كان في الخمسينات والستينات من القرن العشرين نجم السينما التركية الجماهيرية والشعبية من دون منازع. صحيح انه وصل الى النجومية بالصدفة، لكنها التقطته ولم تشأ ان تتخلى عنه معطية إياه أكثر من مئة دور خلال أقل من عقدين. لكنه مع هذا تخلى عن الأضواء بسبب مبادئه ولأنه وجد انه يشارك، نجماً، في استلاب الشعب والضحك عليه. اسمه يلماز غوناي. اسمه يعني الكثير لأبناء شعبه ولأوروبا... هو بالنسبة الى الأول نجم النجوم خلال العصر الذهبي للسينما التركية، وبالنسبة الى أوروبا احد كبار مبدعي سينما الهامش والقضايا الحية. بالنسبة الى المتفرج العربي قد لا يعني اسم يلماز غوناي شيئاً. فلا أفلامه عرضت عندنا حين كان ممثلاً، ولا إبداعاته كمخرج ? خلال النصف الثاني من حياته القصيرة ? عرفت في معظم الأنحاء العربية. ومع هذا ان قيض للمتفرجين العرب ان يشاهدوا اياً من هذه الأفلام سيشعرون بإلفة حقيقية معها. وهذه التجربة عرفها كثر من الذين أتيح لهم ان يشاهدوا أحد آخر أفلامه"الطريق"بعدما فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان"كان"، إذ تدور بعض المشاهد عند الحدود الشمالية لسورية... بل يدور الفيلم كله من حول شخصيات شديدة القرب من سكان العديد من المناطق العربية. كان يلماز غوناي تركياً وكردياً في الوقت ذاته، لكنه في الحالين كان على الهامش كمخرج مبدع حقق أفلاماً عدة لكنها عرفت في الخارج أكثر... تماماً كما كان على الهامش القسري، إذ ان سلطات بلاده كثيراً ما أودعته السجن لأسباب سياسية. ونعرف انه لم يتوقف عن تحقيق افلامه حتى وهو داخل السجن. هنا إذاً، حلقة رابعة من هذه الحلقات نتحدث فيها عن يلماز، الهامشي بامتياز بعدما تحدثنا في حلقات ثلاث سابقة عن البرازيلي غلاوبر روشا والسويدي انغمار برغمان والأميركي جون كاسافتس. لو تأملنا اليوم سيرة حياة يلماز غوناي ومساره المهني، سيدهشنا ان هذا الفنان التركي الكردي لم يعش سوى سبعة وأربعين عاماً. فممثل قام بأدوار البطولة في أكثر من مائة فيلم معظمها من النوع الشعبي. ومخرج حقق عدداً لا بأس به من الأفلام التي يعتبر معظمها علامات في تاريخ السينما في بلدان العالم الثالث. وكاتب أصدر في مراحل مختلفة من حياته عدداً كبيراً من الكتب بين روايات وقصص قصيرة ومناشير سياسية ونصوص نظرية حول أوضاع بلاده وتاريخ النضالات الثورية فيها، يحتاج الى أكثر من تلك الفترة الضيقة من السنين. خصوصاً ان يلماز غوناي لم"ينس"في مساره هذا، ان يمضي سنوات عدة في السجن الذي دخله مرات ومرات، غالباً لأسباب سياسية ولكن مرة - وكانت الأخيرة - لأسباب جنائية. ولم ينس كذلك، اذ هرب من السجن ذات مرة، ان يسلك درب النفي ليعيش آخر سنواته خصوصاً في فرنسا حيث لفظ الروح إثر مرض اصابه. من السجن حياة تبدو خارج المألوف تماماً. بل أقرب الى الأسطورة. والحقيقة ان يلماز غوناي يعتبر أسطورة حقيقية، هو الذي طلع من الحضيض تماماً، من حضيض بؤس الفلاحين المغامرين والمقامرين بحياتهم في المناطق الزراعية المحيطة بأضنة في الجنوب التركي، ليصبح خلال فترة قياسية من الزمن واحداً من السينمائيين الأكثر حضوراً في السينما الأوروبية. وبفضل ماذا؟ بفضل أفلام تقول الحكاية انه أدار إخراج الأفضل من بينها وهو في زنزانته في السجن. حيث كان مساعده زكي اوكتان أو صديقه شريف غوران، ينفذان الخطوات الإخراجية التي يرسمها هو لسيناريوات كتبها بنفسه وهو قابع في زنزانته. هل يكفي هذا للحديث عن أسطورة أو اثنتين؟ اذا كان لا يكفي، هاكم الثالثة: في سنة 1974 كان يلماز غوناي خرج بعفو خاص تمكن ربما من الحصول له عليه المخرج إيليا كازان. راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة من السجن الذي كان أودع فيه للمرة الثانية، وحقق فيلم"اركاداش"الصديق راكناً الى بعض الهدوء في حياته. لكنه بعد سنوات قليلة وفيما كان يصور فيلم"دوشمان"1979 اعتقل مرة أخرى من قبل السلطات العسكرية في بلاده، ولكن هذه المرة لتهمة غريبة: اتهم بأنه قتل قاضياً يمينياً خلال عملية سطو مسلح، وحوكم بسرعة ليسجن ثمانية عشر عاماً. هل كان الفاعل؟ هل اتُّهم ظلماً؟ لا أحد يدري. أما هو فأنكر الأمر تماماً، ولا سيما حين تمكن من الفرار خلال إجازة مراقبة كما سيكون حال بطل فيلمه الأخير"الطريق"والذي حاز السعفة الذهبية في مهرجان"كان"سنة 1982، وتوجه الى فرنسا. والحقيقة ان سمعة يلماز غوناي الأسطورية زادت في نظر الطيبين من ابناء الشعب التركي المحب للأساطير، حتى وإن كنا نعرف ان هذا الشعب عرف يلماز غوناي دائماً كممثل وبطل على الشاشة، وبالكاد عرف شيئاً عنه كمخرج سينمائي. وذلك بالتحديد لأن أفلام غوناي ظلت في تركيا - ولا تزال - افلاماً هامشية، حتى وإن تناولت في بعض الأحيان موضوعاً أو آخر يتعلق بالذاكرة الشعبية. إذ علينا ألا ننسى هنا ان معظم شخصيات افلام مثل"الأمل"وپ"القطيع"وپ"الصديق"وپ"الطريق"وغيرها من افلام غوناي، شخصيات شعبية، ناهيك بأنها في معظم الأحيان تنتمي الى أقليات عرقية ? كردية خاصة ? حتى وإن لم تتكلم الكردية بسبب حظر ذلك رسمياً! سلطان قبيح حقق يلماز غوناي طوال مساره كمخرج نحو 22 فيلماً، تتوزع بين سنة 1967 التي تحول فيها إلى الإخراج بعد سنوات تألق طويلة كممثل ونجم كبير من نجوم السينما الشعبية التركية. ولعل كل ما تقدم سيصيب القارئ بالدهشة إن هو عرف ان غوناي مثّل، أو قام بدور البطولة في نحو مئة وعشرة أفلام بين سنة 1958 التي بدأ فيها - بالصدفة - تألقه كممثل تحت إدارة مكتشفه المخرج الرائد عاطف يلماز، وسنة 1975، حين مثل دوره الأخير على الشاشة في فيلم"زافاليلار"مقرراً ان يكرس وقته كله للكتابة والإخراج. إذاً، مثل يلماز غوناي كل هذا العدد من الأفلام، خلال أقل من عقدين من الزمن، حيث كان يحدث له أحياناً ان يمثل في عشرة أفلام في عام واحد. ويذكر كاتب هذه السطور انه حين كان مقيماً في اسطنبول عاملاً في أفلام إنتاج مشترك بين تركيا ولبنان ومصر، أنه حدث ذات أسبوع ان كانت هناك سبعة أفلام جديدة تعرض من بطولة يلماز غوناي. ولقد استبد الفضول بنا يومها الى درجة ان قصدنا في صحبة الفنان فريد شوقي وحسام الدين مصطفى إحدى الصالات لمشاهدة احد افلام غوناي - وكان فيلماً عن قاطع طريق على نمط روبن هود - كان التعليق الأول لفريد شوقي لدى الخروج من الفيلم، تعليقاً يتناول لقب غوناي الشعبي اذ كان يدعى"السلطان القبيح":"قبيح أجل... لكن من أين له السلطنة!". وطبعاً لم نكن في ذلك الحين نعرف ان هذا