إذا كانت مقولة عالم الاتصال الكندي مارشال ماكلوهان "العالم قرية صغيرة" أصبحت واقعاً مع تطور وسائل الاتصال الحديثة، فإن العالم بات أضيق من قرية مع إنتشار"الشبكات الإجتماعية"على الانترنت، التي تجعل المستخدمين على تماس وتواصل إفتراضيين. وفي الآونة الأخيرة، برز موقع"فايس بوك"Facebook، في سياق الشبكات الرقمية الاجتماعية، وساهم في تطبيق هذه النظرية، بل"لحّنها"على طريقته الخاصة. القرية الصغيرة وقاطنوها وضع ماكلوهان نظريته الذائعة عن أثر الاتصالات عام 1964، وأورد تفاصيلها في كتابه الشهير"الوسيلة هي الرسالة"، حيث قال: إ نعيش الآن في قرية عالمية... ان الوسائل الإلكترونية الحديثة ربطت كلاً منا بالآخر وبالتالي فإن المجتمع البشري لن يعيش في عزلة بعد الآن وهذا يجبرنا على التفاعل والمشاركة... فقد تغلبت الوسائل الإلكترونية على القيود والوقت والمسافة وأدت إلى استمرار اهتمامنا"كمواطنين أميركيين"بالدول الأخرى". وبعد أربعين سنة، تأكدت هذه النظرية عندما أسس خريج من جامعة هارفرد في علوم الكومبيوتر، اسمه مارك زيكربرغ، في شباط فبراير من العام 2004، موقع"فايس بوك"الذي راج بقوة في أوساط الشباب. ويُعرّف هذا الموقع نفسه بأنه"موقع اجتماعي يصلك بالأشخاص المحيطين بك من أصدقاء وزملاء في العمل والحياة". والحق إنه بات، في أسرع من لمح البصر، صلة الوصل بين ملايين الناس. ومن سكنه الجامعي في جامعة هارفرد إلى مكاتبه الواقعة في مدينة نيويورك، استطاع مؤسس هذا الموقع الأميركي أن يستقطب جمهوراً عالمياً من المشتركين، فانتشر الموقع بين طلاب الجامعات الأميركية الكبرى مثل"يال"وپ"ستانفورد"وپ"كولومبيا". وترافق ذلك مع تطور الخدمات التي يقدمها الموقع، مثل إضافة"الحائط"المخصص لتعليقات الزوار، ثم خدمة تشكيل المجموعات وغير ذلك من الإضافات التي أغنت الموقع وشجعت الزوار على ارتياده والالتحاق به. ومع نهاية عامه الأول، سجل الموقع قرابة مليون مستخدم نشط. وعند نهاية العام الثاني، ارتفع العدد إلى خمسة ملايين ونصف المليون، وزاد هذا العدد بمقدار الضعفين ليصل إلى 12 مليون مع نهاية عام 2006. ووفقاً للإحصاءات التي يوردها الموقع، فإن عدد مستخدميه يقارب اليوم 25 مليوناً، يزور أكثر من نصفهم الموقع في شكل يومي. ويحتل المستخدمون من الولاياتالمتحدة الأميركية المرتبة الأولى، يليهم الكنديون ثم البريطانيون. ثم يتوالى على المراتب الأخرى بالتسلسل مستخدمو النروج وأستراليا وجنوب أفريقيا، يليهم لبنان ثم مصر ثم السويد وأخيراً الهند. ويزداد عدد المشتركين بمعدل 100 ألف مشترك يومياً منذ مطلع السنة الحالية، ويترافق ذلك مع ارتفاع مؤشر النمو للموقع بمعدل ثلاثة في المئة. وترافق هذا التطور في عدد المستخدمين مع تطور الموقع وزيادة خدماته. فقد أضيفت إليه روابط تصله بمجموعات كبيرة من شبكات التفاعل الاجتماعي عبر الإنترنت، كما صار باستطاعة مستخدميه تبادل الهدايا