرار الادارة الأميركية بأن انفرادها في العمل في العراق من دون تأييد ودعم المجموعة الدولية هو أمر لا يمكن الاستمرار عليه، اذا ما كانت راغبة في الخروج، بأقل خسائر ممكنة. ثالثاً، اقرار الاطراف الاقليمية بأن الوضع العراقي يشكل خطورة وتهديدا لسلامتها وامنها ولاستقرار المنطقة، وان عليها العمل لمنع اي تدهور ممكن. ورابعاً، اقرار المجموعة الدولية بأن عليها مسؤولية تضامنية في مساعدة العراقيين للخروج من محنتهم وعدم التخلي عنهم وتركهم عرضة للمخاطر الجسيمة التي لا بد ان تترك اثارها الوخيمة على العالم برمته. من الضروري استغلال هذه العناصر بهدف تحويل الوثيقتين الى جهد حقيقي والانتقال فورا الى برنامج عمل دولي بناء وجسور يتخطى الحواجز والالغام التي جاءت فيهما والتي من المؤكد انها ستقيد اي تحرك فعال اذا لم يتم التغلب عليها. الخطوة الاولى في هذا المجال تتمثل في الذهاب فوراً الى مجلس الامن الدولي وتحويل التعهدات التي وردت في الوثيقتين الى قرارات دولية ملزمة على ان يتبعها تشكيل مجموعة اتصال دولية تشرف على تنفيذ التعهدات وفي مقدمها إلزام الاطراف العراقية بالتوصل خلال فترة محددة الى عقد سياسي وطني متفق عليه. اما الخطوة الثانية فهي ضرورة السعي الى تشكيل نظام أمن عراقي جديد بتعاون دولي يحل محل قوات الاحتلال ويأخذ على عاتقه توفير قاعدة الامن والاستقرار اللازمة لتحقيق العقد السياسي. ويأتي بعد ذلك الاتفاق العاجل على تشكيل منظومة امنية اقليمية جديدة تلتزم بموجبها دول الاقليم، ومن ضمنها العراق، على دعم الاحتياجات الامنية بين بعضها بعضاً، بالشكل الذي لا يخل بالخيارات السياسية والاجتماعية الوطنية للدول الاعضاء. هناك قواعد في القانون الدولي، وفي قرارات مجلس الامن بشأن العراق، وعلى رأسها القرار 1546 الذي اشارت إليه الوثيقتان، والتي من الممكن ان تشكل الحجة الشرعية لمثل هذا الجهد، ولا اشك بأن من بين من شارك في اعداد الوثيقتين من كان موقناً بأنه من خلال الصياغات فإنه يضع اللبنة الاولى لمثل هذا التحرك الدولي والاقليمي في مرحلة لاحقة بعد استنفاد كل الوسائل الحالية للخروج من المأزق العراقي. وفي الواقع فإنه يمكن المحاججة منذ الآن بأن الاطراف الموقعة على العهد الدولي، وعلى رأسها الاممالمتحدة، اضحت ملزمة باللجوء الى الشرعية الدولية، التي تتيح لها التدخل باسم التصدي للتهديدات التي يمثلها الوضع العراقي للسلم والامن الدوليين، وباسم حماية حقوق الانسان، وضمان نزاهة الحكم ورشادته، بأن تعمل بجدية لإنهاء الازمة العراقية قبل استفحالها الى حرب اهلية وصراعات اقليمية. في شرم الشيخ تجلت حقيقتان ساطعتان، اولاهما صعوبة، او حتى استحالة، توصل القوى العراقية لوحدها الى الشراكة الحقيقية المطلوبة التي تدعو إليها الوثيقتان، وثانيتهما هيمنة الصراعات الاقليمية الاخرى ورغبة القوى المتصارعة في استخدام القضية العراقية ورقة في المساومات وكسب النقاط على حساب بعضها بعضاً، من ناحية، وتصفية الحسابات بينها وبين الولاياتالمتحدة من الناحية الاخرى. ان ما يجمع بين هاتين الحقيقتين هو ليس فقط انعدام قوة الدفع الذاتي، عراقياً واقليمياً، للوصول الى الحل، بل وايضا ارتباط وتشابك وتعقد البعدين العراقي الداخلي مع الاقليمي، ما يتطلب اللجوء الى التدويل كوسيلة لتحفيز قوة الدفع وتفكيك التشابك بين العراقي والاقليمي وفق آليات الشرعية الدولية المتوفرة. من العناصر البناءة الاخرى في وثيقة العهد الدولي هو انها وضعت اطارا زمنيا لتنفيذ بنودها، الا ان خمسة اعوام هي فترة طويلة في ظل تسارع التدهور في العراق، وفي ظل الاحتمالات التي ينطوي عليها اشتداد حدة الصراعات في المنطقة. ما يبدو مطلوباً هو الانتقال فورا الى الآليات الدولية التي عليها الشروع في وضع برنامج تنفيذي لجدول اعمال صارم يشمل عناصر القضية العراقية كافة ابتداء من المصالحة والشراكة وانهاء الاحتلال، وانتهاء بوضع اسس اعادة بناء الدولة العراقية. ومن غير ذلك فلن تكون وثائق شرم الشيخ سوى هوامش اخرى ستضاف الى سجل الازمة العراقية التي اصبحت مشرعة الآن على اكثر الاحتمالات سوءا ومأساوية. * كاتب عراقي