اللقاء الذي تحتضنه اليوم قاعة قصر "لاسال سان كلو" في ضواحي باريس، جاء حصيلة وعد قدمه نيكولا ساركوزي خلال حملته الانتخابية بأنه سيبدل مسار العلاقات الفرنسية - اللبنانية. وقال في توضيح سياسته الجديدة ان"الصداقة الفرنسية - اللبنانية هي علاقة بين شعبين وليست علاقة محصورة بطائفة معينة وفئة محدودة". وكان بهذا التلميح يغمز من قناة جاك شيراك وينتقده لأنه تبنى طروحات جماعة 14 آذار، وقاد حملة شخصية وظف فيها موقعه كرئيس للجمهورية من أجل فرض موقفه المنحاز. ولكن"حزب الله"لا يرى في سياسة ساركوزي الخارجية، موقفاً متوازناً ومنصفاً، بدليل انه وصف دوره في حرب تموز يوليو الماضي، بأنه دور حزب ارهابي. ومع انه تراجع عن هذا الوصف بعد وصوله الى الاليزيه، إلا انه لم يستطع التخلص من هواجس ماضيه ومن الخلفية التاريخية التي تتحكم بمواقفه العاطفية والسياسية. وهي هواجس مقلقة عبّر عن تفاعلاتها النفسية في حديث أجراه معه الصحافي رانان الياتز، قال فيه انه يتفهم جيداً رغبة الشعب اليهودي في إيجاد وطن. والسبب ان كل يهودي يحمل في أعماقه خوفاً دفيناً تكدس عبر مجازر متواصلة. لهذا يشعر بأن اسرائيل ستحتضنه وترعاه في حال اضطهد أو طُرد من الوطن الذي يقيم فيه. ويرى المحللون ان تعاطف ساركوزي مع اسرائيل نابع من ظروف نشأته ومن المخاطر التي تعرضت لها عائلة والدته في سالونيك اليونان، وهي عائلة تحمل اسم ملاك وانما حور بمرور الزمن فصار"ملاح". وفي القرن الخامس عشر هربت عائلة"ملاح"من محاكم التفتيش في اسبانيا لتستقر في"بروفنس"فرنسا. وبعد مئة سنة تقريباً انتقلت الى سالونيك. وعرف منها في اليونان عدد من عتاة الصهاينة، ابرزهم آرون ملاح، جد ساركوزي. كذلك اشتهر"أشار"عم آرون كحاخام متعصب وهب حياته لخدمة الصهيونية من خلال الصحيفة التي أصدرها في اليونان سنة 1898 وسماها"ال افانير". وفي سنة 1919 انتخبه يهود اليونان رئيساً للمجلس الصهيوني، ولما ازدادت موجات الهجرة الى اسرائيل، تولى"اشار"تنظيم رحلات سرية الى ارض الميعاد، انتهت بهجرته مع عائلته سنة 1934. ومن الاسماء التي لمعت من عائلة ملاح كان البرلماني"بابو"الذي عينته اسرائيل أول سفير لها في اليونان بعد اعلان انشاء دولة اليهود سنة 1948. في معظم المناسبات، لا يخفي ساركوزي إعجابه بجده"بينيكو"الذي انتقل الى فرنسا وتخلى عن يهوديته واعتنق الكاثوليكية ليتزوج فتاة فرنسية مسيحية تدعى اديل بوفيه. ومع هذا التحول بدل بينيكو اسمه ايضاً واختار اسم"بانديكت". وفي سنة 1950 تزوجت اندره ابنة"بانديكت"شاباً من أصل هنغاري يدعة بال ناجي بوسكا السركوزي، انجبت منه ثلاثة أولاد هم: غليوم ونيكول وفرانسواز. ويردد نيكول ساركوزي دائماً حكاية تاريخ أسرته، ويقول ان النازيين قتلوا 57 شخصاً منها أثناء احتلالهم اليونان. ولكن خصومه السياسيين يتهمونه بتوظيف هذا الماضي المؤلم لتبرير انحيازه نحو اسرائيل في وقت مثّل الفلسطينيون دور الضحية البريئة. وهذا ما ردده الرئيس الايراني احمدي نجاد عندما قال ان الأوروبيين اضطهدوا اليهود، فإذا بعمليات الانتقام تطال جهة ثالثة لا ذنب لها. السؤال الذي يرافق الرئيس ساركوزي خلال