لعل من يتابع جيداً شعر العامية يدرك للوهلة الأولى أنه مرتبط بمعنى المقاومة. وهو شعر ضد الضرورة، ضد شروط القهر التي ظل الشعب المصري يعانيها، ولا يزال، بمعنى من المعاني. وصلاح جاهين من هذا المنظور هو امتداد لكل شعراء المقاومة بالعامية كالنديم وبيرم التونسي، ويمكن أن نضيف فؤاد حداد والأبنودي وغير هؤلاء من الشعراء. وللمقاومة عند صلاح جاهين محاور ثلاثة: المحور الأول هو الحُب، لأن من يقاوم إنما يقاوم من أجل شيء يحبه وفي مواجهة شيء يبغضه. وكان صلاح جاهين طوال حياته الإبداعية يحب الفقراء، البؤساء، أبناء القاهرة الذين يغني لهم دائماً، ويحتفي بهم، ويأسى لما يحدث لهم، ويواجه من أجلهم كل قوى البطش والطغيان في تجلياتها المختلفة وفي أشكالها المتعددة. من هنا كان شعر صلاح جاهين شعر مقاومة بامتياز، بقدر ما ينطوي على معاني الحب وقيمه ينطوي في الوقت نفسه على معاني الرفض وقيمه. كان يرفض كل ما يشوه الحياة، وكل ما يسيء إلى الفقراء، وكل ما يؤدي إلى ظلمهم، ولهذا تعلق بثورة تموز يوليو 1952، ورأى فيها حلماً قديماً يتحقق، فغنّى لها ومن أجلها ومن أجل أهدافها أجمل الأغنيات، وظل مؤمناً بها مثل أبناء جيله: أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وغيرهما من الذين آمنوا بوعود الثورة في تحقيق الحرية والعدل للجميع. لكن الثورة نسيت وعودها وانقلبت عليها، فكانت كارثة العام السابع والستين التي أحالت الأحلام إلى كوابيس، والإيمان إلى رفض وعدم يقين. وبدأت المراجعة المأسوية ودوامة الهموم والاستغراق في التأمل والإدانة للذات. وبقدر ما كتب أحمد عبد المعطي حجازي"مرثية العمر الجميل"من هذا المنطلق، وصلاح عبدالصبور"تأملات في زمن جريح"كتب صلاح جاهين قصيدته المبدعة"على اسم مصر"من المنطلق نفسه، مراجعاً الحلم الذي تحمّس له، مواصلاً الرفض لكل القيم السلبية التي قضت على الأمل وكل الشرور التي أفسدت الحلم على البسطاء. هكذا ظهر الوجه الثاني لصلاح جاهين الرافض، الساخر، المتأمل في ميتافيزيقا الوجود التي لم تمنع الإنسان من معانقة المستحيل وتحدِّي العدم. وكان من ذلك، وفي سياقه،"الرباعيات"التي لا تزال درة جاهين التي لا مثيل لها. وظل الرفض مرتبطاً بصفة أخرى، لعلها نتيجة لمعنى المقاومة في بعده الخاص بالحب والرفض على السواء، وهي صفة الارتحال بين الأنواع الفنية، الأشكال المختلفة لقصيدة العامية، وأنواع الفنون المختلفة، فظهر الشاعر والرسام والممثل وكاتب الأوبريت والأغاني الساخرة. ولم يكن ذلك كله سوى تعبير عن حال ارتحال متعددة الأبعاد، وعلامة على صلاح جاهين الذي لم يكن يهدأ من القلق والتوتر والتمرد الذي لا يستكين، فقد انطوى على نوع من النار المقدسة التي ظلت تلتهب داخله وتدفعه إلى التجريب والمضي في كل طريق، يراه مساعداً كي يحقق حلمه الأكبر، وأمله الأعظم، وهو الانتقال ببلده من وهاد الضرورة إلى آفاق الحرية. ولهذا ظل شعر صلاح جاهين في حياته وبعد مماته قريباً من الشعب والبسطاء كل القرب، بعيداً من قوى الشر والطغيان كل البعد. ولكن صلاح جاهين ظل شاعراً بالدرجة الأولى، وارتحاله في الشعر أكثر أهمية من ارتحاله في كل مجال غيره. قد نناقش أثره بصفته ممثلاً، ظهر في بعض الأفلام، وكان خفيف الظل مؤثراً إلى حد كبير، في أدوار صعبة. ويمكن أن نناقش دور صلاح جاهين بوصفه كاتب أوبريت بالقياس إلى الشاعر، لكن المؤكد أن الشاعر فيه كانت له السطوة الأولى. ولم تكن مصادفة أن صلاح جاهين ولد عام 1931، وولد صلاح عبدالصبور في العام