زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    المركز الوطني للأرصاد يحذر من المعلومات الفردية غير الرسمية عن مناخ المملكة    غارة إسرائيلية على «الضاحية» تقتل 8 وتصيب 59.. وأنباء عن مقتل قيادي كبير في حزب الله    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    رئيس جمهورية جامبيا يصل إلى المدينة المنورة    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    "رفيعة محمد " تقنية الإنياغرام تستخدم كأداة فعالة لتحليل الشخصيات    تشكيل النصر المتوقع أمام الاتفاق    الجبير ل "الرياض": 18 مشروعا التي رصد لها 14 مليار ريال ستكون جاهزة في العام 2027    إصلاحات في قانون الاستثمار الجزائري الجديد    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    «اليوم الوطني» يستذكر بطولات التأسيس وبناء الدولة الحضارية    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    التزامات المقاولين    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    قراءة في الخطاب الملكي    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    حروب بلا ضربة قاضية!    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    نائب أمير منطقة جازان ينوه بمضامين الخطاب الملكي في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل الاصلاح والتغيير في سورية - نحو عقد وطني جديد . مسائل المصالحة الاهلية وشروط الاصلاح ودور المعارضة وسائر الديموقراطيين 2 من 2
نشر في الحياة يوم 20 - 09 - 2001

بعدما تناولت حلقة الأمس حقيقة الاوضاع وطبيعة الازمة التي تعانيها الوطنية السورية، هنا التتمة الاخيرة:
في الاصلاح يمكن ان نعدد ما شئنا من التصورات والمشاريع. وكلها يمكن ان تكون بالمطلق صالحة ومفيدة بحسب ما نحدده لأنفسنا من اهداف. فتحديث الادارة اصلاح وتعديل الدستور اصلاح واعادة هيكلة المؤسسات الصناعية، بل مؤسسة صناعية واحدة اصلاح. انما المهم هو ان نعرف ما هو مضمون الاصلاح الذي تحتاج اليه سورية لتصلح احوالها وتخرج من ازمة الانقسام على الذات الذي يحكم عليها بالجمود والشلل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي تعيشه منذ عقدين. وهنا لا يمكن ان يوجد مئة اصلاح صالحة معاً.
لا يلغي ذلك بالتأكيد ان للاصلاح جوانبه المتعددة والمختلفة، الاقتصادية والادارية التي يبدو ان الحكومة الراهنة تشدد عليها. لكن لا يمكن أي اصلاح في اعتقادي ان يعطي نتيجة او يترك اثراً ما لم ننجح في اعادة بناء الوطنية السورية على اسس قوية وثابتة وترميم النسيج الاجتماعي. ويستدعي هذا فتح حوار وطني منظم وواسع وعميق يعيد التفكير في الاساسات التي تقوم عليها الحياة الوطنية، اي الفردية والجماعية معاً، في سورية ويعيد تجديد العقد الوطني الذي اصابه الدمار، وهو العقد الذي تم انضاجه في حقبة الصراع ضد الاحتلال، وقام على التفاهم الضمني بين مكونات المجتمع السوري الدينية والطائفية والعشائرية والمناطقية، واستبداله بعقد جديد يأخذ في الاعتبار المعطيات والقوى والمصالح والتحديات الجديدة. وأعتقد ان اعادة بناء العقد الوطني على اساس تعاقد مواطنين احرار لا زعماء جماعات وعصبيات ومناطق، هو الوحيد الذي يستطيع ان يخرج الوطنية السورية القديمة من ازمتها الراهنة ويمكننا من اعادة بناء الدولة والمجتمع المدني معاً على اسس ثابتة وعصرية بالفعل. اعني على اسس قادرة على الوقوف في وجه الرياح العاتية التي تعصف بالمجتمعات في هذا التاريخ الصعب وفي المستقبل الاصعب، وعلى توفير الضوابط اللازمة لمنع التسلط الداخلي، وكذلك المرونة الكافية لامتصاص التوترات والتناقضات والاختلافات من دون تهديد الوحدة الاجتماعية والاضطرار الى تكرار الحروب الاهلية كما هو الحال في الكثير من الدول النامية التي لم تعرف كيف تنضج مثل هذا العقد الوطني على اسس ثابتة ومتينة. ولا يمكن اطلاق مثل هذا الحوار وايصاله الى اهدافه المنشودة، اي في الواقع الى اعادة بناء اطار التفاهم والتضامن بين جميع مكونات الشعب، ما لم يتحقق الخروج من الاوضاع الاستثنائىة والعودة الى الحال الطبيعية. ذلك ان غياب مثل هذا التفاهم الوطني الحقيقي هو الذي يمنع الخروج من النظام البيروقراطي الذي هجرته مئات المجتمعات الاخرى منذ عقود بمقدار ما يزيد شك المجتمع بنفسه ويضاعف خوفه من ان يقود التغيير الى صراعات اهلية وتمزقات اكثر مما يؤدي الى تحسين الاوضاع.