الافتراضية. وكذلك ساهمت التطبيقات التي تقدم عبر الموقع في جعله أكثر"إنسانية"إذ يمكنك"حضن"المستخدم الذي تريده أو حتى ضربه إذا أردت، بمجرد إضافة تطبيقات معينة إلى سجلك! يمكن المشترك في الموقع إنشاء مساحته الخاصة بمعلومات بسيطة عنه تتضمن بريده الإلكتروني وكلمة سر. وفي استطاعته وضع معلومات كثيرة عنه تشمل دراسته وعمله وهواياته وكتبه المفضلة وأفلامه والموسيقى التي يحبها. ويُعطى المشترك مساحة لتحميل صوره وتصنيفها وفقاً لألبومات منوعة، مع إتاحة الفرصة لمشاركتها مع الآخرين الذين يستطيعون التعليق عليها أيضاً. ويمكن المشترك نشر نصوصه الخاصة في ما يشبه المُدوّنة الإلكترونية"بلوغ"، ما يتيح لجميع أصحابه الإطلاع عليها، إذا أراد ذلك. ويوفر الموقع إمكان الإطلاع المستمر على الأحداث المهمة التي يوردها المشتركون الآخرون ومعرفة مواعيد الكثير من نشاطاتهم. ومن الممكن أيضاً لأي مشترك في الموقع الاشتراك بعدد كبير من المجموعات، كما يستطيع إنشاء مجموعته الخاصة وفق مواضيع اجتماعية وسياسية وترفيهية ودينية وغيرها. وكذلك يتيح"فايس بوك"الحصول على التوقعات الفلكية للأبراج، وتحميل الأغاني المنتقاة وغير ذلك من النشاطات الشبابية على الإنترنت. واستطاع هذا الموقع أن يحقق شهرة كبيرة، وبات يحتل المكانة الثانية في الشبكات الإجتماعية بعد"ماي سبيس"My space. وتوقعت تقديرات أن تصل أرباحه إلى 125 مليون دولار هذا العام. وحثّت تلك الأمور أصحاب المواقع الكبرى على التفكير في شرائه. وترددت أقوال عن شرائه ضمن صفقة مقدارها بليون دولار، وذلك بعد أن اشترى المتمول الشهير روبرت مردوخ موقع"ماي سبيس"بمبلغ 650 مليون دولار. إبتكارات مغرية باتت صفحة"فايس بوك"تحتل شاشات أجهزة الكومبيوتر في المنازل ومواقع العمل ومكتبات الجامعات. وأثار الأمر حفيظة الكثير من الإدارات الرسمية والخاصة، ما دفع البعض لحجب الموقع تجنباً للغط الحاصل حوله."أُمضي قرابة ثلاث ساعات في تصفح الموقع والتواصل مع الأصحاب"تقول نهى الموظفة في مؤسسة عالمية في الدوحة. تجاهلت نهى دعوات كثيرة تلقتها عبر البريد الإلكتروني للانضمام إلى"فايس بوك"، لكن أخيراً قررت خوض التجربة"تفاجأت بالكم الهائل من الناس الذين التقيتهم في الموقع"، وتكمل مبتسمة:"حتى مديري وجدته من مستخدمي الموقع". ولكن هل يهدر الموقع وقت العمل؟ سؤال تجمع نهى وزميلتاها في المكتب على رفضه"نحن ننجز عملنا بالوتيرة نفسها لكن نستغل أية لحظة لنلقي نظرة سريعة على الموقع". قد تستغرق هذه"النظرة السريعة"دقائق كثيرة، ما دفع الكثير من المعنيين في المؤسسات والشركات التي تتيح لموظفيها الاتصال بشبكة الإنترنت إلى طرح فكرة حجب الموقع من مؤسساتهم. ويوضح المهندس محمد سالم:"فكرت ملياً في حجب الموقع عن موظفي المكتب لدي تجنباً لهدر الوقت... استغنيت عن الفكرة لأن الأمر ليس معقداً إلى هذا الحد! ففي مذكرة إدارية طلبت منهم عدم فتح المواقع التي لا علاقة لها بالعمل وتبين لدي التزامهم التام لحدّ الآن". لا يقتصر استخدام موقع"فايس بوك"على التواصل، بل أنه يزخر بالابتكارات والطرائف. ففي خضم المعارك التي جرت أخيراً بين الجيش اللبناني وجماعة"فتح الإسلام"، تناقل مشتركو الموقع مجموعة كبيرة من النكات، التي وصل بعضها الى وسائط الإعلام العام. كما بادر كثيرون الى انشاء مجموعات كبيرة لمساندة الجيش اللبناني. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، ثمة من أنشأ مجموعة لعشاق المطربة اللبنانية فيروز، وأخرى تحن إلى قهوة"المودكا"في بيروت. وهناك من أنشأ مجموعة"لا للحرب الأهلية"في لبنان. ونشط اللبنانيون في مجال إنشاء مجموعات لهم في دول الاغتراب. والطريف أن هناك أكثر من أربع مجموعات للبنانيين المقيمين في قطر! يبتكر مستخدمو الموقع الكثير، وما إن يقع حادث ما تظهر في"فايس بوك"مجموعات للحديث عنه وإبداء الرأي فيه، كما جرى أخيراً عند اغتيال النائب اللبناني وليد عيدو. لكن السياسة ليست نشاطاً وحيداً في هذا الموقع. فمثلاً، هل تريد أن تعرف مواقع الرادارات التي ترصد مخالفات السير في الدوحة؟ ببساطة ستجدها تتجدد باستمرار في مجموعة أنشئت لهذا الغرض في موقع"فايس بوك"Facebook. وكذلك تعثر على مجموعة تشرح مواقع الرادارات على الطرقات السريعة لكي تتجنب مخالفة سير بقيمة 3000 ريال قطري 821 دولاراً أميركياً. فإذا كانت التكنولوجيا تعمل في خدمة الإنسان، فمن المؤكد أنه سيسارع للبقاء على تماس معها. والأمر لن يكون مستغرباً إذا ارتفع عدد المنتسبين إلى مجموعة كهذه، بخاصة من هواة السرعة من القطريين والمقيمين لأنها تزودهم بما يجنبهم العواقب الوخيمة لمخالفة سير قد تعادل نصف راتب بعضهم. خصوصية في العصر الرقمي إذا كانت نقرة واحدة على"فأرة"الكومبيوتر تفتح لنا كنزاً من المعلومات عن الآخرين، فكيف لنا أن نتأكد من أن معلوماتنا الخاصة لا تستخدم لأغراض أخرى؟ تأتي الاجابة عن هذا السؤال الذي يطرحه الكثيرون سريعاً: هناك من ربط بين الموقع وأجهزة الاستخبارات الأميركية! الأمر قد يبدو بديهياً للبعض ومستغرباً لدى آخرين، لكن وسائل إعلام أميركية طرحت هذا الأمر على الملأ وحصلت على إجابات مفادها إمكان حصول هذا الأمر في شكل عرضي، نظراً الى وجود كم هائل من المعلومات يتدفق على هذا الموقع وهو متاح للجميع، ما يعني ان الاستخبارات الأميركية قد تنشط لحصد المعلومات المتراكمة عليه، ويكون نشاطها علنياً ومشروعاً تماماً. ولعل تلك الأشياء تبعث على التردّد في الاشتراك في"فايس بوك"عند الكثيرين. فيما يعمد آخرون الى نشر القليل من المعلومات عنهم على العلن، تجنباً لعين تراقبهم من بعيد. يتيح الموقع للمرء التحكم بخصوصية معلوماته، وبالتالي عندما يتحسس المرء من تلصص الآخرين عليه، يفترض به الإبقاء على معلوماته الشخصية شخصية، لأن موجة من"فايس بوك"لا يمكن أن تمر من دون أن تترك أثرها على... الجميع!