تبدو الرغبة في تطويل أمد الحرب التي تشنها إسرائيل حالياً على لبنان عموماً، وعلى"حزب الله"خصوصاً، واضحة لا لبس فيها ولا غموض. ولعل وضوحها هو ما يربك كثراً من المراقبين الذين يدهشهم عدم التعاطف الأميركي مع لبنان وشعبه هذه المرة. وهذا الارتباك يدفع هؤلاء الكثر الى ضرب أخماس بأسداس والبحث عن السبب الذي يجعل الفارق كبيراً بين الموقف الأميركي هذه المرة، والمواقف الأميركية التي كانت - في المرات السابقة - أقل لؤماً وقسوة ووضوحاً. في مجال البحث عن جواب يتناسى كثر السبب الذي يبدو - في هذا السياق - أساسياً، السبب الذي يفسر - وإن لم يبرر بالطبع - تشابه الموقف الأميركي المدمّر، مما يحدث في لبنان، ومما حدث ويحدث في فلسطين. ونعني بهذا السبب أحداث أيلول سبتمبر 2001. أي العمليات الإرهابية التي ضربت نيويورك، وجعلت واشنطن، ومعظم الشعب الأميركي، يرون إرهابيين في كل مكان... بحيث صار ثمة بارانويا خاصة، لها جذورها في تلك الأحداث - التي دفع المسلمون والعرب حتى الآن أثمانها أكثر كثيراً مما دفع الأميركيون -. وهذه البارانويا تبدو صادقة من ناحية، لكنها من ناحية أخرى تبدو مفتعلة طالما أن في وسعها أن تخدم أهدافاً سياسية، وصراعات اقليمية وما شابه. أحداث أيلول هذه، سيكون قد مر خمس سنوات عليها، خلال الأسابيع القليلة المقبلة. وإذا كانت ردود الفعل الأميركية عليها قد ظهرت، سياسياً وعسكرياً، في شكل فوري، فإن السينما - والتلفزة من بعدها - استغرفت وقتاً قبل أن تدنو منها بصورة جدية. وإذا كنا نتحدث عن السينما بالمطلق هنا فإننا نعني السينما الأميركية تحديداً. ذلك ان هوليوود، ومنذ مرور أسابيع قليلة على تلك الكارثة الإنسانية راحت تتساءل: أخلاقياً... متى يمكننا أن نبدأ حقاً في الدنو، فنياً، من هذا الموضوع؟ وإن دنونا منه، كيف ندنو: درامياً؟ وثائقياً؟ روائياً؟ على شكل أسئلة؟ على شكل يقين؟ حياء هوليوودي لمرة في تاريخها أبدت هوليوود نوعاً من الحياء في التعبير عن رغبتها في صنع سينما تقول ما حدث. ونعرف الآن أن الجواب الحقيقي - بالمعنى الفني الجيد للكلمة - جاء في العام الخامس. ولمرة في تاريخها - بالتالي - وجدت هوليوود نفسها مسبوقة من لدن منتجين فرنسيين سارعوا منذ الذكرى الأولى للعملية، الى تحقيق فيلم شارك فيه أحد عشر مخرجاً من شتى أنحاء العالم، أعطي كل واحد منهم 11 دقيقة ليقدم خلالها، وكما يرتئي، نظرته الى الحدث. وكان من بين المخرجين المصري يوسف شاهين مساهمته كانت الأضعف على أي حال والاسرائيلي عاموس غيتاي، والمكسيكي اينيراتو... والانكليزي كين لوتش. غير ان الإنصاف يدفعنا الى القول ان الشريط القصير الأقوى والأكثر ابتعاداً عن إدانة العمليات كان شريط الأميركي المشاكس شين بن. المهم ان ذلك الفيلم في شرائطه الكثيرة رسم الطريق وقال مختلف المداخل التي يمكن ولوجها للدنو من أحداث أيلول 2001، أو هكذا خيّل لكثر. لكن هوليوود رسمت مداخل أخرى في مناسبات راحت تكثر وتكشف عن وجهها عاماً بعد عام. إذ مثلاً أفلا يمكننا اعتبار فيلم"رأس الجرة"، فيلما عن أحداث أيلول طالما انه مرتبط مباشرة بحرب واشنطن على نظام صدام حسين؟ غير ان فورة العام الخامس، تبدو مختلفة... حتى وإن كان عليها أن تقتصر على فيلمين مرتبطين مباشرة بما حدث، وفي شكل يدخل في صلب الواقع... أحد الفيلمين عرض في مناسبات عدة وتجارياً، وكان أحد أبرز العروض في مهرجان"كان"في الجنوب الفرنسي. أما الثاني فإنه يعرض في أوروبا وربما عندنا، بعدما بدأت عروضه الأميركية ابتداء من أواسط الشهر المقبل. الأول هو"يونايتد 93"، والثاني اسمه، في كل بساطة"مركز التجارة العالمي". وإذا كان"يونايتد 93"قد أوصل الى ذروة الشهرة، اليوم، مخرجه بول غرينغراس الذي لم يكن معروفاً على نطاق واسع من قبله حتى وإن كان اشتهر له، قبلاً، فيلم عن مذبحة إيرلندية هو"يوم الأحد الدامي"، فإن"مركز التجارة العالمي"، حاز مسبقاً شهرته وحصد حتى الآن قدراً هائلاً من الضجيج مع أن أحداً لم يشاهده في أي عرض تجاري أو خاص، حتى اليوم بفضل مخرجه أوليفر ستون الذي، إن لم يستغرب أحد دنوه من هذا الموضوع هو الذي غاص في معظم أفلامه السابقة في صلب القضايا الأميركية الشائكة، فإن كثراً استغربوا ما تبين حتى الآن من أن ستون لم يستخدم، على عادته، فيلمه هذا من أجل مواصلة معركته الأزلية ضد النظام الأميركي. وطبعاً كل هذا لا يزال حتى الآن في طور الاستنتاج إذ قلة شاهدت الفيلم كاملاً واستنتجت منه موقف مخرجه. في المقابل كنا كثراً حين شاهدنا، في عرض خاص خلال الدورة الأخيرة لمهرجان"كان"، بعض مشاهد من"مركز التجارة العالمي"، أحضرها أوليفر ستون معه ليعرضها أمام الصحافيين وأهل المهنة، كمقدمة على شكل هدية خاصة - لعرض فيلمه القديم"بلاتون"الذي يعتبر ومنذ حقق قبل عشرين عاماً واحداً من أكثر الأفلام قسوة وإدانة للسلطات الأميركية، في سياق ما عرف بپ"أفلام حرب فيتنام الهوليوودية". والحقيقة ان المزاوجة بين عرض"بلاتون"وعرض ثلث ساعة من"مركز التجارة العالمي"لم تأت صدفة. لعل ستون أراد، بهذا الاختيار أن يذكر بما بين الحالين والزمنين من ترابط ليقول لنا بوضوح، ومن دون حس شماتة تبسيطي، أن أميركا تحصد اليوم ما كانت هي نفسها زرعته في الماضي. فهل معنى هذا ان"مركز التجارة العالمي"سيكون إدانة اضافية لأميركا، حققها سينمائي ما توقف عن مشاكسة أميركا هذه منذ ربع قرن وأكثر؟ علينا أن ننتظر أسابيع أخرى قبل أن نحصل على الإجابة الشافية. وفي انتظار ذلك قد لا يكون ثمة بأس في أن نستعرض"علاقة"أوليفر ستون بالنظام الأميركي - بل بكل ما يشكل الذهنية الرسمية والجماعية الأميركية على الاطلاق - عبر أفلامه الكثيرة والتي يشكل القسم الأكبر منها علامات مرجعية في تاريخ السينما الأميركية المعاصرة. إذ، حتى وإن كان في وسعنا أن نقرّ مع كثر بأن السينما التي يحققها أوليفر ستون - ويكتب معظم سيناريوات أفلامها بنفسه -، تعتبر متقدمة في شكل واضح على صعيد الأبعاد الجمالية واللغة السينمائية وإدارة الممثلين وترابط المواضيع، وهي مميزات تفتقر اليها عادة السينما السياسية - التي تنتمي سينما أوليفر ستون إليها -، فإن ما لا يجب أن يغيب عن بالنا ان الأساسي، بالنسبة الى الجمهور العريض، هو دائماً الرسالة السياسية التي تحملها تلك الأفلام. وهي رسالة طاولت، كما أشرنا، بعض أهم أعمدة الذهنية الأميركية. مشاكسة أميركا ولا ريب أن حرب فيتنام