الممثل سيكون يوماً ذلك السينمائي الكبير. ومع هذا، كما أشرنا، صار غوناي وكان اسمه يلماز بوروم، حتى مثّل في أول أفلامه فاستنسب اسم غوناي ممثلاً بالصدفة. فهو في ذلك الحين - أواخر سنوات الخمسين - كان تخرّج حديثاً من كلية الحقوق والاقتصاد وبدأ يكتب مقالات سياسية واقتصادية ونضالية، ثم عمل مساعداً لعاطف يلماز. وذات يوم كان ثمة فيلم يجب البدء في تصويره وتخلف بطله عن الحضور في موعده الأول للتصوير، فاستشاط عاطف يلماز غضباً والتفت الى مساعده قائلاً:"سأؤدب هذا الممثل الذي يعتقد نفسه شيئاً... ستقوم أنت بالبطولة...". في البداية اعتقد الجميع انه يمزح. لكنه كان جاداً، وعهد الى يلماز الشاب بدور البطولة في الفيلم وكان اسمه"ابن البلد هذا". وكانت المفاجأة ان الجمهور أحب"النجم"الجديد، ورصدت شركات الإنتاج والمخرجون هذا الإعجاب المفاجئ وراحت الأدوار تنهال على يلماز غوناي، الذي صار"نجم تركيا الأول"حتى قبل ان يكتشف كثر انه كردي الأصل. وأنه مناضل سياسي وكاتب. أما هو، وقد صارت له كل تلك الشعبية فإنه لم يكتف بالتمثيل بل راح يكتب السيناريوات، واجداً من الوقت ما يكفي، ايضاً، لمواصلة نضاله السياسي في صفوف الجناح الأكثر تطرفاً في الحزب الشيوعي التركي، في الوقت ذاته الذي ازداد ارتباطه بياشار كمال، الكاتب الكبير الذي هو بدوره من أصول كردية فلاحية، وكان في ذلك الحين من غلاة المناضلين اليساريين. سيطرة على الفن في تلك الأثناء باتت حياة يلماز غوناي تبدو منفصمة تماماً: فهو من ناحية كشف عن مواهب فنية حقيقية عضدها مشاهدته لكل ما كان يُعرض في صالات اسطنبول من أفلام جيدة آتية من الغرب، ومن ناحية ثانية يمثل في أفلام لم يكن راضياً عن معظمها معتبراً إياها تستلب الشعب اكثر وأكثر وتعطيه وعياً مزيفاً، ومن ناحية ثالثة، يخوض نضالاً سياسياً عنيفاً في بلد يحظر فيه الجيش أي انتماء يساري ناهيك بكون هويته الكردية كانت بدأت تبرز الى العلن، من دون ان يتمكن من التعبير عنها في أي من أدواره العديدة في أفلام تراوحت بين سينما البطولة الشعبية والشرائط البوليسية وأفلام المغامرات. وهكذا ما إن حل النصف الأول من سنوات الستين حتى وجد نفسه يتجه الى الإخراج في محاولة منه للسيطرة التامة على افلام ينوي تحقيقها وبات في إمكانه ان يتصور ان من شأنه ان يتخلص عبر حدتها ونضاليتها من انفصامات حياته. وتمكن، بتشجيع من عاطف يلماز، من ان يخوض سنة 1967 تجربته الإخراجية الأولى في فيلم"اسمي كريم"- بعد تجربة أجهضت في العام الذي سبقه ? لكن هذا الفيلم لم يكن من النوع الذي يرضيه، لأنه لم يكن فيلماً شخصياً. كان عليه انتظار العام التالي حتى يكتب ويحقق"سييت هان"خطيبة الأرض، الذي أنتجه بنفسه من طريق شركة أسسها كي يضمن استقلال مشاريعه. حقق"سييت هان"بعض الشهرة والنجاح. لكن يلماز غوناي لم يحظ بمكانته الأساسية كسيد من سادة السينما التركية الجادة والجديدة إلا سنة 1970 حين أنجز"الأمل"أوموت، هذا الفيلم الذي اعتُبر، عالمياً، بداية غوناي الحقيقية إذ راح يدور، في الخارج، من مهرجان إلى آخر وراحت أقلام النقاد العالميين تكتب عنه بحماسة، حتى وإن كان موضوعه ? في ذلك الحين ? قد بدا عصياً على الوصول إلى المتفرج الشعبي التركي