لكن من المؤكد اننا لن نستطيع ان نخطو الخطوة الاولى والضرورية على طريق اعادة بناء الوطنية السورية ما لم نمتلك الجرأة على مواجهة الحقيقة، مهما كانت أليمة، وما لم ننظر الى التاريخ ببصيرة وأن تقبل جميع الاطراف الحقائق الجديدة وطي صفحة الماضي وتصفية آثار المرحلة السابقة ونتائجها وبدء صفحة جديدة.
وتعني مواجهة التاريخ ببصيرة انه لا ينبغي علينا ان نخفي عيوبنا وأمراضنا سواء كان ذلك بسبب خوفنا من مواجهة الحقيقة او خشيتنا من الاعتراف بالمسؤولية واحتمال التعويض عنها. فلا يفيد اخفاء الحقيقة التاريخية الا في جعل آثارها ممتدة اكثر وجروحها غائرة في شكل اعمق. ان جميع الشعوب الكبرى مرت بحرب اهلية قبل ان تنجح في بلورة عقد اجتماعي يضمن لها الاسقترار البعيد القائم على التفاهم الواعي والتعاقد العلني بدل الاستقرار والوحدة الوطنية الكاذبين القائمين على المداهنة والنفاق والتغطية على المخاوف والتناقضات والاشكالات المهروب منها وغير المسيطر عليها. فنشأت الولايات المتحدة الاميركية كما نشأت فرنسا وبريطانيا وايطاليا وروسيا والصين الحديثة وكل الدول الجديدة على انقاض حرب اهلية راح ضحيتها ملايين البشر. وكانت هذه الحرب مناسبة لتصفية الصراعات الدفينة واعادة التوازنات وتوضيح صيغة الاجتماع السياسي المشترك، وتبيان حقوق الناس وواجباتهم، اي مناسبة لتأسيس اجتماع سياسي جديد قائم على عقد واضح ومنشئ لحقوق وواجبات فعلية لا وهمية مكتوبة على الورق. وبالتالي لفتح صفحة جديدة وحياة دستورية قائمة بالفعل على الحرية والمساواة والعدالة. ذلك ان اساس هذه الحروب جميعاً لم يكن شيئاً آخر سوى التمييز والاضطهاد والقهر لفئة من المجتمع او تجاهها. وكان هدف الحروب الاهلية جميعاً ومحركها تهديم الامتيازات وتكنيس كل آثار مجتمعات القرون الوسطى القائمة على التمييز بين المراتب والدرجات والطبقات، اي تكوين امة بالمعنى الحديث للكلمة قائمة على تعاقد افراد احرار ومسؤولين. وبمثل هذا ينبغي ان نخرج من حربنا الاهلية اذا لم نشأ ان نعود الى تكرارها ثانية كما هو حاصل في بلاد مجاورة لنا، وهذا يقتضي الاّ نستبدل سياسات التمييز والعزل الماضية بسياسات تمييز وعزل جديدة معاكسة.
