حين وقف السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زاد مودعاً عن بُعد رئيس الوفد الإيراني الى المؤتمر الدولي عباس عراقجي، تأكد ان شارة الانطلاق أُعطيت لبدء الاتصالات المباشرة بين واشنطن وخصمي سياستها في المنطقة، إيران وسورية، اللتين ما زالتا لدى الرئيس جورج بوش في قطار"محور الشر". لم يقل خليل زاد وداعاً حتى مؤتمر اسطنبول، لأن المرجح مصافحة أخرى، ولكن هذه المرة بين الوزيرة كوندوليزا رايس ونظيرها الإيراني منوشهر متقي، وأكثر من حديث امام المؤتمرين. في بغداد، كانت مجرد بداية لقطار"التفاعل"الأميركي - الإيراني، على طريق رسم حدود لصراع العمائم وربطات العنق، لأن عنق بوش في الميزان، ليس بسبب شرارات فيتنام الثانية التي تهدد جيران العراق، بل خصوصاً لأن مساءلة الديموقراطيين في الولاياتالمتحدة الإدارة الجمهورية قد تتدحرج جبل جليد... على البيت الأبيض. بغداد الملتاعة بنار القتل والمذابح والإرهاب، كسرت الجليد بين الأميركي وخصمه الأكبر في المنطقة. وجهت رسالة في المؤتمر الخاطف الذي استأثر باهتمام كل الدول وملفاتها الإقليمية، بأن العراق لن يكون منصة لأي هجوم على ايران. والسؤال الكبير الذي بدا ان جوابه يتطلب بعض الوقت لاختبار حيوية"التفاعل"الأميركي - الإيراني، ونجاح واشنطنوطهران في تبادل"اختبار"النيات والأفعال، هو ما اذا كانت شارة انطلاق التشاور بين الجانبين، ولو عبر إحدى لجان مؤتمر بغداد، ستمهد لوقف ديبلوماسية المصارعة بالأمن، بعد فشل ديبلوماسية تبادل فرق المصارعة الأميركية التي لعبت في الجمهورية الإسلامية، والإيرانية التي زارت"الشيطان الأكبر". وإذا كان من المفارقات في بغداد، صمت الوفد السوري الذي ارتأت دمشق - على خطى طهران - ان يكون برئاسة معاون وزير الخارجية، فيما الوفود الأخرى تمثلت بسفراء، لم يكن بلا دلالة ان يأسف عباس عراقجي ل"اخطاء استخباراتية"ارتكبها الأميركي في العراق، لكأنه يعرض عوناً استخباراتياً هناك لمساعدة بوش في"استعادة الأمن والاستقرار". ولا يحتاج البيت الأبيض بالطبع، ولا القوى الإقليمية لقرائن على باع الذراع الأمنية الإيرانية في بلد تشرذم بين سلطات الوزارات وقبضة الاحتلال، وانفلات الميليشيات. بديهي كذلك، ان الجمهورية الإسلامية لن تقايض كل نفوذها وأصابعها في العراق بمجرد إطلاق الأميركي ستة من ديبلوماسييها. بالتالي، تقتضي مرحلة"التفاعل الإيجابي"خطوات لبناء الثقة، أبرزها توقع تجميد مشروع قرار تشديد العقوبات الدولية على إيران في سياق التعامل مع برنامجها النووي، وضمن مسار تبريد المواجهة معها... إنما في سياق تبادل الأثمان، خطوة خطوة. فصفقة الحوافز الأوروبية التي تحولت غربية - أميركية، ما زالت جاهزة، بل ازدادت عوامل الإغراء بها بعدما حشد بوش مزيداً من الأساطين في الخليج، وأدركت طهران مغزى الرسالة، فبدت اكثر استعداداً لاستغلال الفرصة"العراقية"، على أمل جني ثمار لكل"أوراقها"في المنطقة، بما في ذلك"تكييف"تحالفها"الدفاعي"مع سورية. وبين الإشارات"الواعدة"على مسار وقف"المصارعة"الأميركية - الإيرانية على حلبة امن العراق، أن وفد طهران الى مؤتمر بغداد لم يثر في القاعة مطلبها التقليدي بانسحاب القوات الأجنبية، والأهم اعترافه ب"تفاعل جيد"بين كل الوفود، لئلا يقول مع وفد الاحتلال. بل الأكثر اهمية ان عراقجي الذي اعتبر ان لجان المؤتمر وبينها اللجنة الأمنية من حق دول الجوار وحدها، لم يمانع في ان تتشاور مع دول تضطلع بدور في المنطقة. وبلغة ديبلوماسية، إطار التشاور فضفاض الى الحد الذي قد يفترض قنوات اتصال مباشرة، أو لقاءات ثنائية مع الأميركي، أو ثلاثية مع السوري، في المنطقة أو حتى في مقر الاممالمتحدة كبداية. وإذا كان بديهياً ان اللجنة الأمنية اهم ثمار مؤتمر بغداد التي تمكنت من الجمع بين سياسة"الشيطان الأكبر"ونهج"ولي الفقيه"المرشد خامنئي، بين صوت من اتهمته طهران بعصا"صليبية"ومن وصمه بوش بالتخريب والإرهاب... فخلافاً للتشدد الإيراني الظاهر في تحديد مقاعد اللجنة الأمنية، لا يمكن تجاهل دلالة طلب الجمهورية الإسلامية أو عدم ممانعتها في التشاور مع"عدوها"اللدود الذي طالما اتهم بالتغاضي عمداً عن تضخيم اصابعها لدى حلفائها الشيعة العراقيين، ودعم ميلهم الى إنشاء اقاليم في العراق المنكوب، والثأر من جميع البعثيين. في بغداد كان الحاضر الأكبر الأميركي و"عدوه"الإيراني، وشارة الانطلاق لقطار"التفاعل"بينهما لن تعني سوى بداية شراكة، على قاعدة التشاور لرسم المسار الجديد في مواجهة"الساحة الرئيسية للإرهاب"في العالم. إنها مجرد بداية لمرحلة جديدة في صراع"العدوين"على العراق والمنطقة.