شكلت بالنسبة الى ستون الرافعة التي مكنته، أكثر من أي شيء آخر، من المشاكسة على العقلية الأميركية، وذلك من خلال ثلاثية حققها، في مراحل متفرقة عن تلك الحرب التي"أكلت الوطن وشبابه":"مولود في الرابع من تموز"و"بلاتون"ثم"بين السماء والأرض". في الأولين"فضح"ستون الحرب وتدميرها للإنسان الأميركي، أما في الفيلم الثالث فإنه دنا من موضوع أكثر حساسية هو موضوع الموقف الأميركي العنصري من الذين لم تكتمل أميركيتهم: عاد فيه الى حقيقة تاريخية تصور كيف جمع الأميركيون مواطنيهم ذوي الأصل الياباني في معسكرات اعتقال إثر كارثة بيرل هاربر، كانتقام من اليابانيين. وكأن"فضيحة"فيتنام لم تكف أوليفر ستون للتنديد بالعقلية الأميركية، إذ عكف لاحقاً على فضح العلاقة العضوية الكئيبة بين السلطة والمال في"وول ستريت" قبل أن يصل الى التنديد بقدس الأقداس في الحياة الشعبية الأميركية من خلال"أي يوم أحد"الذي دنا فيه، فضحاً وتنديداً من علاقة الأميركيين برياضتهم القومية. ومن الرياضة القومية الى الموسيقى وثورة الشبيبة خطوة قطعها فحقق"ذي دورز"مركزاً على شخصية جيم موريسون. وبعد هذا نراه يفضح تهافت وتفاهة الإعلام من خلال فيلمه القاسي"قتلة بالفطرة"الذي أقام الدنيا ولم يقعدها. لقد صور في فيلميه الأخيرين هذين، البطولة وكيف يصنع الأبطال، وهو موضوع ما توقف عن شغل باله منذ البداية: أي منذ حقق فيلم"ج إف ك"حول اغتيال جون كنيدي. وهو الفيلم الذي حقق لستون أعلى درجات شهرته، وفتح الطريق أمام إعادات نظر بالتحقيقات التي جرت حول ذلك الاغتيال. والحقيقة ان"ج أف ك"لم يكن عن كنيدي، كرئيس، بل كان عن مؤسسة الرئاسة ومؤسسة القضاء والأكاذيب الكثيرة التي رسمت للعلاقة بين المؤسستين. أما الرئاسة الأميركية نفسها، فكان على المتوقعين من ستون أن يدنو منها، الانتظار سنوات أخرى وهم واثقون من أن نجم الاخراج المشاكس هذا كان لا بد له من أن يدخل نيكسون وووترغيت في حساب سينماه. وهكذا ولد فيلم"نيكسون"الذي تميز بالتباس شديد من حول حكم ستون النهائي على شخصية ذلك الرئيس. والحقيقة أن ستون، حتى وإن كان قد اهتم في الفيلم بشخصية نيكسون نفسه، وبمؤسسة الرئاسة، فإنه توجه هنا أكثر ناحية مفهوم البطولة والزعامة في مرحلة تاريخية محددة، لطرح أسئلته من حولهما. ومن هنا كان"نيكسون"وعلى عكس ما كان يمكن توقعه من ستون، فيلماً إشكالياً شكسبيرياً، أكثر منه فيلماً سياسياً. ويقيناً ان المرء يمكنه أن يقرأ هذه الحقيقة المرتبطة بفيلم"نيكسون"بصورة أفضل على ضوء فيلمين لاحقين لستون، هما وثائقيان لا روائيان هذه المرة: فيلم"غير المرغوب فيه"عن ياسر عرفات والقضية الفلسطينية أو بالأحرى عن استحالة تحقيق فيلم عن ياسر عرفات والقضية الفلسطينية، وفيلم"القائد"عن كاسترو. وهذان الفيلمان الأخيران نالا، على أي حال، حصتهما من غضب وشجب المؤسسة الرسمية الأميركية التي دائماً ما اعتبرت أوليفر ستون"خائناً"للقيم الأميركية كلها. الزعامة بأي ثمن لكن ستون لم يكن من الذين يأبهون لمثل ردات الفعل هذه. انه يبدو دائماً واثقاً مما يريد قوله وفعله. وما قاله في"غير المرغوب فيه"وپ"القائد"كان في الحقيقة تمهيداً لما سيقوله في واحد من أضخم