كان من الافضل للمتفرج ان يشاهد فيلم اوليفر ستون"الاسكندر"على الشاشة الكبيرة. لكن الذين لم يقيض لهم هذا، يمكنهم الاكتفاء بمشاهدته على الشاشة الصغيرة، وهذا المساء تحديداً على شاشة القناة الثانية الفرنسية. هنا، حتى وإن فقدوا المزايا البصرية للفيلم ولا سيما في مشاهد الاستعراضات الكبيرة والمعارك الأكبر، فإن ما سيبقى لهم لا بأس به: ستبقى رؤية أوليفر ستون الاساسية لفن رواية التاريخ عبر الصورة المتحركة السينما، وهنا: التلفزة. وإذا كان قد عرف عن ستون انه غالباً ما اهتم في معظم افلامه بمسألة التاريخ وكيفية رؤيته، فقد عرف عنه ايضاً خصوصاً اهتمامه بأن ينتخب من بين ملايين اللحظات التاريخية، تلك التي يبرز من خلالها"ابطال"التاريخ، سواء أكانوا ابطالاً سلبيين من نمط نيكسون او ايجابيين من نمط"ج. ف. ك."او كاسترو او عرفات او، هنا، الامبراطور المقدوني نفسه. وفي شكل عام نعرف ان اوليفر ستون لا يهتم بأن يصدر حكماً لا على"ابطاله"ولا على التاريخ. كذلك يتعين علينا ان نعرف ان فنان نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين، هذا، لا يهتم بأن يقدم تاريخ الابطال او تاريخ أي شيء آخر على الشكل المتعارف عليه، حتى ولو كان هذا الشكل هو الشكل الاصح. رواية التاريخ في سينما اوليفر ستون، رواية شديدة الخصوصية، تكاد تنتمي، سينمائياً وفكرياً، الى نوع معين من الفن التكعيبي ممزوجاً بشيء من الفن الانطباعي. ذلك، بكل بساطة، أن ستون يعرف ويريد ان يفهم الآخرين انه ينظر الى التاريخ الذي يرويه: هنا والآن. فانطلاقاً من فكرة ان أي تاريخ يصل الى الاجيال اللاحقة لا يمكنه ابداً ان يكون التاريخ الذي وقع حقاً. وان كل تاريخ انما هو سرد متواصل للحدث، واعادة اكتشاف له في شكل لا متناهٍ، يصبح المهم ليس الذي نرويه، بل كيف نروي هذا الذي نرويه. ومن هنا، على ضوء أحداث زمننا، يصبح من الممكن ان يكون مخرج من طينة اوليفر ستون، منكباً، مثلاً، على الحديث عن جورج بوش وغزواته لأفغانستان والعراق، وهو في ذروة"ادعائه"انه يتحدث عن الاسكندر. وفي السياق نفسه لا يعود نيكسون لديه، نيكسون الربع الاخير من القرن العشرين، الرئيس اليميني، بل يصبح شخصية تبدو طالعة من مسرحيات شكسبير. بين الماضي والتاريخ اذاً، ليست"الحقيقة"ما يهم ستون. بل فهمنا للحقيقة، ومقدار ما يمكن هذه الحقيقة ان تمكننا من محاولة فهم الحاضر. وفي هذا السياق افلا يحق لنا ان نعتبر تعامل اوليفر ستون مع التاريخ، تعاملاً شكسبيرياً؟ في معنى ان هذا الفنان، انما يستخدم الحكايات التاريخية، وحكايات الاشخاص على وجه الخصوص، لقول الحاضر، وربما ايضاً للاطلالة على بعض المستقبل طالما ان من المعتاد القول ان المستقبل انما هو وليد الحاضر؟ مشاهدة الاسكندر، وربما نقول هنا: خصوصاً من على شاشة التلفزة حيث نبتعد عن استعراضية المعارك وأبهة الملابس والديكورات وهي كلها شديدة الوفرة في"الاسكندر"، لنغوص في سيكولوجية البطل وأفكاره الحميمة، مشاهدة"الاسكندر"هذه قد تعطي المتفرج الذكي والمهتم فرصة لتأمل التاريخ والحاضر ومفاهيم البطولة، اوسع بكثير وأصدق بكثير من أي فرصة تتوافر مثلاً عبر كل هذا الرهط من المسلسلات التاريخية العربية، التي تغوص في"الماضي"لتنهل منه مبررات للحاضر ومصادر فخر وأبهة لا اكثر، غير مدركة الفارق الكبير والاساس بين"الماضي"و"التاريخ"، وهو فارق تكاد سينما اوليفر ستون توضحه، بين جمود حدث انقضى، وديناميكية نظرتنا اليه. حيث ان الماضي هو الجمود، بينما التاريخ ديناميكية. والحال اننا اذا فهمنا هذا بكل ما يترتب عليه من أبعاد، سندرك بسرعة لماذا تضجرنا مسلسلاتنا"التاريخية"العربية، في الوقت الذي تثير فينا مشاهدة"اسكندر"اوليفر ستون مثلاً، كل هذه الرغبة في السجال وفي التحرك، وربما ايضاً في... الفعل.