يعتبر فيلم "الساموراي السبعة" لأكيرا كوروساوا، عادة، أشهر أفلام هذا المخرج الياباني الكبير، حتى وإن كانت اطلالته الأولى خارج بلاده، سنة 1955، في مهرجان البندقية الدولي، من خلال فيلم "راشومون". ومع هذا لا بد من القول هنا ان لا"الساموراي السبعة"ولا"راشومون"هما فيلما كوروساوا الأكثر شعبية وانتشاراً، بل حتى محاكاة في بلدان أخرى. فهذه الصفات تنطبق في الواقع على فيلم آخر لهذا المخرج الذي يلقب، عادة، ب"الامبراطور". وهذا الفيلم هو"يوجمبو"وتعني في العربية الحارس الشخصي. أو هذا، على الأقل، الاسم الذي عرف به هذا الفيلم في كل مكان عرض فيه منذ ظهر للمرة الأولى سنة 1961. وحسبنا هنا أن نذكر فيلمين فقط من الأفلام غير اليابانية التي اقتبست موضوعها من"يوجمبو"حتى نجد تبريراً لما تؤكده: الفيلم الأول هو"من أجل حفنة من الدولارات"للإيطالي سيرجيو ليوني، الذي افتتح أواسط ستينات القرن الفائت سلسلة ما يسمى بپ"سباغيتي وسترن"، أي أفلام رعاة البقر على الطريقة الايطالية، والفيلم الثاني هو"آخر الرجال الصامدين"، الذي أطلق شهرة بروس ويليس منذ العام 1996، كبطل يمكنه فعل شيء آخر غير الاستعانة بعضلاته. صحيح أن توشيرو ميفوتي بطل فيلم كوروساوا، وصديقه ونجمه الدائم والذي لعب الدور ببراعة مذهلة بدا أيضاً ذا عضلات... لكن الفيلم ركز على فكره ونظراته أكثر. وعلى رغم كل ما نشير اليه هنا، لا بد من التأكيد أن"يوجمبو"فيلم فريد من نوعه، لا يجاريه في فرادته سوى الفيلم الآخر، الذي يعتبر استكمالاً له، والذي حققه كوروساوا نفسه بعده بعام وعنوانه"سانجورو". كذلك لا بد من الإشارة الى أن"يوجمبو"وعلى رغم طغيان المناخ الياباني القديم عليه ودورانه حول حياة نوع معين من الساموراي هو الروتين، اعتبر في الوقت نفسه تحية من كوروساوا، الى السينما والأدب الغربيين اللذين لم يخف أبداً اغتذاءه منهما. وحسبنا للدلالة على هذا أن نذكر بمدى التشابه العميق بين عالم هذا الفيلم وعالم سينما جون فورد، والأكثر من هذا، التشابه الصارخ بين حبكة وأجواء رواية راشيل هاميت"الحصاد الأحمر"وأجواء وحبكة"يوجمبو"من دون أن ننسى أن أكثر من عشرة مخرجين في تاريخ السينما العالمية، حاولوا دائماً اقتباس"الحصاد الأحمر"في فيلم سينمائي. اذاً هي في نهاية الأمر لعبة تبادلية، لعل في امكانها أن تكشف مرة أخرى عالمية الابداع... بل حتى قدرة الابداع مهما كان محلياً على أن يكون عالمياً، وقدرة الابداع العالمي على أن يتأقلم حتى مع أكثر البيئات انغلاقاً على تاريخها وتقاليد أصالتها. نقول هذا ونحن نفكر بكم أن"يوجمبو"وتاليه"سانجورو"فيلمان محليان ينبعان من التربة اليابانية. وهل ثمة ما هو أكثر محلية، في اليابان، من حكاية روتين، أي ساموراي مرتزق، يدور في المناطق ويجول أملاً في أن يجد من يستأجر قوته ومهاراته القتالية ليخوض الصراعات عنه؟ ان هذه هي مهنته الشخصية المحورية في"يوجمبو". فهو مقاتل بالأجرة لا سيد له ولا موطن محدداً. بل حتى هو لا اسم له، تماماً كما ستكون حال الشخصية التي سيلعبها كلنت ايستوود في"من أجل حفنة من الدولارات"أو التي كانت واحدة من شخصيات عدة في أفلام سيرجيو ليوني تتميز بافتقارها الى اسم. اما الاسم الذي يعرف به البطل في"يوجمبو"فيعني في العربية"ثلاثيني"- ما يدل على سنوات عمره لا أكثر -. سانجورو وهو اللقب الذي ينادى به البطل، يصل اذاً، الى منطقة يابانية نائية من دون أن يخفي منذ البداية أنه مجرد بضاعة، قوة عمل للأجرة. وعلى هذا النحو لن يسيئه أبداً، أن يجد في تلك المنطقة جماعتين تتناحران بقوة متكافئة، وتحتاج كل منهما الى أي دعم خارجي كي تحاول الانتصار على الأخرى. وهذا الدعم يتمثل في"سانجورو"، الذي يحاول أن يستفيد من المزاد المقام من حوله حتى يرفع من سعره، واعداً من يدفع بانتصار سريع. وللتأكيد على هذا، يكون واحد من المشاهد الأولى في الفيلم مشهد معركة يخوضها البطل ضد مجموعة من رجال يتألبون ضده. وهو لا يجد أية مشقة في الانتصار عليهم، بما يشبه ضربة السيف القاضية... ما يؤكد قوته