الذي كان غوناي يسعى أصلاً إلى التعبير عنه والوصول إليه. ويتحدث"الأمل"عن حوذي يقتل سائق سيارة حصانه، مصدر رزقه الوحيد ورزق عائلته. هذا الموضوع البسيط حوله غوناي مع مسار الفيلم الى موضوع كافكاوي بامتياز. والحقيقة ان غوناي إن كان عجز عن ايصال حبكة الفيلم الى متفرجه، أوصل إليه عدوى الثورة وحس التمرد على الأوضاع القائمة، مصوراً البؤس والجوع اللذين تعاني منهما ملايين الأتراك. ومن هنا كان من الطبيعي ان يربط النقد العالمي سينماه بسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، ما زاد من احترام الجمهور التركي له، وبالتالي من حذر السلطات الرقابية التركية حياله. منذ"الأمل"إذاً، في سنة 1970، راحت حياة يلماز غوناي تتوزع بين إخراج ما لا يقل عن ثلاثة فلام في السنة في العام 1971 وحده حقق سبعة أفلام!، وبين"إقامة"في السجن، وكل مرة لسبب مختلف، وبين سمعة عالمية تزداد قوة، مع جوائز وتقدير في المهرجانات، ناهيك بأن الجمهور العريض لأفلامه كممثل راح يفتقده بالتدريج متسائلاً:"ما بال السلطان القبيح يتخلى عنا شيئاً فشيئاً؟! ذلك ان البطل الذي كان في الأفلام الشعبية ينصر الفقراء والبائسين ويسرق من الأغنياء، اختفى تماماً ليحل محله في أفلام غوناي نفسها بطل ? مضاد، هو صورة للبائسين انفسهم من دون زخرف أو بطولات واهية. الهامش في عز النجومية خلال فترات سجنه لم يهدأ يلماز غوناي ابداً... بل واصل الكتابة القصصية والسياسة و... واصل ايضاً إخراج أفلامه، ومن طريق شريف غورين وزكي أوكتان كما قلنا. هذان في الخارج يعدان الممثلين وأماكن التصوير، وهو في الداخل يحدد الحركات والعلاقات والحوارات ومكان الكاميرا، وتكررت هذه التجربة مرات عدة وخصوصاً في فيلم"انديشي"1974 الذي إذ سجن غوناي خلال تصويره، أكمله غورين. وهو ذات ما حدث سنتي 1978 و1979، مع فيلمي"القطيع"وپ"دوشمان"اللذين صورهما زكي أوكتان. والجدير بالذكر هنا ان غوناي نفسه قال ان"القطيع"إنما هو فيلم عن الشعب الكردي... لكنه لم يتمكن ابداً من استخدام اللغة الكردية فيه. مع كل هذه الأفلام التي عرف أصحاب غوناي كيف يهربونها إلى الخارج لتعرض في المهرجانات وتثير ضجة من حول مخرجها الذي تحول إلى أسطورة حية، صار غوناي واحداً من السينمائيين المرموقين في العالم. وإذا كانت السلطات التركية أطلقت سراحه سنة 1974، تحت ضغط الرأي العام العالمي وإيليا كازان، فإنها إذ عجزت عن"إقناعه"بالسكوت، سياسياً على الأقل، دبرت له سنة 1979 تلك التهمة الجنائية التي ذكرنا لتودعه سجناً هرب منه الى المنفى حيث لن يلبث ان يرحل عن عالمنا سنة 1984 إذ أصيب بسرطان في المعدة وهو في باريس، ليدخل منذ ذلك الحين اسطورة جديدة عن مبدع قضى شاباً بعد ان ملأ حياة الفن صخباً ونضالاً من دون ان يبرح هامشاً دخله طواعية بعدما كان ملء السمع والبصر نجماً في سينما بلاده. هكذا تكلم يلماز لقد درست الحقوق والعلوم الاقتصادية لا لكي أصبح موظفاً بل لكي أتعلم. حين كنت أدرس الحقوق في أنقرة، لم أكن أعرف أن هذه الحقوق هي حقوق البعض وليست حقوق البعض الآخر. بعد ذلك وجهني بعض الأصدقاء نحو الطريق التي ساعدني فيها علم الاقتصاد في شكل أفضل. ومع هذا كانت العلوم الاقتصادية التي