ويعني الاعتراف بالحقائق الجديدة ان يدرك جميع السوريين ان سورية المدينية العثمانية بقيمها وتقاليدها وأساليب عيشها وحكمها معاً دُفنت نهائياً ولن تعود ثانية ابداً. وأن سورية الجديدة لن تقوم الا اذا عرفت كيف تفتح اذرعها بالتساوي لجميع ابنائها، في اي منطقة ولدوا والى اي مذهب انتموا. لكن سورية الفلاحية المعادية للمدينة والانتقامية لن تعيش ايضاً الا اذا خلدت حال الحرب والحصار.
ويعني طي صفحة الماضي الصفح المتبادل عما حدث، لكن في اطار من الوعي الواضح وتحمل المسؤولية، اي ليس على مبدأ تبويس اللحى ولكن على مبدأ الاعتراف والنقد الذاتي والتعاون على تصفية ذيول المواجهات الماضية، بما في ذلك الافراج عن المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين واراحة عائلاتهم والتعويض المعنوي والمادي للضحايا وأسر المنكوبين. وفي اعتقادي ان الحرب حسمت وانتهت بالفعل لكنها لا تزال تنتظر من يعلن نهايتها الرسمية ويأخذ على عاتقه مسؤولية أو مهمة تضميد الجراح ورأب الصدع والتعويض عن الخسائر والارواح. وهذه هي مهمة الدولة ومسؤوليتها ولا يمكن أحداً آخر ان يحل محلها فيها.
ويعني بدء صفحة جديدة في تاريخ سورية العودة الى الوضع الطبيعي الذي يضع جميع المواطنين سواء امام القانون والحقوق والواجبات، ويوحدهم في اطار نظام يضمن لجميعهم المشاركة بالمقدار نفسه وعلى قدم المساواة في سياسة بلدهم وتقرير مصيره. كما يعني اعادة التوازن بين القوى الاجتماعية. وهذا لا يتم الا بالخروج النهائي من حال الفوضى المنظمة التي تغطي استمرار منطق المواجهة والصراع الى النظام الدستوري القانوني. ومن هنا يأخذ الاختيار الديموقراطي موقعه وأهميته. ذلك ان اختيار الديموقراطية والاحتكام الى قانون الاقتراع العام لا يعني هنا مجرد الاعتراف بالحرية الفردية ولا بأولوية السياسة على الاقتصاد ولكن كوسيلة لا بديل لها اليوم للعودة التدريجية الى الحال الطبيعية ووضع حد لدولة الاستثناء والدولة الاستثنائية. فهو يشكل الدليل والمعيار الوحيد للعودة عن منطق النزاع الماضي والانتقال الى نظام يعترف بالجميع ويضمن للجميع الحقوق المتساوية ذاتها. ودفع هذا الاختيار الى الوراء او تأجيله، لأي سبب كان، لا يمكن ان يعني شيئاً آخر سوى تأجيل سياسة المصالحة الاجتماعية وتأكيد الثبات على نظام الاوضاع العرفية.
إن جميع الشعوب تتعرض في مرحلة او اخرى من تاريخها الى هزة وطنية داخلية نتيجة تقادم الاسس التي قام عليها عقدها الوطني وترهلها. لكن وحدها الشعوب التي تظهر جرأة على مواجهة مشكلاتها ونزاعاتها بروح الجدية والمسؤولية تستطيع ان تأخذ العبر منها وتتجاوزها. اما الشعوب التي تخشى من مواجهة نفسها والنظر في مشكلاتها، ولا تعرف كيف تنهي حروبها وتخرج منها، فهي ليست مضطرة الى تكرارها حتى تتعلم منها فحسب، ولكن ربما الى ان تنتهي معها.