أفلامه"الاسكندر". إذ هنا مرة أخرى طرح ستون مسألة البطولة والزعامة وتساءل حول أحقية البطل في أن يحقق طموحاته ولو على جثث الآخرين. ومن الجليّ ان هذا التساؤل، إذ انتزعه ستون من تاريخ شخصية عاشت قبل ألوف السنين، إنما كان بالنسبة اليه شديد الراهنية: ارتبط بالأحرى بما يحدث في زمننا هذا. ولنقل في شكل أكثر تحديداً: بحرب بوش على العراق. ذلك انه من الصعب تصور ان فناناً من طينة ستون كان من شأنه حقاً أن يسير على خطى سيسيل بي دي ميلي ويغوص في التاريخ كتاريخ. من هنا، وحين كان المهتمون بسينما ستون يصغون بدهشة الى من يخبرهم ان صاحب"بلاتون"وپ"نيكسون"سيحقق فيلماً عن أيلول 2001، كان السؤال الأول: ماذا... هل سيجد ستون في تلك الكارثة مجالاً للإمعان في حربه ضد أميركا؟ ستون من ناحيته طمأن كثيراً، وأكد أكثر من مرة انه عقل هذه المرة، وقرر أن يدنو من الأمور من وجهة نظر أخرى... كثر لم يصدقوه راجع أجزاء من حوار أجري معه أخيراً في مكان آخر من هذه الصفحة. أما هو فقال وأكد انه انما شاء هذه المرة، ومن دون أن يعطي أي صدقية للمؤسسة الأميركية، أن يحقق فيلماً عن الإنسان وعن بطولة الإنسان، حتى في ظل أوضاع تبدو قادرة على انتزاع أي حس بالبطولة. ومن هنا نراه، إذ انقشع الكثير مما لف مشروعه من غموض، نراه يختار حكاية بطولة حقيقية، تنوقلت كثيراً خلال السنوات الفائتة وصدر عنها أكثر من كتاب: بطولة شرطيين - إطفائيين وجدا نفسيهما محاصرين بالدمار والنار والدخان داخل برجي مركز التجارة في تلك الساعات المأسوية من يوم الحادي عشر من أيلول، فواصلا عملهما لينقذا، على رغم كل شيء، الكثير من الأرواح، وكادا يموتان لولا أن قام بطل ثالث بإنقاذهما. حسناً... قال كثر من قبل عرض الفيلم... هذه هي الحكاية يبقى أن نعرف ما الذي أراده ستون من خلال اختيارها. نحن الذين شاهدنا في"كان"الفائت، مشاهد عدة من الفيلم، بدا لنا الأمر أشبه بالكلمات المتقاطعة: أوراق تطير من هنا، وجوه مدماة من هناك، حجارة تلتصق بالحديد، سماء سوداء وطائرة تثقب جدار مبنى، أحذية متروكة، مكاتب محطمة، وصراخ... كثير من الصراخ... كل هذا بدا قوياً ورائعاً ومصوراً كأنه جزء من عمل تسجيلي طويل حقق بحذق ومهارة... غير انه كله ظل عاجزاً عن توضيح رسالة أوليفر ستون. منذ أواسط أيلول المقبل سيبدو هذا كله واضحاً وسنعرف كيف وظف ستون موضوعه. ويمكننا أن نعتقد منذ الآن، بأن توقعات كثيرة ستخيب. سيحدث ما حدث بالنسبة الى فيلم ستيفن سبيلبرغ الأخير"ميونيخ": ستنشر كل أنواع التخمينات، وسترسم في الأفق كل أنواع الأفكار المسبقة. وفي النهاية سيفاجئ أوليفر ستون الجميع، كما فاجأهم سبيلبرغ... سنكتشف ان الأول، كالثاني، حقق في نهاية الأمر عملاً استثنائياً يقول هواجس الفنان في لحظات الكوارث الكبرى، يقول نظرة الفنان الى الموت والدمار. ويقيناً ان ما من فنان حقيقي، يمكنه ان يقف الى جانب الموت والدمار، طالما ان الفنان الحقيقي يعرف ان كل دمار انما هو دمار لطرفيه: الجلاد والضحية في الوقت نفسه. كان هذا، كما لا بد ان نعترف أخيراً، الدرس الذي انتهى اليه فيلم"ميونيخ"... فهلاّ يكون الدرس الذي سيوصله الينا ستون هذه المرة، الدرس نفسه؟