تتزاحم سيناريوهات ما بات يسمى بالصيف الساخن الآتي الى منطقة الشرق الأوسط حاملاً معه شتى أنواع الحروب، المباشرة وبالنيابة، بين الجيوش ومع الميليشيات والمرتزقة. حروب المقايضات المضبوطة والحروب السائبة. حروب تجر حروباً اقليمية أوسع بين الدول، وحروب تستورد من الدول المنهارة، مثل العراق، متطوعين مهنتهم صنع الحروب التدميرية وعقيدتهم إزالة الآخر وإلغاءه. كثير من هذه الحروب، إذا أتت ستحمل عنوان العداء للولايات المتحدة والانتقام منها لتدميرها العراق ولحمايتها اسرائيل من المحاسبة على الاحتلال. انما معظم الحروب الآتية لها علاقة بالمطامع بالسلطة للاعبين محليين وبالطمع بالهيمنة للاعبين اقليميين. ولأن طبيعة الحروب في زمن المتطوعين الفوضويين والميليشيات المنظمة تسحب من الدول زمام السيطرة وقد تطال الاستقرار في المنطقة، يجدر باللاعبين الدوليين ان يكفوا عن انماط سابقة في تعاملهم مع قضايا وأطراف منطقة الشرق الأوسط، وان يتصرفوا بمستوى المسؤولية الملقاة على اكتافهم. هذا يعني ان أمام الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون فرصة لعب دور رؤيوي يتطلب منه الحزم والإقدام لتكون له مكانة مميزة ذات معنى وجدوى، ويتطلب منه إبعاد مستشارين وموظفين يثقلونه، والمجيء بخبراء ومفكرين واستراتيجيين يساعدونه في تنفيذ رؤيته. يعني ان على روسيا مسؤولية لعب دور قيادي يوضح انها مع الدولة ومؤسساتها بعيداً عما يجعلها تبدو صبيانية أو اعتباطية تقف مع الميليشيات وترفض إدانة المرتزقة المستخدمين ضد الدولة. يعني ان الاتحاد الأوروبي مطالب الآن بأن يساهم فعلياً في انجاح مهمات توني بلير، الممثل الجديد"للجنة الرباعية"المكلفة عملية السلام ليس فقط على صعيد الدعم الدولي لفلسطين وانما ايضاً على صعيد الضغط الضروري على اسرائيل بأدوات يملكها الاتحاد الأوروبي. وبالتأكيد، ان اللاعب الأميركي يقف في صدارة المسؤولية عندما يتعلق الأمر بالنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي وبالتالي على جورج بوش ان يسدد ديناً عليه لصديقه رئيس الوزراء البريطاني السابق الذي طالما توسل اليه ان يضع ثقله وراء حل عادل للقضية الفلسطينية كجزء أساسي من تمكين الاعتدال في وجه التطرف في المعركة المصيرية. عليه ان يبلغ الكونغرس وحليفه الاسرائيلي ان المصلحة الأميركية، عندما لا تتطابق مع المصلحة الاسرائيلية، فإنها تبقى الأولوية القاطعة عند الرئيس الاميركي، مع اتخاذ كل اجراء يمهد الارضية اللازمة للافتراق عند الحاجة. عليه أن يقر ان لا مفر الآن من التفكير الجدي بالخطة"باء"للدور الاميركي في العراق وفي المنطقة كلها. إذا كانت منطقة الشرق الأوسط تعج بضجيج الحروب فإن الولاياتالمتحدة تعج بضجيج الحوارات، فمن ناحية أمن العراق وراء الدعوات الى حوار مع ايران وسورية لأن معظم الاميركيين يعتقدون ان مغادرة العراق تتطلب التحاور مع الجارين الايراني والسوري. لماذا؟ لأن جيمس بيكر ولي هاملتون اقترحا ذلك في تقريرهما، وبوش لم يأخذ بالنصيحة. وبسبب الامتعاض الكبير من الرئيس الاميركي وفشله في حرب العراق، يوجد نوع من التلقائية في الكراهية نحو أي موقف يتخذه الآن من دون التدقيق في تفاصيل الموقف. الهوس الآن هو بالخروج من العراق بأسرع ما يمكن. والاعتقاد السائد هو ان الحوار مع ايران وسورية سيساعد على خروج تدرجي مرتب للقوات الأميركية في العراق. انما ما لا يريده هذا الشطر من الاميركيين هو التدقيق في المسائل الآتية: هل هناك حقاً ما يدعم افتراض قدرات طهرانودمشق على تأمين خروج مرتب للقوات الأميركية - هذا إذا توافرت الرغبة لديهما بتقديم هذه التسهيلات؟ وإذا توافرت، ما هو الثمن بالمقابل الذي يطالبان به في مساومات كل منهما مع الولاياتالمتحدة؟ وهل الولاياتالمتحدة مستعدة حقاً لدفع كلفة الانسحاب من العراق بصفقات تكافئ الابتزاز والتصعيد ودعم المسلحين الذين قتلوا قوات أميركية وليس فقط العراقيين الأبرياء؟ هذه ليست مجرد تساؤلات انشائية وانما هي اساسية بالنسبة الى الاستراتيجية الاميركية والى موقع الولاياتالمتحدة في منطقة الشرق الأوسط والعالم. فإذا كانت ايران، مثلاً، مستعدة للمساعدة الصادقة في الانسحاب الاميركي وفي العمل الدؤوب على ضبط العراق ما بعد هرولة الاميركيين منه، مقابل احتفاظها بالقدرات النووية المتفوقة، هل هناك استعداد أميركي للموافقة؟ هذا خيار مطروح وليس خياراً سيئاً بالضرورة. انما يجب على الإدارة الاميركية والكونغرس والشعب الاميركي ان يكون جاهزاً لهذه المقايضة. معنى هذه المقايضة هو، بكل بساطة، مباركة بقاء النظام الايراني في السلطة والكف عن كل ما من شأنه تغيير النظام. يعني صمت الولاياتالمتحدة على امتلاك ايران القنبلة النووية كسكوتها على امتلاك اسرائيل وباكستان والهند لها. إذا كان هناك مثل هذا الاستعداد، لا بد ان جورج بوش سيضع على الطاولة مجموعة مطالب وضمانات تشكل النقلة النوعية في مثل هذه العلاقة الاستراتيجية الجديدة، إذا كانت حقاً قيد الإعداد. منطقياً، يفترض أن تكون ايران جاهزة للتخلي عن"حزب الله"كميليشيا مسلحة ليأخذ مكانه الطبيعي في العملية السياسية. يفترض أن تكون هناك ضمانات تكفل كف ايران عن طموحات الهيمنة الاقليمية وأن لا تتصرف وكأنها تملك العراق. ومنطقياً يجوز الافتراض أن مثل هذه التفاهات لا علاقة لها بالوضع الداخلي الايراني لأنها تنطلق أساساً من الإقرار ببقاء النظام. اذن، للحوار سيناريوهات وثمن قد تكون الأكثرية في اميركا مستعدة لتسديده طالما تضمن انسحاب القوات الاميركية من العراق. هذه الأكثرية لا تريد قواعد في العراق ولا تريد دوراً في منطقة الشرق الأوسط. تريد العودة الى انعزالية أقوى من الانعزالية التقليدية. تريد التوجه نحو الصين واليابان حيث ليس هناك عداء لأميركا ولا هناك تلك الكراهية العمياء للأميركيين التي تسيطر على جزء كبير من المجتمعات العربية والمسلمة. هذه الأكثرية لا تريد حرباً مع ايران ولا حتى عمليات عسكرية تضرب مفاعلاتها النووية. تريد الانسحاب. هذا كل ما تريده، بكل بساطة. تريد الانسحاب. و"بطيخ يكسّر بعضه". هذا لا يعني أن هناك إجماعاً على هذا، لا سيما داخل الادارة الأميركية، بل هناك خلاف مستمر ومستعر ليس فقط بين المعارضين للتهاون مع ايران والداعين الى الحوار معها بل بين دعاة الحوار أنفسهم. لا يعني ان الخيار العسكري قد سُحب عن الطاولة أو أن قرار صوغ شراكة استراتيجية مع ايران قد تم اتخاذه. انه سيناريو الحوار مقابل سيناريو الحرب التي قد يأتي بها هذا الصيف. حرب تبدأ في لبنان وتفلت من الأيدي لتطال ضربة عسكرية اميركية ضد ايران. هذا السيناريو مستبعد انما في زمن الحروب السائبة، كل شيء على الطاولة وكل احتمال. سورية من جهتها مرشحة لسيناريو الحوار من نوع آخر ينطلق من سيناريوهات الحروب المفتعلة والمدروسة، أقله حسب تقدير بعض المقربين من مسؤولين كبار في سورية. أقطاب الإدارة الأميركية يواجهون، هذه الأيام، معضلة غير معتادة وهم يدرسون الخيارات نحو سورية. انها معضلة ضغوط اللوبي الاسرائيلي على الادارة وعلى الكونغرس الذي لا يريد تغيير النظام في دمشق بل يعتبر أن بقاءه في السلطة لا يضر اسرائيل، ويضمن بقاء الجبهة السورية - الاسرائيلية محيّدة. لكن مشكلة هذا اللوبي هي"حزب الله"في لبنان والضمانات السورية بصدد هذا الحزب في حال التوصل الى صفقة. وكما في ايران، فما يريده النظام في دمشق هو بقاء النظام. والإقرار ببقاء النظام يعني غض النظر عن عودته الى لبنان واستعادة هيمنته عليه. هنا يبرز الفارق بين الادارة الأميركية وبين الحكومة الاسرائيلية. جورج دبليو بوش ليس مستعداً للتضحية بلبنان في اطار الصفقة السورية - الاسرائيلية أو خارجها. ثم هناك المحكمة الدولية التي ستحاكم الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان والذين، حسب التقارير الدولية السابقة وحسب الاعتقاد السائد، يشملون مسؤولين في سورية. لذلك، هناك سيناريو الحرب المدروسة والمضبوطة بين سورية واسرائيل التي تستخدم لبنان ميداناً أساسياً لها انما بقليل من الاحتكاك المباشر بين سورية واسرائيل. وحسب هذا السيناريو، تحقق اسرائيل الانقلاب على السمعة التي حرثتها في حربها البائسة على"حزب الله"الصيف الماضي والتي خرج منها خاسران: اسرائيل و"حزب الله". ثم، بعد"الانتصار"المدروس على"حزب الله"تتسلم سورية زمام ضبط الأمور داخل لبنان لتهدئة"حزب الله"والفصائل الفلسطينية المسلحة التي تقوم الآن بتصديرها الى جنوبلبنان لتستفز قوة الأممالمتحدة"يونيفيل"وتضطرها للخروج من هناك كي تكون هذه الحرب ممكنة. أين الجولان في المعادلة؟ لبنان أهم بكثير للنظام في دمشق من الجولان. ثم ان"تحرير"الجولان كاملاً يسحب من النظام في دمشق منطق وجوده، شأنه شأن اسرائيل. فكلاهما يحتاج النزاع وكلاهما يخشى السلام. ولكن، هناك من يعتقد ان مسألة السلام واردة في اتفاقية سلام تلي الحرب المضبوطة وان هذا جزء من أحد السيناريوهات والتفاهمات الجارية وراء الكواليس بين سوريين واسرائيليين. ماذا عن"حزب الله"في هذه المعادلات؟ ليس مستحيلاً ان يكون"حزب الله"طرفاً في التفاهمات على اساس ان عودة سورية الى لبنان تضمن له السلطة والحكم في لبنان. وعليه، قد يكون جزءاً من الحرب المضبوطة ويقبل ب"هزيمة"تكتيكية إذا كانت ستأتي عليه ب"الانتصار"وبالفوز بالحكم والسلطة. ايضاً، ليس ضرورياً ان يقوم اي تفاهم أميركي - ايراني على التخلي عن"حزب الله"بمعنى التخلي التام. انه التخلي عن الحزب كميليشيا مسلحة، انما لا حاجة لهذه الميليشيا كما هي في دولة يتحكم بها ويحكمها"حزب الله"في إطار تفاهمات على التهدئة والتعايش وسلام الأمر الواقع مع اسرائيل، اي ان"حزب الله"لا يبدو محيداً في مختلف سيناريوهات الصفقات والحروب والحوار وانما يبدو حلقة اساسية. الإطاحة بالحكومة اللبنانية جزء رئيسي من هذه السيناريوهات، واسرائيل تعرف ذلك جيداً. قد تتفاهم على"حزب الله"مع سورية، وقد تشترط على دمشق الاستغناء عن"حزب الله"إذا كانت ستحصل على الضمانات الاسرائيلية التي تريدها. ما يجدر بالولاياتالمتحدة وأوروبا، لا سيما فرنسا، ان يوضحاه لاسرائيل ولغيرها، هو الرفض القاطع لتحويل لبنان الى سلعة في مقايضات الهروب من العدالة والتهرب من استحقاقات السلام. وهذا يتطلب قراراً استراتيجياً بمنع انهيار الجيش اللبناني في المعارك التي يخوضها اليوم ضد"فتح الاسلام"والعناصر المسلحة التي يتم تصديرها اليه من سورية. يعني ضرورة تمكين هذا الجيش، بسلاح وعتاد ومواقف وليس فقط بمواقف سياسية معه ومع الحكومة. فالسيناريوهات شيء والواقع على الأرض شيء آخر. فلبنان سيتحول تدريجياً الى"ستان"آخر يتدفق اليه المتطوعون التدميريون في موسم الهجرة من العراق. قد تعتقد القوى المتحالفة ضد الدولة والجيش والحكومة ان بوسعها ضبط اعداد وكميات الوافدين الى لبنان عبر الحدود السورية. انما بعد الانسحاب الأميركي من العراق، قد تفلت الأمور بفوضى عارمة وقد تختل موازين الرعب والتحالفات في نشوة أوهام معادلات النصر والهزيمة. ايران سترث عراقاً متفجراً وحروباً لم تكتمل فيه. وكذلك سورية التي ستكون جارة لعراق هائج وغاضب ومفعم بالمتطوعين والتكفيريين والجهاديين والقياديين في حرب طائفية بشعة. لذلك، ان الإفراط في تقويم وتقدير القدرات السورية والايرانية سيؤدي الى مفاجآت من نوع آخر ويجب تجنبه. يجب العودة الى بعض الواقعية بدلاً من التحليق في سيناريوهات الحوارات والحروب الآتية. فالنظامان في طهرانودمشق ضعيفان لدرجة تستحق التدقيق في ما إذا كانت الصفقات معهما مغامرة أو ضماناً. والمسؤولية الدولية يجب ان تتمثل في منع انهيار دولة أخرى في خضم صفقات الانحناء أمام أنظمة وميليشيات.