إن مسؤولية اطلاق مسار المصالحة الاهلية والخروج من مناخ المواجهة الاهلية تقع على عاتق الدولة ذاتها التي ينبغي ان تعود الى وظيفتها الطبيعية حَكَماً بين الاطراف الاجتماعية لا طرفاً فيها. وستكون فرصة عظيمة ان يأخذ رئيس الجمهورية المبادرة في خطاب منتظر يعلن فيه استعداد الدولة لتحمل مسؤولياتها في هذا المجال والعودة الى الحياة الطبيعية التي تقوم على تكريس المساواة الكاملة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتكليف الحكومة الاعداد لانتخابات ديموقراطية خلال فترة معقولة تسمح لجميع قطاعات الرأي العام بالمشاركة في التحضير الفكري والسياسي لها. وينجم عن الانتخابات جمعية تأسيسية يتلخص جدول اعمالها في تنظيم الحوار الوطني والاعداد لدستور جديد للبلاد وبلورة مشروع الاصلاح الوطني الشامل الذي يحتاج تحقيقه الى مساهمة جميع قطاعات الرأي العام والتزامها. فوحدها مبادرة استثنائية وخلاقة من هذا الطراز يمكن ان تعطي الشعب المستنزف مادياً ومعنوياً الدفع والحماسة النفسية اللازمة لتجاوز نقاط الضعف الكبيرة والتعويض عن نقص الوسائل والامكانات. والقيادة القوية هي تلك التي تحفز الشعوب على الارتقاء وترتفع بها الى مستوى المثل الاخلاقية لا تلك التي تدغدغ مشاعر الضعف والانانية والمصالح الشخصية لديها. وليس هناك الا حركة قوية من هذا النوع يمكن ان تفجر مشاعر الايمان بالذات والتضامن ونكران الذات والكرم العميق الكامن فيها، وتدفعها الى تجاوز التحديات والتناقضات العميقة التي تكبلها وتقضي على روح المبادرة والعمل لديها. وسيجد الشعب بجميع فئاته والرأي العام بجميع قطاعاته يقف الى جانب هذه المبادرة ويحمي مشروع اخراج سورية من حال الاحباط الوطني والشك بالذات وانعدام الأمل بالمستقبل.
فلا يوجد هناك من يريد اليوم في سورية ان يعيد الماضي الى الحياة او ان يستبدل حكماً بآخر. لكن جميع السوريين يبحثون عن سبيل ناجع للعمل الايجابي الجماعي وتغيير قواعد الحكم والاصلاح الهادف الى اقرار الحرية والعدل والمساواة بين جميع الناس.
ولا يغني رأب الصدع الوطني عن اصلاح السياسات ولا عن تقويم عمل الادارة والمؤسسات ولا عن بناء نظم صالحة للتعليم والصحة والنقل والبحث والتقنية والخدمات الاجتماعية وغيرها. وليس هناك اي تناقض في ما بينها، فهي جميعاً اهداف ضرورية ومترابطة. لكنه يعني بكل بساطة ان تحرير سورية من مخاوفها ونزاعاتها العميقة وتطمينها على مستقبلها واعادة الثقة اليها في قياداتها ونخبها هو وحده القادر على تفجير طاقات ابنائها وإطلاق ايديهم من القيد وعلى اعادتهم الى سكة العمل والانتاج والابداع. وليس هناك اصلاح يمكن ان ينجح او يقود الى نتيجة من دون مشاركة المجتمع الايجابية وقبوله باقتسام الواجبات والالتزامات المطلوبة منه لتحقيقه. وفي هذه الحال يمكن ان نحقق في اشهر ما يحتاج تحقيقه في الظروف الروتينية الى سنوات ونتجاوز مصاعب وتناقضات تبدو لنا في الاحوال العادية عنيدة كالجبال.
وليس هناك شك في ان الاصلاح الاقتصادي هو العمود الفقري لأي اصلاح في كل المجتمعات الحديثة. لكن الاقتصاد، قبل ان يكون استثمارات ومؤشرات احصائية، هو مسألة وطنية واجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية قبل ذلك جميعاً.
