جاء في العهد المنسوب لأردشير بن بابك 228 - 241 مؤسس الدولة الساسانية: "... اعلموا انه لن يجتمع رئيس في الدين مُسر، ورئيس في المُلك معلن في مملكة واحدة قط إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في المُلك" لأن الدين أُسّ، والمُلك عماد، وصاحب الرأس أولى بجميع البُنيان من صاحب العِماد...". لا يستشهد روي متحدة مؤلف كتاب "بُرْدة النبي: الدين والسياسة في ايران، منشورات المشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة 2003، بمقولة أردشير هذه، مع أن منطق كتابه يؤدي اليها. ويرجع ذلك لأمرين اثنين: أولهما أن من يتأمل ايران عشية الثورة الدستورية 1905، وحتى ثورة الشاه البيضاء 1962 - 1963، لا يتوقع أن يبزغَ للمؤسسة الدينية دورٌ جديدٌ أو متجدد في القرن العشرين. والأمر الثاني أن هذا الكتاب مؤلف بين عامي 1983 و1985، وهي سنوات شديدة الخطورة والدلالة على معنى الثورة الجديدة آنذاك، واحتمالات المستقبل، استناداً للداخل الإيراني، كما استناداً لأجواء المحيط القريب والبعيد: هجوم صدام حسين على ايران، واتجاه الولاياتالمتحدة للانتصار في حربها الباردة على الاتحاد السوفياتي المتهالك. يبدأ روي متحدة قص مصائر ايران في القرن العشرين في حبكة روائية خادعة على لسان أحد كهول السادة من رجال الدين اسمه في الكتاب: علي هاشمي، في العام 1978، عام بزوغ الثورة الإسلامية، وانكسار الشاه وعهده. والسيد هاشمي من أسرة من رجال الدين القميين، وقد تابع تعليمه الديني لسنوات طوال في مدرسة الفيضية، مدرسة الحوزة الرئيسية منذ استقرّ فيها آية الله بروجردي، وكبر فيها المراجع الآخرون، الذين أحب هاشمي من بينهم على الخصوص آية الله مرعشي نجفي، أحد السبعة لكبار بعد وفاة بروجردي عام 1961. يصف متحدة على لسان هاشمي حياة أُسرة عن السادة بقم، وكيف تنشئ أبناءها سواء عملوا في السوق، أم ضمن سلاسل النخبة الدينية، كما يصف ترابط مصائر تلك الأُسر بمصائر المجتمع الإيراني الحديث، الذي شهد في عقود القرن العشرين تطوراتٍ ثوريةً ليس بسبب الثورة النفطية الهائلة فقط، بل وبسبب التطورات السياسية والثقافية بإيران الموصولة بشكلٍ وثيقٍ بالمشهد العالمي، لموقعها الجيواستراتيجي الحسّاس على كتف الاتحاد السوفياتي، وعلى الخليج، وبين تركيا والعالم العربي التاريخي. هناك عنايةٌ فائقةٌ من جانب المؤلّف بالتربية التقليدية لرجل الدين بإيران، وفي قم بالذات. فقم، البلدة ذات الطبيعة الصحراوية، تدين بوجودها لمزار السيدة المعصومة أخت الإمام الثامن علي الرضا من جهة، ولصيرورتها بيئة رئيسية للعلم الديني الشيعي، منذ استقرّ بها في القرنين التاسع عشر والعشرين مجتهدون كبار أتوا من النجف وكربلاء، وطوروا مع تطور الدولة القومية الايرانية وجوداً شبه مستقل عن الأصل النجفي وعن السلطة السياسية. قوة التعليم الديني الشيعي آتيةٌ من وجوه عدة: أنه بعكس التعليم الديني السني ما تعرس لتغييرات وتدخلات سلطوية اصلاحية أو غير اصلاحية، ولهذا لا تزال "كلاسيكيته" مصدراً من مصادر سلطته وجاذبيته، ومن أساب ضعفه في الوقت نفسه. وأنه ذو صلاحيات مرجعية واسعة لدى الجماعة الشيعية الإثني عشرية في ايران والعالم، بسبب تقاليد "التقليد" الذي بمقتضاه يكون على الشيعي المتدين أن يقلّد في عباداته ومعاملاته أحد الأئمة الأحياء. وانه، أي رجل الدين الشيعي، يملك - وبخلاف رجل الدين السني أيضاً وأيضاً - "سلطةً" أو ولايةً، ناجمة