قدّم روي متحدة بين عامي 1983-1985 كتابه "بردة النبي : الدين والسياسية في إيران" ترجمة وتعليق رضوان السيد، دار المداد، بيروت 2007 صورة مفصلة لمسار المجتمع والشخصية الإيرانية المعاصرة المزامنة لعصر الثورة الإسلامية، وكان لمعرفته بالكلاسيكيات الإسلامية فضل كبير في إنجاز مثل هذا العمل الذي عدّ من أهم المعارف البحثية عن إيران في عقد الثمانينات الماضية، وتم ترجمة الكتاب إلى اللغات الألمانية والدنماركية والتركية والعربية، وفي معرض تقويم مجلة"فورن أفيرز"لعام 2000 للنشر الغربي، اعتبر هذا الكتاب واحداً من خمسة وسبعين كتاباً هي الأفضل، مما صدر بالإنكليزية عن العوالم غير الغربية في القرن العشرين. شكل الامتزاج الخصب بين الثقافتين العربية والإيرانية المنهل الذي صهرت في بوتقته الثقافة الكلاسيكية للعالم الإسلامي في العصور الوسطى والحديثة، وهذا الامتزاج ما زال يشكل المكون الرئيس لرجال الدين في إيران والعالم العربي والتركي. ولأن جهاز الدين يضرب بجذوره عميقاً في تلك الثقافات ويتبادل معها التأثير والتأثر، فإن هذا الكتاب عبر الشخصية الرئيسة التي يدور حولها، وهي شخصية"علي هاشمي"تحول إلى دراسة عميقة للشخصية الإيرانية وتحولاتها البنائية. يقدم روي متحدة وهو الأستاذ المميز في جامعة هارفرد ومدير برنامج الوليد بن طلال للدراسات الإسلامية سيرة معمقة، وإن جاز التعبير، فهي"سيرة جوانية"لبنية الثقافة والمجتمع الإيراني في محاولة لقراءة جادة حول ترسيمات المجتمع الإيراني. في أواخر ربيع عام 1978 بدأ تعلق روي متحدة بأنباء التظاهر والاحتجاج في إيران والتي أدت في النهاية إلى اندلاع الثورة بعد عام من ذلك التاريخ الذي لا يمكن فصله عن أزمنة التاريخ الإيراني الحديث، وما جرى فيه في آخر قرنين من اختبار للأخلاقيات الدينية لجهاز العلماء. في العام 1978 كانت حوزة قم المقدسة تحتضن"الملالي"وآيات الله العظام، فيما كان الزعماء الدينيون يقودون الاحتجاج الذي تحول خلال فترة وجيزة من صرخة غاضبة أطلقها طلبة المدارس الدينية في قم إلى حركة عارمة بَلت الأمة الإيرانية كلها. كوّن العلماء الذين حصلوا على قسط وافر من تعلم النحو والمنطق والبلاغة قوة لا يستهان بها في مجتمع الدولة القومية التي أنشأها الشاه إسماعيل الصفوي وفرض عليها المذهب الشيعي منذ العقد الأول للقرن السادس عشر، وكان على الطالب أن يترقى في تراتبية الحوزات وأن يحضر الدروس في نظام تعليمي ضيق وغير مفتوح ويتميز بالصرامة، ولكي يطل القارئ غير الإيراني على تاريخ الثقافة الإيرانية، اختار روي متحدة أن يقدم لنا سيرة علي هاشمي في ضوء محاورات ترد بين الفقرات، ترمي إلى أن يتقدم من خلالها المؤلف نحو قراءة تفضيلية لتاريخ الثقافة الإيرانية، إضافة إلى كونها تنطبق على حياة الشخصية الإيرانية الرئيسة، فهي تستند إلى قراءة مصادر التاريخ الأولية، كما تروي حياة علي هاشمي بموازاة حياة جيل من الأصدقاء من ذوي العمائم. وسيرة علي هاشمي المختارة هنا تتغير وتتبدل، ويمكن القارئ الإيراني أن يجد اختلافاً مذهلاً في مسار الشخصية على نحو مغاير لما طبع شكل الصورة النمطية لرجل الدين الإيراني. لذا، فإن هذا الكتاب بحسب مؤلفه هو"حكاية الدين والدور الحاسم في حياة المجتمع الإيراني". تبدأ حكاية علي هاشمي يوم 19 شباط من عام 1979، حين كان يسمع في المذياع عن اشتباكات تدور في طهران. حدث ذلك في الوقت الذي كانت قم تحوي أبناء العائلات الشريفة المنخرطة في سلك النظام التعليمي الدقيق المحكم، ولم يكن أشراف قم وسادتها على دراية بأمر الاضطرابات التي بدأت في طهران، ولم يكن يعني لهم الكثير أن الجيش انسحب من ثكناته. وأن جمهور الثوار يتحركون باتجاه جادة"كاخ"بغية الاستيلاء على مكتب، رئيس حكومة الشاه. بعد ذلك مضى المذياع يبث مقاطع موسيقية مدة ساعتين ونصف الساعة، ثم صمت فجأة ولم يمض وقت طويل حتى خرج صوت عميق لرجل دين من المذياع قال:"هذا صوت الأمة الإيرانية الحقيقي. لقد انتهى نظام آل بهلوي المأسوي وقامت حكومة إسلامية بزعامة آية الله الخميني". يمضي