ولم يعد هناك من يعتقد ان من الممكن اصلاح الاقتصاد بالاعتماد على الادوات الاقتصادية والانكفاء عليها. والتنمية الاقتصادية التي يمكن ان ينتظر منها نتائج ايجابية تنعكس على حياة السكان، تتطلب المراهنة على المجتمع ذاته، على عماله وفلاحيه وموظفيه وكوادره وعلى تدعيم طبقة وسطى محلية وفتح الآفاق امام نمو طبقة رجال اعمال وطنية قادرة على تعبئة الموارد والادخارات الداخلية وتثميرها وايجاد فرص العمل الضرورية لامتصاص البطالة المتصاعدة. وهي تتطلب عودة ثقة المجتمع بنفسه ووطنه ودولته وبزيادة قدرته على تحمل مسؤولياته وأخذه مصيره بيده.
وليس ما تحتاج اليه سورية اليوم اصلاحاً يراهن فقط على الرأسمال الدولي ويدعم بالضرورة، كما حصل حتى الآن، وكما تظهره جميع الدول التي اخذت بهذه السياسة، طبقة المضاربين بأموال الدولة وأملاكها والمغتنين على حسابها من دون ثمن تقريباً، وبالتحالف والتعاون مع الرأسمال الدولي، من دون ان تحقق للمجتمع اي نقل فعلي للتقنية كما ينتظر منها ولا للخبرة ولا للتوظيف ولا حتى أي موارد ضريبية. وليس ما تحتاج اليه ايضاً اصلاحاً يكمل مسار النزيف المستمر للكوادر الفنية والمواهب ورجال الاعمال والمستثمرين وفرص الاستثمار. ان ما تحتاج اليه كي تمتص جزءاً من التوترات التي تعيشها وتفكك الالغام الكثيرة المزروعة على طريقها وترد على التحديات الجديدة للسوق العالمية الحرة هو خلق وضعية سياسية واجتماعية ونفسية جديدة لاعادة تأهيل المجتمع المستنزف ووضعه في شروط العمل والانتاج والابتكار، اي خلق شروط نهضة وطنية بالمعنى الحرفي للكلمة تتجاوز في الطاقات التي تعبئها والآثار التي تحدثها والنتائج التي توصل اليها منطق الحسابات العادية. ويتطلب بعث روح النهضة والانتصار على مشاعر اليأس والألم والبؤس وانعدام الثقة بالذات والاحباط والتخلي عن المسؤولية مشروعاً للاصلاح ملهماً وعميقاً وبعيد المدى يشمل بالضرورة الحياة الدستورية ويعيد بناء المؤسسات، من الدولة الى المجتمع المدني وهيئاته الاهلية، ويقضي على المفاهيم وأساليب العمل ونماذج الأداء القديمة التي جعلت المجتمع السوري يعيش متأخراً عن معظم المجتمعات العربية المحيطة به عقوداً عدة.
ويعني تجديد الحياة الدستورية اعادة النظر في عملية اتخاذ القرار وتحديد دور الدولة ودور المؤسسات واقامة التوازنات بين السلطات المختلفة والتمييز بدقة بين الصلاحيات المعطاة لكل هيئة وتثبيت قواعد العمل التي ينبغي ان تصبح مرعية في كل مؤسسة. فالسبب الاول لفساد النموذج المجتمعي الشمولي لم يكن شيئاً آخر سوى الاختلال الخطير الذي امتاز به في توازن القوة والسلطة. فهو نموذج يلغي التوازنات الكبرى جميعاً، ويوحد السلطة بكل اشكالها في يد هيئة واحدة لا تخضع لأي مراقبة سوى نفسها. وهذا يمكنها من ان تفعل ما تشاء وتترك ما تشاء وتوزع الثروة المادية والمعنوية كيفما تشاء وعلى من تشاء.
ويفترض مثل هذا الاصلاح الاتفاق على مسائل اساسية والرد على تساؤلات سياسية تعبر عن اختيارات اجتماعية. ومن هذه المسائل ما هو ذو طبيعة عامة مثل تقرير نوع النظام جمهورياً رئاسياً أم برلمانياً، اشتراكياً ام ديموقراطياً. وتحديد مكانة الدولة بالنسبة الى الحزب، هل هي دولة الحزب الواحد ام دولة تعددية.
