منذ استقلال جمهوريتهم، نادراً ما غاب "الاستحقاق" عن حياة اللبنانيين وأزماتهم وحروبهم، لذلك كان "الإنقاذ" رديفاً دائماً. اليوم موسم استحقاق رئاسي وإنقاذ، مهلته حتى 23 تشرين الثاني نوفمبر. بديهي ان المرحلة استثنائية، ولكن، متى لم تكن كذلك منذ الاستقلال؟... في وطن استثنائي معظم رؤسائه انتخبوا للإنقاذ، ولم يصلوا إلى نهايات عهودهم إلا وأصبح أكثر إلحاحاً. اليوم يتضخم الاستثنائي بامتياز، فالكيان مجدداً على حافة الإلغاء والاندثار. لكل قوة سياسية ناخبة أو مؤثرة خط أحمر، كل لبناني ينتظر الدخان الأبيض، لعل السواد يكون لزوم التأزيم، ورفع حرارة المعركة، فتعلو في مراتب السياسة. لكن لبنان 2007 لا يشبهه في أي"استحقاق"سابق: حرب الشرعي واللاشرعي بين الحكومة الصامدة والمعارضة الراغبة في إسقاطها ولو طوعاً، ولو قبل أيام من نهاية عمرها، لتدفيعها ثمن ما سمي تواطؤاً مع المشروع الأميركي في المنطقة والبلد. هناك ايضاً قلب بيروت الصامد في صمته، في قلب تداعيات زلزال اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، ومسلسل التصفيات الأخرى... ومحاكمة القتلة. وساطات ومساع ونيات خيّرة وأخرى يُطعَن بها ما ان تعبر الحدود إلى البلد الصغير الذي يشغل العواصم الكبرى بخصوصيته وتنوعه... ذاك التنوع النعمة الذي تحوّل لدى بعضهم نقمة، فازدادت الشكوك بحقيقة الأهداف البعيدة لكل ما حيك للبنان منذ الزلزال وما مهد له. وتلك مجرد عناوين تبسيطية لواقع أزمات معقدة في"البلد الأصعب في العالم"، وطالما 2007 واستحقاقه لا يشبه سواه، يصبح الإنقاذ هذه المرة معجزة، في ظل استقطاب إقليمي - دولي متصاعد، معه يتضخم القلق من استنفاد مناعة لبنان وقدرته على تحمل تبعات التجاذب والتنافر بين الجوار والكبار. بعيداً من مظاهر الزلزال وتداعياته وارتداداته، لا بد من التساؤل عما اذا كانت للجمهورية الصغيرة يوماً القدرة على إنتاج مناعة"وطنية"، تغني البلد عن طلب وساطات الخارج، خصوصاً لصد أطماع الخارج. فالتاريخ يُثبت ان الميثاق الاستقلالي الأول لم يسهّل منفرداً مخارج من أزمات الداخل، فيما اتفاق الطائف على محك عاصفة الاستقطاب الإقليمي - الدولي، واللبنانيون يتوهمون مناعة كبرى في التراشق على محاور الاستقطاب ذاته... بانتظار الدخان الأبيض أو"كلمة السر"الآتية من الصديق أو الحليف. هنا تحديداً، يقاد لبنان الى قلب العاصفة، لأن تلك الكلمة ليست واحدة، والأرجح انها لن تكون، فيما يجتهد الساسة - وبعضهم لا تنطبق عليه هذه التسمية - في ابتداع معادلات أو مقايضات"خجولة"لا تلبث ان تنهار سريعاً، تحت وطأة الصراع الإقليمي. لذلك لا ينجر اللبنانيون الى الرهان على طروحات الأطراف المتخاصمين في الداخل، حين يتذكرون ان الحل دائماً كان بتوافق خارجي، والمصيبة في الاستحقاق الرئاسي المقبل ان هذا التوافق نفسه بات أشبه بمعجزة، خصوصاً ان كابوس خيار غزة الثانية لم يتبدد، وأن صمود النظام السياسي اللبناني بات معلقاً على نتائج صراعات قوى كبرى، أكبر بكثير من قدرته على تحمّل تبعاتها. ولا تخفي السجالات حول تلازم حكومة الوحدة وانتخابات الرئاسة، والتلويح بقبول المعارضة حكومة عسكرية، في حال تعذّر التوافق مع الموالاة، انعكاسات تلك الصراعات. بين نماذجها مثلاً تساؤل النائب سمير فرنجية:"هل نستطيع ان نتعهد ان نحمي حزب الله من أميركا، ونحمي 14 آذار من سورية؟"، في إطار إعلان نيات لتسهيل التوافق الداخلي. أما النموذج المستجد الأكثر"بلاغة"في التعبير عن الاحتمالات الصعبة لاحتدام الصراع في الخارج، فيجسده تهديد الحزب بإجراءات في مواجهة رئيس جديد"يأتي به الأميركيون موظفاً لديهم أو عبداً". مَن ينتخب الرئيس إذاً؟ سؤال لم يعد اللبنانيون"العاديون"يطرحونه، وقلة تتذكر استثناءات انتخاب في ظل أزمة تشل الجمهورية الصغيرة، أو حرب أو ورطة كبرى، مثل البحث عن حصة معدلة لطائفة ما. وقلة تذكر كم مرة لم يعدّل فيها الدستور لتسهيل انتخاب أو تمديد، أو تستهجن ما ترِك من دور للبرلمان، بعد إحصاء الناخبين في الخارج. استحقاق 2007 لا يشبه سواه، لأن"رئيس الإنقاذ"قد لا يأتي هذه المرة، ولو بتعديل المواقف. فنظام الطوائف و"ديموقراطيتها"لم يعد قادراً على تجديد مناعته، خصوصاً بعد إصرار مديد على منع تطبيق اتفاق الطائف، وإبقاء لبنان رهينة، بانتظار التسويات الكبرى.