عن غيبة الإمام الثاني عشر، ووكالة الأئمة المراجع عنه في ادارة شؤون الطائفة لحين ظهوره. وهي الولاية التي تنازع حول حدودها رجال الدين أنفسهم، بل والسلطات المتعاقبة منذ الصفويين أول أسرة مالكة شيعية حكمت كامل ايران وجوارها، وفرضت المذهب، الى ان تبلورت في الولاية الكاملة أو المطلقة للفقيه التي مثّلها الإمام الخميني، واستطاع استخدامها في ضرب ايران الشاهنشاهية. استند رضا شاه وابنه محمد في اقامة الدولة الإيرانية المعاصرة الى اللعب على أوتار: الحداثة والنظام في مواجهة الفوضى التي أعقبت الثورة الدستورية، وتدخل روسيا وانكلترا في كل صغيرة وكبيرة بالبلاد - وعلى القومية الايرانية التاريخية والحديثة في مواجهة الإسلامية المحافظة لرجال الدين رستم في مواجهة الحسين، وعلى الوقوف الى جانب الولاياتالمتحدة، وبالاعتماد على حمايتها، في مواجهة الاتحاد السوفياتي، في الحرب الباردة. وما بدأ التحديث التربوي والتنظيمي بإيران بالأسرة الشاهنشاهية طبعاً، بل تعود تجارب التحديث ومحاولاته الى أواسط القرن التاسع عشر، وان لم تكن هناك مبادرة مصممة مثلما حدث في مصر في عصر أسرة محمد علي، وفي ما بين محمد علي واسماعيل حفيده 1805 - 1879. والمؤلف يعرض نماذج للمثقفين الايرانيين التحديثيين الذين عملوا مع الدولة أو عارضوها من مثل عيسى صديق منشئ التعليم الايراني الحديث، وكسروي، المثقف الثوري الذي هجر لباس رجل الدين وثقافته بالاستناد الى المترجمات الى العربية من العلوم الحديثة، وصادق هدايت، الروائي المتفرنس والذي انتهى به الأمر الى الانتحار. بيد أنّ النموذج الأبرز للمثقف ولرجل السياسة والدولة بإيران القرن العشرين كان ولا شك محمد مصدَّق، الذي تعود أصوله للأسرة القاجارية التي حكمت ايران منذ أواخر القرن السابع عشر وحتى العام 1923. لكن مصدّق الذي حصل على الدكتوراه في القانون من سويسرا عن "الفقه الشيعي"، تجاوز أصوله الملكية، لمصلحة نموذجٍ حديث ديموقراطي لدولة قومية معاصرة. وفي برلمان العام 1924 كان هو والشيخ حسن مدرّس، الوحيدين اللذين عارضا انتخاب الجنرال رضا شاه ليكون ملكاً على ايران. وما نجح رضا شاه في سحقه أو تهميشه، ثم عاد للصعود في السياسة الوطنية بعد تنحية الشاه عام 1941 من جانب الحلفاء، الى ان صار بالتحالف مع اليساريين من حزب توده، وبعض تقدميي رجال الدين، رئيساً للوزراء، وانتهى به الأمر معزولاً ومطارداً بعد انقلاب العام 1953 الذي خذله فيه رجال الدين، ونفذته لمصلحة الشاه محمد رضا الاستخبارات المركزية الأميركية. تصور محمد مصدّق إمكان قيام دولة وطنية ديموقراطية بإيران، التشيع المحدَّث دينها القومي الموحد. وما كان ذلك بالقطع تصور رجال الدين، الذين عرف منهم مصدَّق اصلاحيي الثورة الدستورية 1905 - 1907 مثل النائيني وخراساني كما عرف منهم الفقهاء المراجع الذين عارضوا الثورة والدستور آية الله نوري أو آثروا الوقوف على الحياد، مع تقديم لاعتبارات المحافظة والاستقرار مثل حائري وبروجردي. بيد ان الروح القومية العميقة بإيران، والتي تعيش على شاهنامة الفردوسي، وأشعار حافظ وسعدي الشيرازيين، ليس بالضروري أن تتناقض مع الملحمية الإسلامية لجلال الحسين، وعرفانية السهروردي ومولان جلال الدين الرومي. وفي رجل الدين الإيراني، الوكيل أو النائب الحاضر عن الإمام الغائب، تتلاقى خيوط عدة تختلف في الأهمية، لكنها تشكل بمجموعها هذه الشخصية الغنية. والغنى هذا، كما سبق القول