ندرسها في الجامعة شكلية لا أكثر: مجرد حديث عن أوالية التبادلات بين مناطق العالم مثلاً. أما الكتب التي ندرسها فلم تكن تخص ماركس بأكثر من ثلاث أو أربع صفحات تحتوي في معظمها على معلومات مزيفة... الحقيقة أن مسار حياتي شديد التعقيد... فأنا مارست من المهن وقمت بأشياء في شكل يجعل من العسير عليّ متابعة مسار تلك الحياة... لهذا أفضّل أن أحكي عن هذه الأمور نتفاً نتفاً. كانوا يطلقون عليّ اسم"السلطان القبيح"حين كنت نجماً على الشاشة، لأنني كنت نقيضاً لنجوم ذلك الحين، من الذين كانوا يتميزون بحسن ووسامة جسديين ويحسنون التصرف بطرق أنيقة. أنا ربما أصبحت اليوم أليفاً أكثر مما كنت ذي قبل... في ذلك الحين كنت مشاكساً ضارياً، وربما لهذا لقبت بذلك الاسم. لقد طبعتني الفترات التي وضعت فيها في السجن، من ناحية أولى لأن السجن مؤسسة قمعية قبل أن يكون أي شيء آخر... ففي السجن ثمة محاولات دائبة لجعل الناس عميان، طرشان ومرعوبين في شكل دائم. وعلى هذا النحو يصار الى إحداث تغيير أساسي فيهم. ثم من ناحية ثانية السجن مكان ينضج فيه الناس ويتعلمون، شرط ألا يقعوا في فخ التشاؤم. وهذه التجربة تبدو بالنسبة اليّ تجربة ثمينة. ولكن في المقابل انه لمن الصعوبة بمكان في السجن أن يعتني المرء دائماً بصحته الجسدية، الأخلاقية أو الثقافية. فحين يمضي المرء 5 سنوات في السجن تبقى لديه آثار كثيرة تطبعه. وأنا أعتقد أنني لا أشذ عن هذه القاعدة على رغم كل الجهود التي بذلتها كي أحصن نفسي. فأنا أيضاً انطبعت بهذا كله ولكن من دون أن أعرف كيف يلوح علي. في السجن كتبت كثيراً. كتبت ثلاثة سيناريوات "القطيع"،"العدو"وپ"الطريق"، وروايتين، احداهما"ماتوا ورؤوسهم خفيضة"والثانية"نريد مدفأة، نافذة ورغيفين". والروايتان ترويان حكاية انتفاضة في سجن، وفي الوقت نفسه حكاية طفل تحول الى لص وحكم عليه بأن يسجن. كتبت كذلك، في السجن، ثلاث قصص طويلة، وحكايات للصغار، وأربع مجموعات من النصوص السياسية... وكل هذه الكتابات نشرت. وأود أن أذكر هنا انني اتهمت بالتحريض على الثورة التي استوحيت منها روايتي. ولهذا السبب تم نقلي من سجن أنقرة الى سجن كاسيري، حيث النظام أشد صرامة وعنفاً بكثير. لقد مرت حياتي في السجن عبر نضال لم يهدأ... وعشت انتفاضات عدة. لم تكن أيامي في السجن أيام راحة على الاطلاق. طوال حياتي كمبدع، استخدمت وسائل تعبير غير مباشرة، عبرت من خلالها عن أفكاري. وأجد لزاماً عليّ هنا أن أقرّ بكل صراحة أن أعمالي، وحتى اليوم، لم تعبر أبداً وكما أردت عما كنت أريد التعبير عنه، لا في أسلوبها ولا في جوهرها... ولعل في امكاني أن أقول ان العنصر الأساس في هذه الأعمال انما هو عنصر المساومة. ففي"القطيع"مثلاً، أروي حكاية الشعب الكردي، غير أنني لم أكن قادراً على استخدام اللغة الكردية في الفيلم، لو استخدمنا الكردية لتسببنا في ارسال كل أولئك الذين اشتغلوا في الفيلم الى السجن. وفي فيلم"الطريق"كان من المفروض أن الأحداث تدور في ديار بكر وأورفة وسييرت... لكن التصوير هناك كان مستحيلاً طبعاً. حاولت استخدام الموسيقى كي أخلق الجو بدلاً من ذلك. لاحقاً، حتى حين تمت دبلجة الفيلم في أوروبا، وجدتني عاجزاً عن دبلجته الى الكردية. ان