ويبرره أجره. غير أن ما يجب قوله هنا هو أن هذا المشهد القتالي سيكون واحداً من مشاهد مماثلة نادرة في الفيلم. اذ على رغم أننا هنا أمام فيلم صراع وحركة كما يلوح منذ البداية -، فإن الصراع والحركة في الفيلم نادران. الأكثر حضوراً هو المشاهد التأملية. لحظات الانتظار، بل خصوصاً أيضاً لحظات المساومة والمناورة من حول المهمة ومن حول الأجر، بين البطل ومندوبي كل من الجماعتين... هذه المشاهد هي الأكثر حضوراً، وهي تبدو في بعض لحظاتها شديدة الطرافة حتى وإن كانت تخلق مقداراً كبيراً من توتر يطغى على الفيلم ويعطيه نكهته، اضافة الى مشاهد عدة أخرى أبرز ما فيها مناورات الكواليس والمؤامرات التي يحاول كل فريق أن يدبرها ازاء الفريق الآخر. كما يحاول الفريقان تدبيرها ضد سانجورو. ولعل هذا البعد وهو أساسي في الفيلم هو الذي جعل الناقد انطوان ثيرون يقول في مقال عن الفيلم نشره في مجلة"كراسات السينما"، إن كثراً نظروا الى"يوجمبو"ثم الى تابعه"سانجورو"على انهما فيلمان يتحدثان مواربة عن الحرب الباردة. ولعل ما يعطي تحليل هذا الناقد الفرنسي جزءاً أساسياً من منطقيته هو الحبكة الاجمالية التي ترينا في القسم الأول من الفيلم - البطل وهو يزور كلاً من الجماعتين مفاصلاً ومجادلاً محاولاً الحصول على سعر أعلى لخدماته المطلوبة. وهذا إذ لا يصل لدى الطرفين الى السعر الذي كان حدده لنفسه، يستنكف عن مواصلة السعي ويبقي نفسه على الحياد مراقباً المعركة التي تدور رحاها أمام ناظريه لتنتهي في جولتها تلك، بالتعادل. فالواضح أن قوى الجماعتين متعادلة، وانه هو دون غيره من في امكانه أن يكون القوة الفاصلة. وتلك الجولة لن تكون طبعاً الوحيدة، اذ تتلوها جولات عدة لا نراها في أغلب الأحيان إلا من وجهة نظر البطل، حيث ترصد الكاميرا ردود فعله المترقبة حيناً، الساخرة أحياناً، والمعبرة عن ادراكه ان الأمور في حاجة الى تدخله، فإن لم يتدخل، لن يحدث أي شيء حاسم. والحال أن رصد الكاميرا لمتابعة البطل لما يحدث وردود فعله عليه، هو أجمل وأقوى ما في هذا الفيلم. بل لعله المكان الوحيد الذي يبدو في الفيلم حاملاً لتلك الرسالة السياسية المرتبطة كما أشرنا بالحرب الباردة وتكافؤ القوى بين القوتين العظميين المتصارعتين، ومن دون أن نصل في النهاية الى محاولة لترميز شخصية البطل الذي لن يتدخل ولن يحسم، ما يعني أنه هنا من التعادل بين فريقين، ان ظل الصراع دائماً بينهما سيبقى ملهاة لهما تبعدهما من ايذاء الآخرين، فإن انتصر فريق على آخر، قد يرتد على قوى لا دخل لها، أصلاً، في الصراع فيكون عليها هي أن تدفع ثمنه. وبهذا يمكن الافتراض ان سانجورو لعب دور المنقذ، ليس لإحدى الجماعتين، بل للأبرياء الآخرين، ولو من دون ارادته ولو في شكل سلبيّ!. غير ان هذا كله سيظل تفسيراً ايديولوجياً يخرج حتى وان كان صائباً - عن سياق الفيلم كما ترويه لنا كاميرا كوروساوا الواعية والذكية. حين حقق أكيرا كوروساوا 1910 - 1998 فيلم"يوجمبو"ليتبعه بپ"سانجورو"، كان في حوالى الخمسين من عمره، وكان نحو عقدين من الزمن قد مضيا منذ تحول الى الاخراج السينمائي بعد سنوات أولى خاض فيها شتى أنواع المهن السينمائية من تقنية وفنية ما قاده الى العمل كمساعد مخرج وكاتب سيناريو وأعده كي يكون لاحقاً، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين واحداً من كبار صانعي الفن السابع في العالم، حتى وإن ظل هامشياً في بلاده متهماً بالنظر صوب الغرب وأدبه وتقاليده. ولم تكن التهمة ظالمة اذ نعرف ان كوروساوا، استقى مواضيع أفلامه الكبرى من شكسبير وغوركي ودوستويفسكي، كما تأثر بالسينما الهوليوودية الضخمة التي عاد وأثر بها بدوره. وقد عرف كوروساوا على نطاق عالمي واسع منذ سنة 1955، ونال عشرات الجوائز العالمية الكبرى، بما فيها أوسكار عن مجمل أعماله، سنة 1990. ومن أشهر أفلام كوروساوا، الى ما ذكرنا"درسو أوزالا"وپ"فضيحة"وپ"لست مستعداً بعد"وپ"أحلام"وپ"ايكيرو"وپ"الأبله"وپ"عرش الدم"وپ"ذو اللحية الحمراء"وپ"كاغيموشا"وپ"ران"من بين أفلامه الأخيرة.