تبلور تاريخياً في الحيرة الموقتة بعد الغيبة، ثم بروز الفقهاء الشيعة في عصر البويهيين بشيراز وبغداد والري بجوار طهران، وصولاً الى تأسيس أبي جعفر الطوسي للحوزة بالنجف في القرن الحادي عشر الميلادي. وما شارك الفقهاء والعرفانيون في الصراع على شخصية ايران، التي عادت للظهور مع سقوط الخلافة العباسية على يد هولاكو المغولي عام 1258م، وقيام الدولة الايلخانية على أرض ايران زمين شرق الفرات. فقد ظلت ايرانوالعراق كياناً واحداً لحين نشوب الصراع العثماني - الصفوي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كما ظلت مراكز العلم الشيعي تتمحور حول النجف وكربلاء، من دون أن يعني ذلك اعراضاً من جانب العلماء عن الاستقرار بشيراز وكرمان ومشهد وقم. ويمكن القول ان الشخصية الدينية الشيعية مرت بمرحلتين أساسيتين، ما أدى بدء الثانية منهما الى تضاؤل الأولى أو غروبها: مرحلة تأسيس سلطة الفقيه أو ولايته وصولاً الى انتصار الأصوليين على الأخباريين في القرن الثاني عشر. ومرحلة مواجهة الفقيه لتحدي ظهور دولة التشيع السياسي لدعم المشروع شبه القومي دينياً، ولمواجهة العثمانيين السنة. وقد ثبتت المرحلة الأولى سلطة الفقيه بدواعي الضرورة الغيبة والمصلحة حفظ التشيع بالتمايز عن السنة لاهوتاً وأصولاً، بينما وضعت المرحلة الثانية الفقيه أمام أحد خيارين: أن تستوعبه الدولة وتستخدمه لأدلجة وجودها كما فعل العثمانيون مع فقهاء السنّة، أو يستولي عليها هو كما نجح في ذلك الخميني، من دون أن تنتهي المشكلة. وقد حاول الفقيه تجنب تجرع الكأس الحلوة الاستكانة أو المرّة الاستيلاء لأكثر من قرنين، بالحياد أو الخضوع الجزئي، أو الاعتصام بالنجف. لكن خلال الحقبة الاشكالية تلك سابع عشر - تاسع عشر تطورت تقاليد للعلم وللدعوة وللمرجعية، وظهرت تراتبية، ونشأت مشهديات، زادت من احتمالات الاحتكاك، دونما قدرة على الوصول لتسوية تاريخية، اذا صح التعبير. والواقع ان شعائريات المشهد الحسيني، وعقائديات الغيبة، تفتح المجال لتقسيم للعمل بين الفقيه ورجل الدولة، لا يتيحه توحد المجال او ضيقه او لاشعائريته، لدى اهل السنّة والجماعة. كان بالوسع ان يبقى الفقيه الشيعي حارساً للمقدس، بينما يدبر السلطان شؤون الجماعة. لكن الحداثة، في ما يبدو، انتهكت فيما انتهكت الفواصل بين المجالين، وتعرضت للمقدس او انها استثارته، بحيث كان على الفقيه ان يشارك في السلطة او يستولي عليها ليستخدمها في صون المقدس وحفظه او منع انتهاكه، فيما يحسب. والطريف انه، كما لم يكن الفقيه الشيعي هو الذي انشأ الدولة بسبب الغيبة، لم يكن هو الذي استخدم الدولة لصون الحرمات في البداية. فجمال الدين الافغاني، الشخصية الغامضة، والقليلة الاحتفال بالمقدس وشعائرياته، هو الذي رجا الإمام الشيرازي تلميذ الانصاري وخليفته في المرجعية ان يتدخل من النجف لمنع ناصر الدين من اعطاء احتكار التبغ لشركة بريطانية. وأول الغيث قطر ثم ينهمر. فصحيح ان الثورة الدستورية قسمت رجال الدين، وفضحت عدم خبرتهم في السياسة. وصحيح ان رضا شاه وابنه حاولا قطع الشجرة من جذورها بالتحديث الجارف الذي قاداه، وفي خطوات تذكر بمصطفى كمال اتاتورك. لكن الفقيه كان قد وعى قدرته على التأثير في الشأن العام، كما انه عرف ان التحدي تحدي وجود، فتحققت نبوءة اردشير في ان الصراع بين رجل الدين ورجل الدولة، يؤدي الى انتصار رجل الدين. كان مثقف التحول، اذا صح التعبير، هو الكاتب والروائي الكبير