وتعيين دور الدولة في الاقتصاد، هل هي حكم يسن القوانين ويبين قواعد العمل ويراقب سلوك الاطراف الاجتماعية ويتركها تعمل في اطار القانون، كما تدعو النظرية الليبرالية، ام هي فاعل اقتصادي ايضاً، يتدخل في الحياة الاقتصادية من اجل وضع الاهداف وتوجيه الاستثمارات، والتوسط بين الاطراف ودفعها نحو ممارسات محددة ضمن خطة تنمية شاملة متفق عليها ومناقشة من جانب البرلمان، كما تدعو الديموقراطية الاجتماعية، ام هي رب عمل وبديل للمجتمع وأطرافه المختلفة كما عرفتها النظم السوفياتية. وما هو دور الدولة في السياسة، هل هي منشئ لسلطة خاصة تفرض نفسها على المجتمع، أم هي تعبير عن سلطة صادرة عن المجتمع، وهل هي ارادة شخصية وخاصة مستقلة عن المجتم عام هي اطار يقدم نفسه للأطراف الاجتماعية كي تنظم امورها ضمن قواعد تعاقدية، وتؤمن لهذه الاطراف ادوات التشاور والتفاوض والتفاهم والتعاون لتحقيق الاهداف المتفق عليها. ودور الدولة في الثقافة والمجتمع، هل هي مبشر صاحب عقيدة يريد ان يفرضها على المجتمع ويدفعه الى اتباع نماذج محددة للسلوك والتفكير والتصرف يعتبر انها تعبر عن الحقيقة او عن السلوك الاخلاقي الصحيح أم هي مؤهل او اداة تأهيل تقدم للأفراد وللأجيال الجديدة فرص التكوين والتدريب والتفتح والازدهار، في اطار المؤسسات الثقافية والعلمية والتربوية، وفي اطار احترام حرية الرأي والضمير وتفتح المواهب الذهنية.
وكما ان لا اصلاح للدولة من دون اصلاح الدستور، فلا اصلاح للدولة من دون اصلاح المجتمع. ويعني هذا الاصلاح هنا تغيير الدور الذي اعطي له حتى الآن في القرار العام، كما يعني تجديد الاسس التي تقوم عليها هيئاته الاهلية والمدنية. وهذا يطرح سؤالاً اساسياً: ما هو المجتمع الذي نريد بناءه، هل نريد بناء مجتمع خاضع للدولة ومستسلم لها يطبق ما تطلب منه ويسلم لها في تقرير ما ينتظر منه، ام نريد بناء مجتمع حي ومسؤول وفاعل. وفي هذه الحال يكون من الضروري الاستثمار في اصلاح الهيئات الاجتماعية والمجتمع المدني وتحرير هذا المجتمع ودعمه وتنشيطه وتدريبه حتى يستطيع ان يتحمل مسؤولياته ويقوم بالمهام الكبيرة المنتظرة منه للخروج من الركود والانحطاط الاخلاقي والمادي معاً.
وبالمثل، لن يستطيع المجتمع ولن تستطيع الدولة تنفيذ اي هدف وانجاز اي اصلاح اذا بقيت حال المؤسسات المدنية، والبلديات والمديريات والشركات العامة والخاصة، كما هي عليه اليوم. فالمطلوب هنا كما هي الحال في كل النظم العمومية ضرورة العمل على احلال العلاقات الموضوعية والعقلانية، اي غير المشخصنة، محل العلاقات الشخصية والزبائنية والعشائرية التي جوفت المؤسسات وأفرغتها من اي مضمون، حتى صار من الطبيعي ان تختصر كل واحدة من المؤسسات السورية برئيسها الذي يتصرف فيها كما يتصرف مزارع في مزرعة ابيه. ولذلك لم يعد هناك عمل منظم ومنتظم ولا استخدام للموارد والملاكات بطريقة عقلانية وزاد الهدر والتسيب والاستهتار بالواجب. وضاعت الروح المؤسسية، اي النظام والانضباط والتنظيم العقلاني للعمل والتعاون والمسؤولية التراتبية والخدمة المجردة والموضوعية ومعها المؤسسات في بحر المزاجية والارادات الشخصية والذاتيات والعصبيات. ومن هنا اصبح المجتمع يشعر بالضياع وبالافتقار الى الاطر القانونية والمكفولة التي لا بد منها لقيام النشاط العام وتثمير الجهد الجمعي، وزاد الحافز لديه الى اختراع اطر وتنظيمات وتعاقدات موازية ولا ضامن لها سوى العلاقات الاسرية او العائلية او ما شابهها لتأمين حد ادنى من التنظيم والاتساق والفاعلية في علاقات التبادل والتواصل الاجتماعية.
