يتعرض العراق لأزمات حادة ومتلاحقة في جميع المجالات. ولعل أخطرها وأشدها وطأة تلك المتمثلة في التدهور المريع في الوضع الأمني وغياب الاستقرار والانقطاع بل التوقف الطويل والمرهق في الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والوقود. وهي مصاعب عسيرة لم تعد خافية على أحد وباتت تهدد الحياة العامة والخاصة للمواطنين وتنذر بمزيد من المتاعب والمعاناة. ان السبب المباشر لهذه الحالة المأساوية هو اشتداد موجة الإرهاب والعنف والنشاطات المناهضة للوضع الجديد التي تغذيها وتنفذها جهات عديدة داخلية وخارجية، فضلاً عن اقترانها بتناحر طائفي بغيض وتدخل اقليمي بات يشكل عاملاً في خلق الأزمات الداخلية وتأجيجها. ومع هذا، فإن جذر المعضلة والعجز عن معالجتها يكمن في أزمة الحكم وشلل الدولة وأجهزتها وقصورها عن النهوض بمسؤولياتها ووظائفها بصورة طبيعية تكفل حماية المجتمع والموارد العامة وممتلكات الدولة والمواطنين، وتؤمن سيادة النظام والقانون وردع الشبكات الإرهابية والإجرامية والضالعة بالفساد. ويترتب على ذلك التأكيد على أن المعالجة الأسلم والأكثر واقعية لأزمة الحكم في الظروف الراهنة يجدر أن تتم في اطار تطوير العملية السياسية وترشيد مؤسساتها وان تستهدف تحقيق الغايات الوطنية والديموقراطية المعبرة عن المصالح المشتركة للشعب بجميع فئاته. وفي مقدمتها استعادة وترسيخ الوحدة الوطنية ومكافحة الممارسات الطائفية، واحترام حقوق الانسان. لقد مر أكثر من عام على تشكيل الحكومة الحالية وانتخاب مجلس النواب القائم، وتوفرت خلال هذه الفترة معطيات ودلالات مهمة بالنسبة للأداء الحكومي والنيابي وهي تستدعي المراجعة والتقويم واستخلاص النتائج الضرورية التي تساعد على الخروج من المأزق السياسي الراهن ومعالجة الأزمات والمصاعب التي يكتوي بها المجتمع بجميع فئاته وطوائفه. فالحكومة الراهنة تسمى اليوم بحكومة الوحدة الوطنية ويفترض بهذه التسمية أن تكون معبرة عن وحدة حقيقية على صعيد العمل والسياسات بين الأطراف المشتركة فيها، إلا أن التجربة الماضية والحالية تفيد بعكس ذلك ونقصد بذلك وجود تناقض أو تعارض كبير بين الرغبة المشتركة المعلنة في تبني سياسات وبرامج سليمة، وبين الالتزام بها، فضلاً عن غياب الأدوات والوسائل والضمانات الضرورية لتنفيذها وترجمتها في الواقع العملي. ان فكرة قيام حكومة الوحدة الوطنية فكرة طيبة وتعكس الحاجة لتجميع وتعزيز الجهود الوطنية في اطار رسمي وعملي موحد. وهي هدف رفيع ينشده المجتمع لتوفير أسباب القوة وحشد الطاقات الوطنية بوجه المخاطر المحتملة، غير أن الصيغة الراهنة لحكومة الوحدة الوطنية القائمة لا تعكس هذه الحقيقة بل تجسد غطاء خادعاً لما هو نقيض لفكرة العمل المشترك والأهداف الموحدة. فتجربة السنة الماضية من صيغة الحكم هذه قد أبانت الكثير من التناقضات وأكدت على احتدام الصراع بين الأطراف السياسية المشتركة فيها بحيث لم تعد هنالك سلطة موحدة بل مراكز عديدة للسلطة المركزية، بالاضافة الى شيوع حالة من التسيب والفوضى في ممارسة الحكم في المحافظات. ولعل الخطاب السياسي والإعلامي لبعض القوائم يعكس موقفاً مزدوجاً ويشير الكثير من المفارقات التي لا تبرر استمرار مشاركتها في الحكومة، بل ان الواقع يشير الى ما هو أسوأ من ذلك بانتقال هذا الصراع بين الأطراف المشتركة في الحكم الى