جلال آل أحمد. وهو يتحدر من اسرة دينية، دخل الحزب الشيوعي لفترة قصيرة اواخر الاربعينات، وكان من اعضاء مصدّق، وظل طوال حياته بعيداً من هوى الشاه، وهوى رجال الدين. لكن العاصفة التحديثية التي نزلت بايران، اضافة للاذلال الذي تعرضت له الاحاسيس القومية على يد الولاياتالمتحدة، ذلك كله دفعه لنشر رسالة صغيرة عام 1963 بعنوان: الاوروماتية، او صدمة الغرب ترجمت الرسالة بالمجلس الاعلى للثقافة بمصر بعنوان: الابتلاء بالغرب. يعلن آل أحمد في الاوروماتية فشل التحديث، بتحول ايران الى كشكول من الفلاحين الريفيين الضائعين، وسكان مستقرات الصفيح على هوامش المدن الايرانية، وخريجي المعاهد والجامعات العاطلين من العمل، والكومبرادورات الذين يتنعمون هم والاسرة الشاهنشاهية بالفتات الذي تتركه لهم الشركات العالمية. وما كانت ايران كذلك قطعاً في الستينات. لكن الحرب الباردة اشتدت على أثر الازمة الكوبية، فاتجه الحزب الشيوعي القوي حزب توده لمواجهة النظام، واستطاع التجار وكبار الملاكين تصفية ثورة الشاه البيضاء بسرعة، وتحفز رجال الدين العميون للمعارضة والانقضاض بعد وفاة آية الله بروجردي المسالم. اختلف الفقهاء المراجع مع الشاه من اجل ولائه الشديد للولايات المتحدة، ومن اجل اعترافه باسرائىل، ومن اجل مصادرة الاوقاف في الثورة البيضاء، ومن اجل سياساته في تحرير المرأة، ومن اجل برامجه التسلحية المكلفة مع الإهمال الشديد للفقراء. وما كانوا رواداً في المعارضة هذه، بل كان اليساريون هم الذين يقودون المعارضة. لكن رجال الدين ركزوا على القضايا الرمزية التي تجتذب الجمهور، وركزوا على الانتهاك الامبراطوري لحرمات الاسلام. ومع ان احداً لم يبرز بعد بروجردي كمرجع تقليد، فإن خُطَب الخميني النارية ضد الشاه في المناسبات الشعائرية جعلته قائداً لرجال الدين الشباب، وشخصية معروفة على المستوى الوطني. وقد حظي من خارج رجال الدين باعجاب امثال جلال آل أحمد. وقد سجنه الشاه عام 1963، ثم ابعده بعد احداث وتجاذبات الى تركيا، فوصل للعراق والنجف عام 1965 حيث اقبل عليه مئات من الطلبة الآتين من ايران خصيصاً لسماعه. ما شهد الفكر الفقهي الشيعي احيائية بالقوة التي شهدها الفكر السني على يد جماعة الاخوان المسلمين، والحركات الشابة. فقد تصدى الاحيائيون السنة لتقاليد المذاهب بحجة عجزها وسدها لباب الاجتهاد، واتجهوا لمواجهة حكومات الدولة الوطنية، في خروج مشهود على التبعية المعروفة من جانب العلماء السنة باستثناء الصوفية للدولة والسلطان. وعرف كثير من تلامذة البروجردي والخميني وغيرهما فكر الاخوان. بل ان التأثر بالاخوان يعود لمرحلة اقدم، إذ ان نواب صفوي مؤسس حركة "فدائيان اسلام"، جاء الى القاهرة، والتقى بالاخوان في مطلع الخمسينات. وقد سلك مسلكهم في اغتيال بعض الشخصيات التي اعتبرها خارجة على الدين. ويقال ان بعض المراجع كانوا يشجعونه سراً في حركته هو وفلسفي ضد البهائية. وعلى اي حال، فقد اخبرني رفسنجاني وخامنئي عام 1997 انهما كانا مشغولين ما بين 1965 و1970 بترجمة بعض مؤلفات سيد قطب الى الفارسية. والمعروف ان السيد محمد باقر الصدر، مؤسس حزب الدعوة العراقي، كان متأثراً ايضاً بالاخوان المسلمين فكراً وممارسة. لكن في حين ضُربت مرجعية المؤسسة التقليدية السنية على يد الاخوان والحركات الاخرى، بقيت المؤسسة التقليدية الشيعية قوية، على رغم التحديات التي تعرضت لها، لأن بعض المراجع - مثل الخميني - تزعموا