جولاته الأخيرة يتعلق بمدى قدرته على فصل سياسة فرنسا الخارجية عن عواطفه الشخصية، وعن دور بلاده في أزمة الشرق الأوسط. يعتبر ساركوزي ان فرنسا معنية بالبحث عن السلام في الشرق الأوسط، ومع انه يطالب بالأمن لدولة اسرائيل، إلا أنه من جهة ثانية يدعو الى قيام دولتين فلسطينية واسرائيلية. أما بالنسبة لموقفه من لبنان، فإن ساركوزي لم يحد عن الخط الذي رسمه سلفه شيراك. ففي برقيته الأولى الى رئيس الوزراء فؤاد السنيورة كتب يقول:"باسم الصداقة التي تربط لبنانوفرنسا، ستدافع بلادي دائماً عن سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه. وأرجو ان تطمئنوا الى انني سأكون مدافعاً قوياً أن هذه الثوابت في السياسة الفرنسية. ان انتخابات الرئاسة المقبلة تشكل استحقاقاً يجب ان يؤشر الى عودة كامل السيادة اللبنانية، على أمل ان تفتح الطريق أمام استعادة العمل الطبيعي داخل مؤسسات الدولة". وفي مناسبة أخرى حدد ساركوزي أولوياته في لبنان بثلاث: أولاً - ضرورة الذهاب في التحقيق الدولي حول اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري الى النهاية، لأن مرتكبي الجريمة يجب ان يعاقبوا. ثانياً - جعل سورية تعتبر لبنان بلداً مستقلاً حراً سيداً. ثالثاً - على"حزب الله"الموافقة على التخلي عن سلاحه لصالح الدولة، وان يتعاطى مع لبنان كبلد حرّ غير تابع الى سورية أو ايران. ومنعاً لأي التباس حول أهداف اللقاء غير الرسمي المنعقد في قصر"لاسال سان كلو"، كتب وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير سلسلة مقالات أوضح فيها الأمور التالية: أولاً - على اللبنانيين، وعليهم وحدهم، العودة الى الحوار ومواصلته حتى نهايته. فقد عانت بلادهم طويلاً من"حروب الآخرين"، ولا يجوز ان يحل محلهم اليوم اي طرف خارجي من أجل اعداد التسوية الضرورية. ثانياً - ان دور فرنسا في هذا الموضوع، ينحصر في مساعدة اللبنانيين على اعادة ربط خيوط هذا الحوار. ونظراً الى الآمال التي يمكن ان تثيرها مبادرة من هذا النوع، نود ان نوضح انه ليس المقصود الدعوة الى مؤتمر اقليمي أو دولي، على غرار العديد من المؤتمرات التي عرفها لبنان سابقاً. ثالثاً - ما تقترحه فرنسا هو ان تجمع حول طاولة واحدة، لاعبين سياسيين توقفوا عن الكلام مع بعضهم البعض، من دون جدول أعمال مقيد. ان فرنسا تريد ان تكون صديقة لبنان وصديقة كل الطوائف اللبنانية. نحن نحرص على الرمز الذي يجسده لبنان - الرسالة، وعلى أطر مؤسساته لا سيما اتفاق التفاهم الوطني في الطائف. ويستدل من مضمون رسائل الوزير كوشنير وايضاحاته، ان اللقاء يمثل منطلقاً جديداً لمواصلة الحوار الذي بدأ السنة الماضية، على أمل انعاش أجواء التفاهم واخراج الوضع السياسي من جموده وتآكله. ومعنى هذا ان اللقاء سيكون على غرار اللقاءات التي تمت خلال الحرب الأخيرة، في جنيف ولوزان وتونس والكويت. اي انها لن تتحول الى مؤتمر مثل مؤتمر الطائف، بل تبقى في حدود المصالحة الوطنية بين متحاورين عجزوا عن المصالحة مع نظامهم التوافقي. الرئيس اميل لحود اعتبر ما وصفه"بالخلوة"بين ممثلي القيادات اللبنانية، خطوة على طريق التغيير المنشود في سياسة فرنسا تجاه لبنان. في حين طالب زعيم التيار الوطني الحر العماد ميشال عون، الرئيس ساركوزي بلعب دور نزيه يساعد على حل الأزمة السياسية اللبنانية. قيادة"حزب الله"ترددت في إرسال ممثلين لأن ساركوزي يعتبرها المسؤولة عن حرب تموز. ولكن إلحاح الخارجية الفرنسية وحرصها على ضرورة اشراك الحزب، دفع القيادة الى مراجعة موقفها. وهي ترى ان الدعوة تمثل اقراراً بأن"حزب الله"هو جزء اساسي من النسيج السياسي والاجتماعي في لبنان، وان الحوار في غيابه لا يكتمل، كما ترى ان رعاية اللقاء من قبل فرنسا تشكل اعتراضاً على الموقف الاميركي الذي يرفض دعوة حزب"ارهابي"شبيه بحماس. تقول مصادر فرنسية مطلعة ان سورية وايران لا ترحبان بنقل الحوار الى باريس، كأن الأزمة اللبنانية تنتقل تدريجاً الى مرحلة التدويل. ولكنهما تفضلان تفجير الخلاف في فرنسا لئلا يقال ان امتناع حلفائهما عن الحضور قد عطل التسوية قبل ان تبدأ. وربما تريد طهران ودمشق استكشاف الموقف الحقيقي لسياسة ساركوزي، واختبار نياته المعلنة بالنسبة لدعوة التوازن بين جماعة 14 آذار و8 آذار. يقول المعلقون الفرنسيون ان الرئيس ساركوزي يطمح الى انعاش العلاقات مع الدول التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي في آسيا وافريقيا والشرق الأوسط. وقد بدأ مشروعه في جولة شملت الجزائر وتونس بهدف الترويج ل"مشروع الاتحاد المتوسطي"، وهو يتوقع في حال نجح لقاء الحوار في قصر"لاسال سان كلو"ان يقوم بزيارة لبنان وسورية. وتشير صحف باريس الى اهتمامه بإعادة تفعيل المؤسسات الرسمية اللبنانية، لأن النموذج العراقي سيكون المحصلة الطبيعية لأي فشل في هذا المضمار. عندئذ سيدخل لبنان في المجهول وتصبح شوارع مدنه وأزقة مخيماته ساحة مستباحة لعناصر"القاعدة"ولكل المتطوعين من ايران وافغانستان وباكستان. عقب أحداث الجنوب وزرع عبوة مفخخة أودت بحياة ستة عناصر من اليونفيل يخدمون في الكتيبة الاسبانية، طلب مجلس الوزراء اللبناني بتحديد مهمة قوات حفظ السلام لأن التفويض ينتهي آخر الشهر المقبل. وسارع أمين عام الأممالمتحدة بان كي مون الى تقديم طلب الى مجلس الأمن يدعو فيه الى تجديد المهمة عملاً بالقرار 1701. وساعده على دعوة التجديد التصور الذي وضعه وزراء دفاع بلجيكا وايطاليا وفرنسا أثناء تفقد قواتهم في الجنوب، وتضمن التصور ثلاثة سيناريوهات مزعجة: الأول، يعرض تجربة كرواتيا، وما أحدثته الأقلية الصربية من خلل قضى على وحدة يوغوسلافيا. الثاني، يتحدث عن تجربة رواندا، وكيف وقف جنود اليونيفيل عاجزين أمام الإبادة الجماعية، لأن الصلاحيات المعطاة لهم لا تسمح بالتدخل. اما السيناريو الثالث، فيتحدث عن المخاوف من انسحاب قوات حفظ السلام من الجنوب، تماماً مثلما انسحب الاميركيون بعد تفجير مقر المارينز قرب المطار. وحول هذه الاحتمالات يسعى ساركوزي الى منع الانهيار في الجنوب عن طريق إدخال"حزب الله"في حكومة اتحاد وطني تمنع عن الوطن الصغير تداعيات الاخطار المحدقة بالمنطقة في حال عقدت ايران اتفاقاً مع الولاياتالمتحدة. عندئذ قد تضطر سورية الى شن حرب محدودة للخروج من حال الحصار والعزلة! * كاتب وصحافي لبناني