في العقد الأخير، وجد الهاتف النقال والصغير الخلوي طريقه الى جيوب الناس وحقائبهم. ويجمع المراقبون على أن الجهاز هذا خلّف أثراً كبيراً في حياة الناس. وبحسب إحصاءات 2007، يبلغ عدد مستخدمي الخلوي أكثر من بليونين. وتعمل هواتف هؤلاء الخلوية بنظام "جي أس أم". وثمة أنظمة تشغيل أخرى مثل"آي أم بي أس"في الولاياتالمتحدة، وپ"بي دي سي"في اليابان. وفي فرنسا، يبلغ عدد مستخدمي الخلوي نحو 52 مليوناً، وأكثر من 14 مليوناً منهم يتصلون بشبكة الإنترنت من طريق جهازهم النقال. ويمتلك معظم الشباب في سن بين ال 18 و24 سنة، جهازاً خلوياً واحداً على الأقل. ويوم رأس السنة، تبادل أصحاب الهواتف النقالة 170 مليون رسالة قصيرة مكتوبة أس أم أس، ومرئية أم أم أس. والهاتف الخلوي يبعث الطمأنينة في النفوس، ويبدد العزلة، ويحرر المرء من قيود المكان والزمان، وييسر التواصل. وفي بداية انتشاره، توقع المراقبون أن يقتصر استخدامه على أصحاب المهن والحرف، مثل الممرضين والأطباء والسمكرية. ونبّهت الصحافة إلى آثار الخلوي السلبية، وحذرت من ميل الناس الى الإفراط في استخدامه والاعتماد عليه، ومن تيسيره انتهاك الخصوصية، والكذب على الشريك أو رب العمل. ويومها، اعتُبر سبب اضطراب الحدود بين وقت العمل ووقت اللهو، وبين الحياة العامة والخاصة. وبعد انتشاره، بات في الإمكان دراسة آثاره. وبحسب إحصاء أجري العام الماضي، يرى 92 في المئة من مستخدميه أنه وسيلة"عملية"تتيح الاتصال في كل الأوقات. وربطه 75 في المئة بالحرية والاستقلالية. ويختلف الناس على تشخيص آثار الخلوي ووصفها. ف80 في المئة من المستفتين رأوا ان الخلوي يخدم المجتمع، وأنه يحسّن العلاقات الإنسانية. و8 في المئة من مستخدمي الانترنت أشادوا بفوائده الاقتصادية. والعلاقة بين"المتّصل"والمتّصَل به متلقي المكالمة، أو"المتلقي" غير متوازنة. فقد يحرج المتّصِل متلقي المكالمة، ويضيّق عليه، على ما يحصل بين الزوجين، أو بين الباعة الذين يروّجون لسلعهم وزبائنهم"المساكين"الذين يقبلون تلقي رسائل إعلانية، ويدفعون تكلفة تلقيهم هذه الرسائل. وخير دليل على اختلال العلاقة بين المتصل والمتلقي هي اتصالات أرباب العمل بموظفيهم. ففي عالم المؤسسات والمناصب المرتبية والهرمية والوظائف، يملك بعض الأشخاص، وهم الأعلى في السلّم، حق الامتناع من استقبال الاتصالات، وقطع الاتصال بالعمل. وثمة من لا يتمتع بهذا الحق. فعلى سبيل المثال، يعمل الموظف من بعد. وفي وسع المسؤول عن الموظف تعيين مكان الموظف هذا بواسطة جهاز خاص، ويحق له الطلب إليه القيام بمهمات، وإملاء أفعال. فيفقد الموظف"استقلاله الذاتي"، وتقوض ملكة مبادرته، ويضيق هامش حرية اتخاذه القرارات. وفي فرنسا، لا يتعدى عدد مستخدمي أجهزة خاصة بالشركات التي يعملون لديها الپ9 في المئة. وفي إحصاء عالمي، أعلن 7 في المئة من حاملي الخلوي أن هذا الهاتف يؤثر سلباً في