المعارضة، فغطى ذلك على اختلافاتهم الكبيرة مع الفكر الاصلاحي الإسلامي، الذي كان يحمله بعض تلامذة الخميني ايضاً مثل طالقاني ومطهري. وفي النجف، كتب الخميني رسالته في ولاية الفقيه او الحكومة الاسلامية، وهي تستند الى المباني الفقهية الجعفرية، ولا تظهر اي تأثر بالاصلاحيين او الاصوليين: الفقيه في حال الغيبة يملك ولاية كاملة ومطلقة في سائر الشؤون، باعتباره نائب الإمام. لا بد من اقامة الدولة التي يقودها الفقيه وتطبق الشريعة، وتزيل الطغاة، وتواجه مؤامرات القوى الخارجية على الإسلام. وما جرى بعد ذلك معروف. فقد كانت احتفالات الشاه عام 1975 بمرور ألفين وخمسمئة عام بحسب زعمه على الشاهنشاهية الامبراطورية، سبباً لهجمة اخرى من جانب الخميني وغيره على الشاه، والدعوة الصريحة لاسقاطه. وقد اندلعت تظاهرات من جانب حزبيين يساريين او من جانب عمال في مصفاة عبادان. وعندما تزايد عدد القتلى، اندفعت الجماهير الى الشارع، وصارت قم مركزاً للتظاهرات، فاستلم رجال الدين زمام القيادة. وأفضت راديكالية الموقف الى تنحية المعتدلين من امثال شريعتمداري لمصلحة المندفعين من تلامذة الخميني، الذي اكتسحت اشرطة خطاباته التحريضية البيوت والاسواق. وصار الصراع صراعاً بين الحسين والشمر، وبين رستم والشاه، وبين الخميني والشاه. وصارت نتائج المعركة محسومة. صدر كتاب روي متحدة في طبعته الاولى عام 1986. ثم جاءت الطبعة الثالثة عام 2000. وفي ما بين الاولى والثالثة تغيرت امور كثيرة في ايران ومن حولها. بيد ان متحدة الايراني الاصل، والنيويوركي المولد، وأستاذ التاريخ الإسلامي الحالي بجامعة هارفرد ما عدل كثيراً في كتابه. فقد رأى من جهة انه كتاب في الشخصية التاريخية لايران، كما رأى من جهة اخرى انه يمكن للاصلاح والانفتاح ان يتحققا من الداخل، وفي عمليات الصراع شبه الديموقراطي. لقد وضع آماله كلها - وهو المتشبع بالثقافة الفارسية الكلاسيكية - في الاصلاح الخاتمي، وما حسب حساب تمسك اهل البردة والجبة والقفطان بالسلطة بهذه الطريقة. وقد قمت بترجمة هذا الكتاب الثري عن الشخصية الايرانية، وشخصية رجل الدين ومصادر قوته، خلال النصف الثاني من التسعينات. وعاونني في الترجمة الاستاذ ابراهيم العريس، والاستاذ ميشال كيلو، والمرحوم الدكتور محيي الدين صبحي. وعندما التقيت بالمؤلف بمصر اخيراً للاحتفاء بظهور الكتاب، بعد ان بادر استاذنا الدكتور جابر عصفور امين المجلس الاعلى للثقافة الى نشره في المشروع القومي للترجمة، بدا الاستاذ متحدة اقل تفاؤلاً، وبخاصة بعد احتلال العراق، والتركيز على اثارة الصراع بين النجف وقم. وقد رأى ان المشكلة لن تكون بين النجف وقم، بل بين المجتمع الايراني والطبقة الدينية الحاكمة. وهناك من وجهة نظره امل في الحركية المشهودة لرجال الدين الشبان والكهول باتجاه التجديد والانفتاح والنهوض. لكن الضغوط الاميركية القوية المباشرة على ايران، او من جهة العراق، ستعطل قدرات التغيير وامكاناته، اذ ان الايرانيين أمة تتسم بالكبرياء القومي الشديد، ولن تقبل الخضوع لاملاءات الاميركيين: كيف يحدث التغيير الضروري إذاً؟ الاستاذ متحدة يؤثر ألاّ يجيب على ذلك بصراحة، بل يشير الى خاتمة كتابه، وهي خاتمة شديدة المحافظة في نظر احدى الناقدات في احتفالية الكتاب بالقاهرة. في خاتمة الكتاب يروي المؤلف اثراً شيعياً يقول: "اهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تركها ضلَّ وهلك". * كاتب لبناني.