كانت سوماير، التي تعني "بنفسج" باليابانية، تكافح كي تصبح كاتبة، ومهما قدمت الحياة لها من خيارات كانت تريد أن تصبح كاتبة وحسب. قرار ثابت كصخرة جبل طارق، لا يمكن لشيء أن يحول بينها وبين إيمانها بالأدب. بعد تخرجها من مدرسة ثانوية حكومية في مقاطعة كاناغاوا، التحقت بالقسم الأدبي في كلية خاصة صغيرة في طوكيو. وجدت الكلية مكاناً عديم الصلة بالحياة، تعوزه الحماسة ويفتقر الى الروح. نفرت منها ورأت أن زملاءها من الطلاب أخشى أنني أحدهم مملون ومن الدرجة الثانية. لذا لم يكن غريباً أن تحزم أمرها بكل بساطة وتغادر في سنتها الأولى. توصلت الى قناعة أن بقاءها هناك إضاعة للوقت. أعتقد بأن هذا تصرف سليم، لكن إذا سمح لي بتعميم غير مبتكر، أليس هناك مكان أيضاً للأشياء التافهة في هذا العالم البعيد عن الكمال؟ إذا تم التخلص من كل الأشياء التافهة في الحياة غير المثالية، قد تفقد الحياة حتى عدم كمالها. كانت سوماير رومانسية ميؤوساً منها، متمسكة بأنماط معيشتها - بريئة في طرق حياتها، إذا أردنا وصفها بشكل لطيف. حين تشرع في الحديث لا تتوقف، لكن إذا كانت مع شخص لا تنسجم معه - أي بعبارة أخرى، معظم سكان الأرض - لا تفتح فمها إلا في ما ندر. تدخن كثيراً ويمكن أن تراهن أنها تضيّع بطاقتها كلما ركبت في القطار. تستغرق في أفكارها أحياناً فتنسى تناول الطعام. كانت نحيلة مثل أحد أيتام الحرب في الأفلام الإيطالية - كعصا بعينين. أود أن أريكم صورة لها غير أنني لا أملك واحدة. كانت تكره أن تلتقط صوراً لها، ولا ترغب في ترك"صورة الفنان في شبابها"للأجيال المقبلة. إذا توافرت صورة لسوماير آنذاك، أعلم أنها ستكون سجلاً قيِّماً حول كيف لبعض الناس أن يكونوا متفردين. أخلط ترتيب الأحداث. المرأة التي أحبتها سوماير كان اسمها ميو. على الأقل هكذا كانت تسمى من قبل الجميع، ولا أعرف اسمها الحقيقي، ما أدى الى حدوث مشاكل في أوقات لاحقة، لكننني استبق الأحداث مرة أخرى. كانت ميو كورية الجنسية، وإن لم تكن تعرف كلمة من اللغة الكورية حتى قررت دراستها عندما كانت في منتصف العشرينات. ولدت ونشأت في اليابان ودرست في أكاديمية موسيقية في فرنسا، لذا علاوة على اليابانية، كانت تتحدث الفرنسية والانكليزية بطلاقة. كانت حسنة الهندام أنيقة دوماً وزينتها باهظة الثمن ومتواضعة وتقود عربة جاكوار زرقاء نيلية ب12 أسطوانة. تحدثت ثوماير في أول لقاء لها مع ميو عن روايات جاك كيرواك. كانت سوماير مغرمة بكيرواك الى حد الهوس. وكل شهر يكون لديها معبود أدبي، حدث أن كان في ذلك الشهر كيرواك الذي لم يعد شائعاً كموضة. كانت تحمل نسخة بالية من رواية"على الطريق"أو"الرحالة الوحيد"في جيب معطفها وتتصفح الكتاب كلما سنحت لها الفرصة، وتضع، كلما صادفت بعض السطور التي تعجبها، خطاً بقلم رصاص تحتها لحفظها كما لو كانت من كتاب مقدس. كانت أسطرها المفضلة من أحد فصول"الرحالة الوحيد". حيث يصف كيرواك كيف قضى ثلاثة شهور وحيداً في كوخ على قمة جبل شاهق كمراقب للحرائق. أحبت سوماير هذه الأسطر بشكل خاص:"لا ينبغي للمرء أن يعيش من دون أن يمر بالتجربة الصحية للعيش في البراري حتى لو في وحدة مملة، حيث يجد نفسه معتمداً على نفسه فقط، وبذلك يتعرف على قوته الخفية والحقيقية". قالت:"ألا تحب ذلك؟ أن تقف كل يوم على قمة جبل وتدور 360 درجة لترى إن كانت هناك حرائق؟ وهكذا ينتهي عملك في ذلك النهار. في ما تبقى من اليوم يمكنك أن تقرأ وتكتب وتفعل كل ما تريد. في الليل تحوم الدببة الضخمة حول كوخك. هذه هي الحياة! مقارنة ذلك بدراسة الأدب في الكلية يشبه قضم الطرف المر من خيارة". قلت:"حسناً، لكن المشكلة أنه عليك الهبوط من ذلك الجبل يوماً". كالعادة لم تزعجها آرائي العملية الرتيبة المملة. أرادت سوماير أن تكون كشخصية في إحدى روايات كيرواك حروناً، هادئة ومنغمسة في الملذات. تقف بيديها في جيوب معطفها. شعرها غير مصفف، تحدق من دون تركيز في السماء عبر نظارة ديزي جيليسبي بإطار بلاستيك أسود، تضعها مع أن بصرها 20 على 20. كانت ترتدي دوماً معطفاً سميكاً واسعاً جداً اشترته من محل ملابس مستعملة وتنتعل حذاء ضخماً وخشناً. ولو كان باستطاعتها إطلاق لحية، فأنا متأكد أنها كانت ستفعل. لم تكن سوماير جميلة حقاً. وجنتاها غائرتان وفمها واسع الى حد ما. أنفها يميل الى الصغر ومرتفع، ووجهها معبّر تتحلى بروح فكاهة، مع انها لا تضحك بصوت مرتفع إلا في ما ندر. كانت قصيرة. وتتكلم، حتى عندما تكون في مزاج جيد، كما لو أنها على بعد خطوة من الدخول في شجار. لم أشاهدها يوماً تضع أحمر شفاه أو ترسم جفنيها بقلم، وليس عندي شك في أنها لم تعرف أن حمالات الصدر تباع بقياسات مختلفة. مع ذلك كانت سوماير تتصف بشيء خاص، شيء يجذب الناس اليها. تحديد ذلك الشيء ليس سهلاً، لكن حين تحدق في عينيها، يمكنك دوماً العثور عليه منعكساً في الأعماق. يمكنني القول أيضاً انني كنت أحب سوماير، انجذبت إليها من المرة الأولى التي تبادلنا فيها الحديث معاً، ولم يعد هناك مجال للتراجع. بقيت لمدة طويلة الشيء الوحيد الذي في إمكاني التفكير فيه. حاولت أن أخبرها عن مشاعري، لكن المشاعر والكلمات والمناسبة لم يمكنهما التلاقي. لعل ذلك كان أفضل، لو تمكنت من إبلاغها بمشاعري، ربما كانت ستسخر مني... دعني أعود الى كيف تقابلت سوماير مع ميو. كانت ميو قد سمعت بجاك كيرواك ولديها فكرة غائمة عن كونه روائياً من نوع ما. أي نوع من الروائيين، لم يكن بوسعها أن تذكر."كيرواك... الم يكن سبوتنيك؟". لم تستطع سوماير فهم ما عنت، حرّكت السكين والشوكة في شكل متوازٍ في الهواء وفكرت"سبوتنيك؟ تعني أول مركبة فضائية أطلقها الاتحاد السوفياتي في الخمسينات؟ جاك كيرواك كان روائياً أميركياً. أعتقد بأنهما يتوافقان في الجيل...". "أليس هكذا كانوا يسمّون الكتّاب في ذلك الزمان؟"سألت ميو. "سبوتنيك...؟". "اسم حركة أدبية. كما تعلمين ? كيف يصنفون الكتاب في مدارس متعددة. مثل شيغا نأويا في مدرسة التأديب البيضاء". أخيراً اتضح الأمر لسوماير."بيتنيك!". لمست ميو زاوية فمها بخفة بمنديل المائدة."بيتنيك - سبوتنيك. لا أستطيع البتة أن أذكر هذا النوع من الاصطلاحات. إنها مثل عودة كينمون أو معاهدة رابالو. تاريخ قديم". خيم عليهما صمت لطيف، مذكراً بانسياب الزمن. سألت سوماير:"معاهدة رابالو؟". ابتسمت ميو. ابتسامة حنين حميمة ككنز قديم أخرج من آخر دُرْج. أغمضت عينيها قليلاً بطريقة فاتنة تماماً. مدت يدها، وبأناملها الطويلة النحيلة بعثرت بلطف شعر سوماير الأشعث أصلاً. كانت إيماءة مفاجئة طبيعية لم تستطع سوماير الرد عليها إلا بابتسامة. منذ ذلك اليوم، صار الاسم الخاص الذي أطلقته سوماير على ميو، سبوتنيك الحبيبة. أحبت وَقْع ذلك الاسم، وجعلها تفكر في لايكا، الكلبة. مركبة فضائية من صنع الإنسان تندفع سريعة في شكل متواصل من دون صوت في عتمة الفضاء الخارجي، وعينا الكلبة السوداء اللامعتان تحدقان من الكوة الصغيرة، في وحشة الفضاء اللامتناهية، والذي يمكن للايكا أن تنظر إليه؟ جرى حديث سبوتنيك في حفل زفاف ابنة عم سوماير في فندق ممتاز في أكاساكا. لم تكن سوماير على صلة قريبة بها، في الواقع لم تكونا على وفاق. كانت تتعذب من حضور مثل هذه المناسبات، لكن لم يكن بوسعها عدم حضور هذه الحفلة. كانت تجلس بجانب ميو. لم تتحدث ميو عن التفاصيل لكن بدا أنها كانت تدرِّس ابنة عم سوماير عزف البيانو عندما كانت تؤدي امتحان دخول قسم الموسيقى في الجامعة. من الواضح انها لم تكن علاقة طويلة أو حميمة، لكن ميو شعرت بأن من واجبها الحضور. ولدت سوماير في شيغاساكي. كان بيتها قريباً من البحر، ونشأت مع الصوت الهادر للريح المشبعة بالرمل التي تعصف بنوافذ بيتها. كان والدها يدير عيادة أسنان في يوكوهاما. وكان وسيماً للغاية، ويذكّر أنفه الجميل بغريغوري بيك في فيلم"المسحور". لم ترث سوماير ذلك الأنف الجميل، ولا ورثه أخوها أيضاً، كما قالت. وجدت من المدهش أن الجينات التي أنتجت ذلك الأنف قد اختفت. إذا دفنت الى الأبد عميقاً في أوقيانوس السمات الجينية، فإن العالم مكان كئيب. كان والد سوماير في منطقة يوكوهاما شخصية شبه أسطورية بالنسبة الى نساء كانت أسنانهن بحاجة الى عناية. كان يرتدي دوماً في حجرة العمليات قبعة جراحة وقناعاً كبيراً، لذا ما كان المريض يراه منه ليس أكثر من عينين وأذنين. مع ذلك، كانت جاذبيته جلية. يخرج أنفه الرجولي الجميل من تحت القناع فتحمر وجوه الإناث خجلاً. في لحظة - ومن دون اعتبار ما إن كن يقدرن على تغطية التكاليف - يصبحن أسيرات حبه. توفيت والدتها جراء مرض قلب لازمها منذ الولادة، في سن الحادية والثلاثين. لم تكن سوماير بلغت الثالثة بعد. الذكرى الوحيدة لها كانت غائمة وهي لرائحة بشرتها. بقيت صورتان لها فقط - واحدة التقطت في زفافها، وأخرى بعد ولادة سوماير مباشرة. كانت سوماير تأخذ ألبوم الصور وتحدق في الصورتين. كانت والدة سوماير - لنقل ذلك بلطف - شخصية قابلة للنسيان تماماً. شعر قصير أشعث. ملابس تجعلك تعجب ماذا كانت تفكر عندما ارتدتها، وابتسامة قلقة. لو خطت خطوة واحدة الى الخلف، لذابت في الحائط في الحال. صممت سوماير على طبع وجه أمها في ذاكرتها، فقد تراها يوماً في أحلامها. تتصافحان وتتبادلان حديثاً لطيفاً. غير أن الأمور لم تكن بهذه البساطة. حاولت أن تتذكر وجه أمها، لكنه سرعان ما خبا. لننسَ الأحلام ? لو صادفت سوماير أمها في شارع في وضح النهار، لما عرفتها. نادراً ما تكلم والد سوماير عن زوجته الراحلة. نبدأ بالقول إنه لم يكن ثرثاراً، وفي كل مناحي الحياة لم يتكلم قط عن مشاعره كما لو كانت وباء فم أراد تجنبه. لا تذكر سوماير أنها سألت والدها يوماً عن أمها المتوفاة. باستثناء مرة، عندما كانت صغيرة، سألته لسبب ما"كيف كانت أمي؟"تذكر ذلك الحوار جيداً. نظر والدها بعيداً وفكر لحظة قبل أن يجيب:"كانت جيدة في تذكّر الأشياء. وكان خط يدها جميلاً". * مقاطع من رواية تحمل العنوان نفسه وتصدر ترجمتها العربية قريباً عن المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء