الفنان حسن إدلبي، قارئ للوجوه، ومتفحص لمعانيها. يحب الإنسان، بشكله وقيمته المجردة. يغوص داخل المرء، يقتنص معانيه، آماله وطموحاته، هزائمه وانكساراته، ويضعها أمامنا في لوحة تجسد وجهه لنراه عبره. تميز إدلبي في فن الكاريكاتور، فرأى الحياة والمجتمع من شرفة واسعة، واختزلهما في خطوط وألوان معبرة. يقول إدلبي لل"الحياة":"في الجامعة تعلمت كيف أرسم الموديل، هذا الخيال المتجسد الذي يمنحك أشياء لا تمنحها لك الصورة. فالموديل ثلاثة أبعاد، طول وعرض، إضافة إلى حركة تعبير تستعرض الزمن، أما الصورة فطول وعرض فقط. وعندما بدأت رسم الكاريكاتور، رسمت الأساتذة والعمال والمستخدمين، وكان مشروع التخرج، الذي عبرت فيه عن ذاتي، وجاء ترتيبي الأول على الدفعة". تنبه ادلبي لاحقاً إلى أن الفارق كبير بين الصورة والواقع، فالوجوه التي تعرفها وتألفها بحسب قوله"تعبر عن لحظات متراكمة من العلاقة بينك وبينها". الا أنه لحظة استعداده للبدء في الرسم يستبعد كل الذكريات من رأسه، ويبدأء من الصفر. يقول ادلبي:"دائماً الصفر له معنى في الشعر والرواية، وأنا لا أتكئ على شيء محفوظ، لكن الأشياء التي أقرأها أتمثلها، ولا تظهر بشكل مباشر، إنما تنعكس على الخطوط والألوان". شعر ادلبي بهذا الفارق خلال عمله في الصحافة، عندما كان يضطر إلى رسم أشخاص لم يرها في الواقع، إنما من خلال الصور أو الأفلام، فراح يتخيل الاشخاص أمامه، محاولاً اضافة بعده الثالث من مخيلته الخصبة. يروي ادلبي ما قاله له أحد النقاد ذات مرّة إذ اعتبر أن رسوماته لا علاقة لها بالكاريكاتور، إنما بالتحليل النفسي. ويضيف ادلبي:"بدأت أعي هذه المسألة، فالكاريكاتور ليس كاريكاتوراً، إنما تغيير للملامح، وتحليل للشخصية، وتكثيف للشكل. وبمعنى آخر هو تحطيم الشكل، وإعادة صوغه من جديد. فالصورة لا بد من أن تشبه الشخص، أكثر من صورته الحقيقية، لأن كل الملامح الحيادية تتم إزاحتها، وتبقى الخلاصة،"جوهر الشخصية". لا يبدأ ادلبي بالرسم إلا أذا أحب الوجه الذي سيعمل عليه وتأثر به، ويعتبر أن كل الوجوه تشبهه أو يتمنى ذلك، لأن أي فنان لا بد من أن يضع شيئاً من روحه، من ملامحه، من أسلوبه، من صوته، من شكله، في عمله بحسب قوله. ويضيف أن فان غوغ عندما رسم الحذاء أو دوّار الشمس أو الكرسي، لم يرسم الكرسي، فالكرسي ليس موضوعاً مهماً، إنما كان ذريعة أو حجة لرسم روحه، كان يرسم تقريراً طبياً عن حالته النفسية المهزوزة، فوضع ملامحه على الكرسي، بالمعنى الذي يظهر"الحدة والتوتر والجنون". تختلف وجوه البشر وتتنوّع ملامحها، منها الصعب والسهل والشرير والطيب. من أكثر الوجوه التي يرسمها دوماً ادلبي وجه الممثل المصري الراحل محمود المليجي على رغم أدوار الشر التي برع فيها. أما وجه أحمد زكي، فيعتبر أنه لم يعد شكلاً، بل صارت ملامحه روحه، لأنه بلغ مستوى عالياً في التعبير، وينطبق الأمر نفسه على العندليب عبدالحليم حافظ. ويوضح ادلبي أن هناك وجوهاً بخيلة وأخرى كريمة، وجوهاً مغلقة ولا توجد طرق للتواصل معها، ووجوهاً كريمة، تشعر بأنك تعرفها منذ زمن بعيد، وإذا أحببت الوجه ستتفاعل معه بشكل طبيعي، أما إذا كرهته، فلا بد من أن يتم توظيف هذا الكره، ويصبح له معنى. وهناك وجوه لشدة سهولتها ووضوحها، تكون صعبة على الفنان، تشعر بأنها سهلة المنال، لكنها توقعك في فخها. ومن الوجوه التي أتعبت ادلبي وجه الممثلة يسرا، فبمقدار ما يبدو واضحاً وسهلاً، إلا أنه لم يستطع رسمه، لأن المرأة دائماً تختار زاوية للصورة تظهرها جميلة."رسمتها مرتين وفشلت، إلى أن وجدت صورة كانت تمثل ما أريده - ودائماً بالنسبة للكاريكاتور تمثل اللقطة الأولى أو اللحظة الأولى، مفتاح الشخصية - بعدها رسمتها وصارت من أنجح الصور". لا يخفي ادلبي أن تجربته في رسم الجسم ضعيفة. هو مهووس بالوجه وتفاصيله ويعتبره جسراً للتواصل الإنساني. تدرّب على كيفية التمكن من رسم الجسم، وكانت له في ما بعد تجربة ناجحة مع مجلة"النقاد". ويرى ادلبي أن مشكلات الصحافة تنعكس على الكاريكاتور، وخصوصاً أن سقف الحرية المتاح يختلف بحسب نوع الرسومات ومدى قوّة تأثيرها في الرأي العام. ودائماً يعمد الفنان إلى صنع إضافته، حتى النقل يتم مع إضافة. والفن جزء من نقل، وتعريف الفن تكرار مع بعض الإضافة، و"نحن نعيد ما نرسم، لكن مع بعض المهارة". يجد ادلبي متعة في رسم المغمورين ويعتبرهم أهم من المشاهير بالنسبة إلى فنان الكاريكاتور وخصوصاً أن هناك دائماً من يسأل: من هذا؟ إلا أن رسم المشاهير أكثر فاعلية، ودائماً تكون هناك مقارنة من المتلقي بين الصورة والأصل. يرى ادلبي أن الوجه مرآة النفس، وهو أكبر وأعمق النوافذ التي تريك خبايا النفس، وللوجه أبجدية خاصة، تتمثل في التركيبات الانفعالية والتفاعلية مع الواقع. فالحياة الانفعالية للوجه تبدو من تركيب حرفي لأبجدية الوجه، وهي الأبجدية التي طالما تحدث عنها العشاق والشعراء، هي التي تجعل للعين ذلك التأثير، وللنظرة ذلك البعد الذي طالما يعرض نفسه على الإنسان من دون كلام، وصَدَق من قال:"فتحتَ جرحاً، إذا فتحتَ فماً".