عملهم. ويميل بعض حامليه الى التباهي. وقد يتظاهر أحدهم في القطار أنه يجري مكالمة مهمة. وفي أثناء كلامه، قد يرن الهاتف وتفتضح الحيلة. وسخر الروائي الإيطالي أومبرتو إيكو، في كتابه"السفر مع سمكة السلمون"، من المتباهي"الذليل"الذي يردّ على كل الاتصالات في العلن. ولفت إلى أن الشخص المهم يملك ألا يرد على الهاتف. والحق ان أساليب التباهي تغيرت في الأعوام العشرة الماضية. فأعداد المتباهين باستعمال النقال انخفضت. والساعون الى التمايّز عن غيرهم يتوسلون أساليب ذكية. فالجهاز لم يبق رمزاً لمرتبة اجتماعية. فهو مجرّد"أكسسوار"موضة، وامتداد للجسد. وفي وسع المرء تغيير حلل هاتفه الخلوي، وتزيينه بحلى تجلب حسن الطالع، وتحميله شعارات ونغمات. وأعداد النغمات باتت لا تحصى، وهي الى تزايد. وتبدد الفرق بين نغمة الجهاز والموسيقى. ففي اليابان، تنظم مباراة لاختيار أجمل 40 نغمة خلوية. وبعض الفنانين يألفون نغمات خاصة. وفي فرنسا، حلت معزوفة"الضفدع المجنون"، الخاصة بالخلوي في المرتبة الثانية في سلّم مبيع التسجيلات. وفي 2003، جنت سوق بيع النغمات 3 بلايين دولار ونصف. ودعا تحول الهاتف النقال الى"أنا آخر"والى امتداد للجسم، الفلاسفة الى البحث في طرق استخدامه. فقد يفترض المتصل ان طلبه رقم فلان، يصله بفلان. فحصل أن اتصل أحدهم قائلاً: أهذه أنت حبيبتي؟ فجاء الجواب: لا، أنا زوجها. وهذا الحوار المتخيّل والمقتضب يحمل على افتراض أن الخلوي يرتبط بصاحبه، ويلابسه. وتنتقل صفات الواحد الى الآخر. فحامل الخلوي، يصبح، شأن هاتفه، حاضراً في كل مكان. وينسب الرقم والجهاز الى شخص واحد، فيعرف الجهاز هوية المرء. ويمثل الهاتف شخصاً افتراضياً لا وجود له في الواقع. وقد يحسب متلقي الاتصال ان صوت المتصّل صادر من لا مكان. وهذا الحسبان يبعث الاضطراب في مفهوم المكان، والأجساد القائمة فيه. فمن جهة، يبيح الخلوي استحضار الغائب، وهو يجيز انتقال الشخص الحاضر إلى مكان آخر. والجمع بين الحضور الدائم والغياب هو من وجوه الاضطراب هذا. والسؤال عن مكان وجود الآخر الغائب، متصلاً أو متلقياً، هو لازمة الاتصالات الهاتفية الخلوية واستهلالها الثابت. ويكاد استهلال المحادثة الهاتفية بپ"أين أنت؟"يطيح كلمة"آلو"، وهي مقدمة الحديث الهاتفي التقليدي. وقد يرتبك السائل عن مكان الآخر، حين يأتيه الجواب التالي:"أنا خلفك". فكأن مستخدم الخلوي طفل يتصل بصديقه بواسطة كوبَيْ كرتون متصلين بخيط. ولا شك في ان الإدمان على استخدام الهاتف النقال هو من عوارض الاضطرابات المترتبة على التعويل على هذا الجهاز. وثمة من يصاب بالهلع عند تعطّل بطارية هاتفه، ومن لا تحلو له النزهة من دون هاتفه، ومن لا يقوى على إطفاء هاتفه. فهو عرض من أعراض داء التواصل الذي يصيب الإنسان العصري. فالمرء يهاتف مهاتفه بسبب العزلة. والسبب في العزلة الخوف. عن نيكولا جورنيه، "ساينس أومان" الفرنسية، 8-9/2007