الكتاب في سرد لبيئة مدينة قم التي تعتبر مدينة شديدة الغرابة وشديدة الألفة بالنسبة الى آلاف المتدينين، وفي المقابل كان المثقف العلماني يرى أن التعليم الشيعي التقليدي قد اختار مكاناً له في مدينة الموتى، إذ اعتبر وجود ستة آلاف تلميذ أو ما يقارب ذلك العدد من الطلبة الذين كرسوا حياتهم للعلم كمثل حال الثياب التي يرتديها الملالي، وكحال المناخ في قم نفسها. وفي أجواء قم المقدسة تمضي ذاكرة علي هاشمي في فحص أجواء الحياة والسكن والأسعار وحياة البازار في المدينة. وهنا يتذكر الإيرانيون الفترات التي أغلق فيها بازار طهران أبوابه وهي إشارة إلى أكثر اللحظات صخباً في تاريخ إيران خلال القرنين الأخيرين من التاريخ الإيراني، ففي كانون الأول 1905 أقدم حاكم طهران على معاقبة اثنين من بائعي السكر عقاباً تضمن الفلق على أقدامهما، والفلق هو نوع من العقاب الذي يمارس في إيران ويبدو مكروهاً أكثر من غيره، كان عقاب بائعي السكر لأنهما لم يخففا الأسعار كما أمر المحافظ. يومها أغلق البازار وبذلك انتشرت القلاقل وتم التعبير علناً عن عدم رضا الناس عن حكم القاجار وتصاعد التململ في المزارات والمدن. في صيف عام 1960 أعلنت حكومة طهران نتائج الانتخابات النيابية التي أجريت نظرياً، بحسب الدستور المعلن عام 1906 خلال الثورة الإيرانية الأولى، لم تكن نزيهة بل كانت مثقلة بالتزوير وكان موسم الإعلان مواتياً أن تلك الانتخابات كانت مزورة وأهانت الدستور، ويومها أقفل البازار من جديد، وألغيت الانتخابات. ظل البازار في إيران دوماً مجالاً للخطاب العام، في حين اعتبر المسجد دائماً الحيز الوحيد الذي يمكن فيه التعبير علناً عن الرأي الشخصي. كان البازار وسيلة لإبراز النقاشات غير الرسمية، أما المسجد فهو مساحة للرأي بجانب الصلاة. في أعقاب انتصار الثورة التي جاءت بعد 190 عاماً على الثورة الفرنسية انتهى مجتمع إيران إلى نظرة أحادية لا تقبل بأي آخر مختلف، بمعنى آخر كانت ثورة فرنسا من أجل الحرية والإخاء والمساواة وكانت ثورة"ملالي"إيران من اجل تكريس الفقيه الولي حاكماً باسم الله. عقب طلب الحكومة الإيرانية من البرلمان عام 1964 أن يعطي المستشارين والديبلوماسيين الأميركيين الحصانة الديبلوماسية، نظر البعض إلى أن هذا القانون يشبه إلى حد بعيد نظام الامتيازات القديم، لذا اعتلى الخميني منصة الوعظ وبدأ يقول:"هل تعلم الأمة الإيرانية بما حدث في الأيام الأخيرة في الجمعية الوطنية؟ وهل تعلم أن الحكومة وقعت على وثيقة استعباد؟ لقد اعترفت بأن إيران مستعمرة وأعطت أميركا وثيقة تشهد على أن أمة الإسلام بربرية.... وأنا ازعم أن هذا التصويت المخزي الذي قام به المجلس مناقض للإسلام ولا شرعية له...". وزعت هذه الخطبة في إيران على الكاسيت وبمنشورات مطبوعة في السر، واعقبها نفي الخميني إلى تركيا ولم يحدث هياج شعبي، وبعد عام وصل إلى النجف وسط استقبال حافل، وصار الرجل من أعظم المجتهدين، كان ذلك بداية عصر التفوق والصعود لإمام جديد سيحدث أعظم الأثر في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. غير أن ثمة فرقاً بين الحكومة الإسلامية والحكم الملكي الدستوري، فبينما يملك ممثلو الشعب أو الملك السلطة الكاملة في الملكية، فإن السلطة التشريعية في ظل الحكومة الإسلامية في يد المرشد الأعلى. بعد مرور عقود على ثورة الملالي يشعر الإيرانيون، اليوم، بالفارق الكبير بين جيل الثورة الدستورية 1905-1909 الذين نافحوا ضد الاستبداد الملكي وبين مآل الحاضر الإيراني الذي انتهى إلى نظام ثيوقراطي متشدد، تظهر فيه أحياناً مساحات من الحرية والاختيار، لكن الإمام الولي هو النائب عن الله في معادلة الحكم. وهذا ما يعيد اليوم أسئلة الصراع بين المحافظين القدامى والجدد في إيران وبين المجددين المنفتحين الإصلاحيين الذين أدركوا أن الثورة تواجهه استحقاقات جديدة. في مقابل هذا كانت رؤية الملالي لوجود غالبية برلمانية مؤيدة للمرشد الأعلى أمراً مهماً. * أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة فيلادلفيا الأردنية