أولئك الذين يمضون وقتهم وهم ينشدون الأغاني الثورية حين تكون الأمور هادئة ولا قمع هناك ولا يحزنون، سرعان ما يختبئون خلف أبواب بيوتهم حين تصبح الأمور صعبة... القضية الكردية قضية في غاية الصعوبة والتعقيد. ذات يوم سأحقق فيلماً أحكي فيه حقاً حكاية نضال شعب من أجل ولادته أو بعثه. أما اليوم فالأمر عسير كما ان القضية نفسها عسيرة. ومع هذا على المرء أن يحكي، ذات يوم، كيف تم تشتيت الشعب الكردي وتقسيمه، وما هي الآفاق المستقبلية المطروحة أمامه. على أي حال اعتقد ان من الأمور الشديدة الصعوبة الحديث عن مثل هذا بموضوعية. فالتاريخ ليس حافلاً بالانتصارات فقط، بل هو حافل، كذلك، بالهزائم والأخطاء وخيبات الأمل. منذ تأسست في سنة 1914، وحتى سنة 1950، كانت السينما التركية في عهدة أهل المسرح، سواء أكانوا ممثلين أو مخرجين. أما التأثيرات التي مورست على هذه السينما فكانت إما عربية أو ايطالية. أما المخرجان الأولان اللذان تحررا من ربقة تلك التأثيرات ليكونا الوالدين الشرعيين للسينما التركية الحديثة والشابة، فهما لطفي عقاد وعاطف يلماز. أما قبلهما فلا بد من التنويه بعمل المخرج المسرحي محسن ارطغرل الذي حقق أعمالاً تقدمية واشتغل طويلاً مع ناظم حكمت ولا سيما في رائعته"كيزيلر ماك كاراكايون"تلك الملحمة الشهيرة التي تتحدث عن بطل شعبي فولكلوري، والتي أعدت أنا كتابة نسخة جديدة منها سنة 1967، وكنت الممثل الرئيسي في العمل. ان جهود هؤلاء الأشخاص هي التي شجعتني أنا الذي اشتغلت دائماً بفضل تلك الجهود وبفضل هذا التشجيع. تسألونني متى اكتشفت أنني كردي؟ حسناً... اليكم الجواب: أنا أرى أنني كردي بالنسب على الأقل. أمي كانت كردية، أما أبي فكان من أكراد الزازا، ذوي الخصوصية... وطوال طفولتي كانت الزازا والكردية هما اللغتان المحكيتان في بيتنا. والحقيقة انني بقيت أتكلم الكردية حتى سن الخامسة عشرة. وبعد ذلك انفصلت عن أسرتي، ومنذ ذلك الحين صرت لا أسمع إلا العبارات القطعية التي تقول مثلاً"ليس هناك أكراد"وپ"ليس ثمة لغة كردية"... ومع هذا كنت أسمع الناس يتكلمون الكردية ويغنون بها... وصار في امكاني أن ألاحظ كيف أن الأكراد يعيشون في ظل أوضاع بالغة الصعوبة. أبي كان من منطقة سيفريك. وأنا نفسي لم أشاهد سيفريك إلا حين صرت في السادسة عشرة. وأعتقد أنني في تلك اللحظة بالذات فهمت حقاً من أنا. اذ هناك أدركت كل شيء عن آلام ومعاناة عائلة اقتلعت من جذورها... كان والدي يقول:"لقد قطعت من الجذور التي تنتمي اليها". ولاحقاً في سن الرابعة والثلاثين، وجدتني أزور بلاد أمي، في منطقة موش، حيث جذور قبيلة جبران التي تنتمي اليها. وفيلم"القطيع"يروي حكاية ما حصل لهذه القبيلة. ايليا كازان يكتشف غوناي: انه صادق مثل فلاح حقيقي في ربيع سنة 1974، كان يلماز غوناي مسجوناً في أحد السجون التركية. كانت هناك محاولات كثيرة يقوم بها مثقفون ومناضلون أوروبيون لدفع الحكومة العسكرية التركية إلى إطلاق سراحه... ولكن من دون طائل. في ذلك الحين كان المخرج اليوناني الأميركي المولود في تركيا، ايليا كازان، قد قام بجولة في مسقط رأسه رافقه فيها الكاتب ياشار كمال، يومها استقبل كازان بحفاوة لم ينكرها... وحين وصل إلى باريس بعد تلك