الشارع. ان الصيغة المعتمدة للتشكيل الحكومي والقائمة على المحاصصة الطائفية والحزبية الضيقة واعتماد نظرية"التوازن بين المكونات"، هذه قد حملت منذ اليوم الأول أسباب الشلل والعجز عن تأدية مهماتها، إذ أنها تعتمد نظام عمل غريب لا يوفر تحديداً سليماً للمسؤوليات ويتيح احتمالات الشلل في الأداء الوزاري المشترك، فلا رئيس الوزراء يمكنه أن يمارس سلطاته وفق صلاحياته المألوفة في البلدان الأخرى، ولا التشكيل الوزاري يستطيع أن يعمل بحرية إلا عبر التوافق القسري في اتخاذ القرارات. فما أكثر الحالات التي تؤكد قصور الحكومة ورئيسها عن ممارسة مسؤولياتها كما تقتضي الحال. وهي تشكل سبباً رئيسياً لشيوع ظاهرة توزع الولاءات داخل الأجهزة التنفيذية والأمنية واختراقها من جانب قوى مسلحة غير رسمية. ويستخلص من ذلك ان الإصرار على التمسك بصيغة الوحدة الوطنية لم ولن يكون أمراً مبرراً وعملياً بسبب التناقضات الموجودة بين الأطراف السياسية، وكان ينبغي أن تتشكل حكومة ائتلافية ممثلة لغالبية برلمانية من شأنها أن توفر مستلزمات ممارسة السلطة بشكل صحيح وحازم، من خلال تفعيل دور الدولة ومؤسساتها ضمن انضباط وولاء وظيفي واحد وصارم، وهذا لن يضير الممارسة الديموقراطية بأي سوء، إذ يمكن للأقلية أن تدخل حلبة الصراع الديموقراطي من موقع المعارضة البرلمانية. فالمنافسة من خلال البرامج والسياسات والأداء السليم هي شرط حيوي للممارسة الديموقراطية الصحيحة، وهذا ما افتقدناه ونفتقده بالإصرار على تشكيل حكومة وحدة وطنية بصورة قسرية ومحكومة بشروط تعطيلها. لذا فإن المصلحة تقتضي أن يعاد النظر بهذه الصيغة واعتماد بديل عنها متمثلاً بحكومة غالبية ائتلافية متماسكة وخاضعة للضوابط الدستورية كما يقتضيه النظام البرلماني الصحيح. وأهمها الالتزام بمبدأ تداول السلطة بصورة سلمية وديموقراطية. ويكون بمقدور هذه الحكومة عند ذاك ان تقوم باستعادة هيبة الدولة ووحدة أجهزتها التنفيذية والأمنية والتصدي لشبكات الإرهاب والعنف الطائفي والتدخل الخارجي، وأن تعمل على تعزيز الوحدة الوطنية والتكافل الاجتماعي. أما إذا تعذر عليها الإيفاء بهذه الالتزامات وبرنامجها الرسمي. فتخضع آنذاك للمساءلة البرلمانية واحتمال فقدان الثقة من جانب مجلس النواب وتأليف حكومة جديدة. ويستخلص من هذه التجربة المؤلمة ضرورة العمل على اعتماد قانون انتخابي عصري جديد بديلاً عن القانون الحالي للقوائم المغلقة يكفل للمواطنين إمكانية الاختيار الصحيح للنائب وفق المعايير السليمة في النظم البرلمانية الصحيحة. كما يتطلب الأمر ضرورة التوجه لمعالجة القصور الحاصل في عمل مجلس النواب الحالي والدعوة الى انتخابات نيابية جديدة في نهاية هذا العام. ويتعين أيضاً التوقف عند الدور المقلق لقوات الاحتلال في العراق، والتي أسهمت في خلق المأزق السياسي الراهن والأزمات المتلاحقة. فهناك الكثير مما يستدعي ضبط العلاقة مع هذه الجهات على أسس سليمة وتنظيمها وفق اتفاقية أمنية تكفل المصالح الوطنية. فالتجربة الماضية قد أبانت العديد من الحسابات والممارسات الخاطئة للقوات الأجنبية نتيجة لقراءة خاطئة للواقع العراقي وخصائصه والتي انعكست في العجز عن توفير الأسباب الضامنة لأمن البلاد واستقرارها، وأفسحت المجال للتناحرات الطائفية وتعطيل دور الدولة وإضعاف هيبتها. * عضو مجلس النواب العراقي