بيد ان مثل هذا الاصلاح الذي يطرح نفسه في شكل ملح لا يمكن ان يرى بداية التطبيق اذا لم ينجح المجتمع بجميع اطرافه في تجاوز نزاعاته القديمة والتغلب على مشاعر اليأس والاحباط وانعدام الثقة عنده والانتصار على روح الاستقالة السياسية والاخلاقية للدخول في حوار عميق وجدي يقوم بتصفية ذيول الماضي والتفاهم على مبادئ العمل الوطني وقيمه وأهدافه. فعلى هذا الحوار نفسه يتوقف تجديد العقد الوطني الذي هو اساس تقدم اي مجتمع ومقياس نضجه السياسي.
ولا شك في ان للمعارضة دوراً كبيراً في العمل على خلق سورية الجديدة والانطلاق بها خارج اسوار المشكلات والصراعات الدفينة التي تكبلها. وعلى رغم ما تبدو عليه من ضعف اليوم، الا ان مشاركتها في بناء هذا العقد الوطني، تشكل مساهمة ثمينة ولا يمكن ان يستغنى عنها لجعله عقداً مختاراً ومعبراً عن جميع اوساط الرأي العام السوري. فوجودها ومشاركتها هما اللذان يجسدان روح المصالحة الاهلية ويعملان على انجاحها. وهذا يرتب عليها في المقابل ايضاً مسؤوليات ومهام كبيرة وخطيرة أيضاً، ويتطلب منها:
1- إحداث طفرة في اساليب عملها وأشكال التنظيم والعقليات السائدة في صفوفها والانتقال من العمل العقائدي الى العمل السياسي الموجه نحو بناء القوى، والخروج من منطق العمل السري او شبه السري الى منطق العمل العلني والانفتاح الواسع على الجمهور وكسر الخوف من العمل السياسي الذي بعثه تحويل العمل العمومي الى بقاع مقدسة ممنوعة على غير المزودين رخصة حزبية او امنية رسمية.
كما يستدعي الخروج من نماذج أو أشكال التنظيم البونابرتية المركزية التي سيطرت على اشكال العمل السياسي في القرن الماضي في كل مكان والتي صارت تتخذ شكل تنظيمات مذهبية مغلقة تتزايد عزلتها عن المجتمع بمقدار ما تنمي في داخلها ثقافتها الخاصة وما يميزها عن غيرها من التنظيمات، والأخذ في المقابل بأشكال من التنظيم واسعة ومفتوحة، سياسية لا ايديولوجية، تكون مدارس للتربية والتعبئة الوطنية.
2- تجاوز الانقسام والتشرذم. ففي مواجهة الحضور الساحق والكلي للسلطة في جميع ميادين النشاط الاجتماعي، لا بد للمعارضة اذا ارادت ان تنال ثقة الرأي العام التي هي بطاقة دخولها الى حقل العمل العمومي من ان تعمل على تجاوز خلافاتها النظرية والسياسية، وان تنجح في تكوين قطب ديموقراطي قادر على فرض نفسه في الداخل والخارج على حد سواء، وبالتالي فرض الاعتراف به والتعامل معه. وهذا يتطلب الانتصار على روح العصبوية الحزبية المسيطرة والتي تعكس رؤية قديمة لمعنى التنظيم السياسي وطريقة عمله وأهدافه، وتطوير صيغ جديدة للعمل التحالفي والائتلافي وتجميع القوى في لجان عمل ديموقراطية مشتركة تنتشر في جميع المناطق والمحليات ويجمعها هدف واحد وممارسة مشتركة ومنظمة.
