"أبداً تحن إليكم الأرواح"، يقول شهاب الدين السهروردي في واحدة من أشهر قصائده. أبداً تحن أرواح صادق هدايت إلى سماوات طهران وإلى من اصطفاهم قراءً حميمين. هذا ما قلته لنفسي حين التقيت، محض صدفة مبهجة، شاباً من آله خلال زيارتي الأخيرة لطهران. لم يكن صادق هدايت، وهو من كتّابي الأيقونيين، على برنامج رحلتي الإيرانية البروتوكولية الأخيرة. لما حانت ساعة السفر، رمقت كتبي مودعة، طالبة رضا الخيام وسعدي والشيرازي وكل نزلاء أرففي ذوي القربى بهذا البلد المترامي، الشاغل الدنيا منذ مئات السنين. ودعت جلسائي الإيرانيين متحاشية نظرات صاحب"البومة العمياء"، فهذا الغريب الملعون المنتحر، المدفون في جبانة بير لاشيز الفرنسية الشهيرة، أصابت سهامه مني مقاتل كثيرة، كما أنني تعلمت من قصصه ورواياته ما لا تراه العين من بواطن الشخصية الإيرانية. لولا فرنسيان اثنان هما ناشره جوزيه كورتي ومترجمه روجيه لسكو الذي تيّم بپ"البومة العمياء"يوم أتقن نقلها إلى لغة فولتير في خمسينات القرن الماضي، واندهاش أندريه بروتون بالرواية الغرائبية الأجواء، لحاول إيرانيو تلك الحقبة تهميش موهبة خوارجية بامتياز،"ليست من هنا ولا من هناك"على حد قول صاحبها، منبوذة ومنفية حتى خواتيم ليلنا العربي والفارسي. ارتجفت فرائص أهل القلم في إيران الأربعينات، المجلسين شعراءهم جوار الأنبياء، حين سرى اسم شيطاني الموجع في أوساطهم. فمترجم فرانز كافكا وآلن إدغار بو إلى الفارسية، وعمر الخيام إلى الفرنسية، وقاطع حبل الوريد نثراً روائياً، لا شعراً ولا فلسفة، بشتى صنوف الاستبداد، هذا الملاك الهاوي من شاهق ثقافة تحب الحصون والكلام المبجل الفصل، كان وما زال - للأسف - فوق ما تستطيع الأصوليات احتماله. من أية طينة جُبل صادق هدايت؟ وبأية رماح، لا أقلام كتب ما كتب؟ وما سر بقائه ضميراً معذباً في مكتبات الشرق والغرب؟ لو دأب خلطاؤنا العرب والفرس والأكراد والأفغان على قراءة ما كتبه في العقود الأربعة الأخيرة لجنبنا، لربما، شرقنا الأوسع الدخول في الظلمات التي نحن كلنا فيها. غصص صادق هدايت، مراراته ويأسه الساخر، إيرانيته الموجعة حد التراجيديا، كلها صيرت نثره شهاباً به نصارع دجُناتنا. المتترسون مثلي بأدبه، هو المولع حد الموت بحضارته النابذته حد الانتحار، هؤلاء يطربون إن هم التقوا بمن هو منه، من بعض لحمه ودمه، فكيف إذا كان سليمان هدايت بنظّارتيه وشحوبه نسخة عنه؟ وصلت بعد ظهر ذلك اليوم إلى فندق أزاده وسرت بخطى واثقة صوب مكتب الاستقبال كي أودع جواز سفري، وأملأ الاستمارة المطلوبة، قبل استلامي البطاقة الممغنطة، تلك التي سدت مسد المفتاح في الفنادق المعاصرة. رحّب بي شاب لا يشبه أقرانه وقريناته العاملين والعاملات معه في الفندق. تأملته وقرأت اسمه المدون على سترته: س. هدايت. بلا تردد سألت إن كان من أقرباء صادق. فشرح لي سليمان هدايت أن جده وجد صادق أخَوَان وأنه يحلم بالسفر إلى باريس ليضع وردة قاشانية على مثوى من أنيطت به هموم إيران ومواجعها. "تسكن الباريس التي احتضنت صادق أحلامي، فهل من متحقق في الواقع لهذه الرغبة؟"سألني الشاب النحيل، الذابل يوم جئت أودعه، حين حان قفولي إلى بيروت. رجوته ألا يقنط وأن يستمسك حتى الأفول بإرث قريبه وقريبي مجازاً، الداعي الأحياء إلى إعطائنا براهينهم أنهم كذلك. كم أصاب ناثرنا الموري، عبر أدبه، صنوفاً من القلق شتى:"ما كل الأحياء بأحياء، وما كل الأموات تحت التراب". حي أنت يا سليمان، حية أحلامك، فلا تهجرها. * روائية وناشرة