الجولة قيّض له أن يشاهد في العاصمة الفرنسية فيلم"الأمل"ليلماز غوناي، وكان بالكاد سمع باسمه... لكنه خرج من الفيلم مبهوراً... وإذ أخبر في ذلك الحين أن غوناي في السجن، كتب نصاً نشرته خلال الأيام التالية صحيفة"ملييت"الأمة التركية يوم 5 نيسان أبريل 1974... وكان من نتيجته ان أطلق سراح غوناي. وهنا الجزء الأخير من النص والمتعلق بهذا الأخير. ... إذا كان كاتب أو فنان ما راغباً في إيصال أفكاره ومشاعره إلى جماعة من البشر، هناك طريقة تبدو لي أكثر فاعلية بكثير من الكلام. وأنا أتحدث هنا عن المهنة السينمائية. فالسينما يمكنها ان تعطي بالصورة والصوت ما لا يمكن للكلمات ان تعطيه. وبفضل سمتها هذه تبدو لي السينما فريدة من نوعها... تبدو لي شديدة القوة. أذكر هنا انني دعيت منذ شهور إلى حضور عرض لفيلم في المكتبة السينمائية الفرنسية في باريس. شاهدت الفيلم يومها وشعرت بأنه يلامسني حقاً... يلامسني إلى درجة انني لا أزال حتى اليوم واقعاً تحت تأثيره. اسم هذا الفيلم"الأمل"... وحققه مخرج لم أكن قد سمعت باسمه. اسم المخرج يلماز غوناي، أما اسم الفيلم بالتركية فهو"اوموت". حين تشاهد هذا الفيلم تشعر من فورك أن النظرة التي يلقيها مخرجه على البشر وعلى قومه، نظرة صادقة، حقيقية ومتكاملة إلى درجة انني حين كنت أتابع مشاهد الفيلم شعرت بقلق شديد على مصير الرجل والعائلة اللذين كنت أشاهدهما على الشاشة. بل انني ظللت على قلقي هذا حتى بعد نهاية الفيلم. ما الذي سوف يحدث لهذا الرجل يا ترى؟ هكذا رحت أفكر وأتساءل. وماذا سوف يحدث لاحقاً له؟ ماذا سيصيبهم... بل ماذا سيصيب أطفالنا جميعاً؟ ما الذي سوف يصيب تركيا... وماذا سيصيب هذا العالم كله؟ ان أقلق... ان أهتم... ان أتساءل معناه بالنسبة إلي ان هذا كله يشكله أساساً لتطوير هذه المهنة... وهذا، والحق يقال، أهم ألف مرة من طرح أحكام حاسمة قاطعة. إن يلماز غوناي لأنه يحب شعبه، لم يتمكن فقط من تصوير حياة هذا الشعب الخارجية، بل صور كذلك حياته الداخلية. ولقد كان تصويره لهذه الحياة من الإقناع إلى درجة انني فكرت انه شخصية الفيلم في الحقيقة وليس ممثلاً أو مخرجاً فقط. ولعل في إمكاني ان أقول هنا ان ما أعطى حياة بأسرها إلى هذا الفيلم، انما هو حب المخرج لشعبه... وهذا الحب جعل الفيلم يبدو خالياً من أي نوع من الانتقاد للمجتمع الذي يصوره... في مجمله حرص الفيلم على أن يصور هذا المجتمع كما هو. ومع هذا فإن الصعوبة الأساسية هنا، بالنسبة إلى الفنان، تكمن في كيفية إلقاء نظرة بواسطة عينيه العابقتين بالحب... إلقاء هذه النظرة نفسها على كل شيء... ولكن ليس بوصفها نظرة غريبة من الخارج، بل بوصفها نظرة من الداخل... من داخل تلك الحياة ومن داخل واقعها، من داخل الصراع الذي يخاض في كل لحظة ومن داخل المسؤوليات... كي تصلنا تلك النظرة بعد ذلك بواسطة الفيلم. بالنسبة إليّ، لا بد في نهاية الأمر، من أن يكون يلماز غوناي"فلاحاً"... ومن هنا أجدني مدفوعاً إلى التساؤل: هل يمكن ان يكون ثمة من هو أكثر من الفنان قيمة في المجتمع؟ ثم... انطلاقاً من هنا لا بد ان يقود في هذا إلى سؤال آخر: هل ثمة كلمة تفوق كلمة"عفو"عذوبة حيث تصل إلى الأذن؟ أجل... انها كلمة... حرية. ايليا كازان