3- التوجه نحو المجتمع والرأي العام. فالمهمة الرئيسة للمعارضة هي اليوم تعبئة القوى الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير والاصلاح. وهذا يستدعي صوغ برنامج الاصلاح الديموقراطي والمشروع الديموقراطي للاصلاح والتغيير. وهو برنامج لا يزال غير موجود. ولا يغني الحديث الدائم عن الديموقراطية والمطالبة بالحريات الاساسية عن وضع برنامج العمل هذا، بأسلوبه وأهدافه المرحلية والقوى المشاركة فيه، وأشكال تنظيم القوى وتحويلها الى قوى ذات وزن وفعل في مجتمعها.
وفي هذا المجال، اعتقد ان المهمة الرئيسة التي يتوجب تحقيقها في السنين القليلة المقبلة، هي تنظيم الطبقة الوسطى السورية وتوحيدها على شعار وهدف واضحين. فهي القوة الاجتماعية الوحيدة التي تملك الموارد المعنوية الضرورية والتي اذا وُحدت تستطيع ان توازن قوة البيروقراطية وتفتح باب التعددية.
ما يعني ان مقدرة المعارضة على المشاركة في مشروع المصالحة سوف ترتبط وهي مرتبطة ارتباطاً قوياً بمقدرة الاحزاب الديموقراطية او شبه الديموقراطية القائمة على لم شتات هذه الطبقة وتخليصها من رواسب الحرب الماضية ولحم صفوفها وبث روح الثقة والارادة والأمل في المستقبل فيها. وهذه الطبقة لم تكن في اي وقت اكثر تشتتاً وانقساماً وتبايناً مما هي عليه اليوم ولا اكثر شعوراً باليأس والاحباط وانعدام المقدرة والارادة والفاعلية منها الآن.
4- توحيد الرأي العام حول اهداف واضحة ومحددة ومقبولة منه. ففي مواجهة العقد الذي تزمع الادارة الاقتصادية توقيعه مع الشركات الدولية الاستثمارية، اي مع الرأسمال المعولم، سواء كانت اصوله سورية أم عربية أم اجنبية، يتوجب على المعارضة العمل، أينما وجدت، على بلورة عقد اجتماعي مع الرأي العام يتضمن تحديد أو تجديد المبادئ الاخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي توجه او نريد لها ان توجه عملنا الوطني، وبلورة صورة ونموذج النظام المجتمعي الذي تدعو الشعب الى النضال من اجله، وتوضيح الطريق الذي ستسلكه مع هذا الشعب نفسه للوصول اليه، والوسائل التي ينبغي تأمينها لتحقيق النجاح فيه.
وفي اعتقادي ان اي عقد اجتماعي ديموقراطي لا يمكن ان يرى النور ما لم ينطلق من تأكيد قيم العدالة والحرية والمساواة، والحياة القانونية السليمة وقدسية الانسان واحترام ارادته وضميره.
وفي النهاية، ان وضع المجتمع السوري على سكة النهضة الشاملة المطلوبة يتوقف على قدرتنا في ان نشجع جميع الاطراف، بل الافراد، على تحمل مسؤوليتهم والمشاركة من موقعهم في العمل على التغيير: السياسي ورجل الاعمال والتاجر والمثقف والمعارض والمواطن العادي.
وهذا يستدعي تغييراً كبيراً في اخلاقيات المجتمع واستعادة لقيم الصدق والصراحة والشجاعة الأدبية. وجوهر هذا التغيير في نظري هو ان نستعيد ذاكرتنا وان نتصرف كأناس احرار. فلا يستطيع احد ان يقرر مستقبلنا ضد ارادتنا، وليس مصيرنا مكتوباً على جبيننا ولكنه من صنع ايدينا.
* كاتب سوري مقيم في فرنسا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.