نفسه، وأن هذا وذاك ومعهما الفارس الثالث أحمد عبد المعطي حجازي - الأصغر منهما سنوات قليلة - قد شقّوا في الشعر المصري طرقاً جديدة وأفقاً واعداً لم يكن لهما وجود من قبل، فكانت قصيدة العامية موازية في النشأة التأسيسية لقصيدة التفعيلة - أو الشعر الحر - غير بعيدة من قصيدة النثر، في مدى التمرد العام على قيود الضرورة الإبداعية، والبحث عن دروب مغايرة. ولذلك دخل الشعراء الثلاثة - صلاح جاهين وصلاح عبدالصبور وحجازي - معارك طاحنة مع العقول الرجعية الجامدة المتكلسة. ولم يتردد صلاح جاهين، فيما أذكر وتؤكد الجرائد المصرية، أن يخوض معركة الشعر الحر إلى جانب أحمد حجازي وصلاح عبدالصبور في مواجهة العقاد بصفته أكبر قوة أدبية في ذلك الوقت، وكان العقاد في المجلس الأعلى للثقافة كان اسمه في ذلك الوقت المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب مقرراً للجنة الشعر، وكان يرفض شعر أمثال حجازي وعبدالصبور ويحيله إلى لجنة النثر للاختصاص. لقد أدرك صلاح جاهين، وكان مدركاً منذ البداية، أنه جزء من حركة إبداعية متمردة، حركة طليعية يمارس فيها ومعها دور الطليعة الرافضة مع حجازي وعبد الصبور وأقرانهما من المبدعين في الفنون الموازية، ومع الرائد الذي سبقهم جميعاً: عبد الرحمن الشرقاوي، فضلاً عن فؤاد حداد في قصيدة العامية، مندفعين إلى الأمام، محطمين عوائق المعارضة التي كانت تبديها وتمارسها العقول الجامدة. ولهذا وقف صلاح جاهين بالصورة المرسومة للكاريكاتير، والتعليق، والأغنية، والقصيدة، مع حركة الشعر الجديدة. لذلك، ينبغي علينا، نحن النقاد، أن نعدَّه واحداً من أعلام حركة الشعر الحر في مصر، ورافداً من أهم روافدها، ذلك لأنه انتقل بالقصيدة العامية - التي كانت مجرد زجل أو موال - إلى قصيدة إبداعية بكل معاني الإبداع، ولا فارق جذرياً بين قصيدة لصلاح جاهين وأخرى لصلاح عبد الصبور من هذا المنظور، إلا في بعض الفوارق الأدائية اللغوية التي لا تقضي على جوهر الإبداع الشعري هنا أو هناك. ومن يُعِدْ قراءة قصائد صلاح جاهين، سوف يجد أنها قصائد بالمعنى الكامل للقصائد، لكنها مكتوبة بالعامية فقط. ولكن حتى هذه العامية كانت أقرب إلى الفصحى، بل إنني لا أزال أذكر مجموعة من القصائد التي يمكن أن ننطقها بالفصحى فلا يتأثر المعنى بحال من الأحوال، فالتراكيب والصياغات والصور أقرب إلى الفصحى، وبذلك ارتفع صلاح جاهين بما كنا نسميه شعر الزجل أو شعر العامية إلى مستوى قصيدة العامية، فاتحاً الطريق للأجيال التي جاءت بعده، ابتداء من عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب. ولعل انتشار هذا المصطلح - قصيدة العامية - كان دلالة على التحول الكبير الذي أحدثه صلاح جاهين وأستاذه فؤاد حداد في الكتابة بالعامية، حيث انتقلا من المستوى الذي كان يكتب به بيرم التونسي أو النديم أو غير هذين الشاعرين إلى مستوى آخر، يختلف كل الاختلاف، ويؤدي وظائف مغايرة، نسميه قصيدة العامية وليس الشعر العامي، فالشعر العامي أو الشعبي أو الزجلي شيء، وقصيدة العامية شيء مختلف جذرياً، وليس الاختلاف مسألة لغة في هذا السياق، بل في مجموعة من الخصائص الفنية والإبداعية التي تجعل من قصيدة العامية شعراً يختلف عن شعر العامية بمعناه الساذج المرسل. إن شعر صلاح جاهين شعر صورة بالمعني الذي يؤكد جوهر الشاعرية والخيال. والصور التي كان يلجأ إليها، في أغلب الأحيان، تمتلئ بالكثير من أدوات التشبيه التي تعتمد عليها الأسطر الشعرية. وإلى جانب الصورة التشبيهية، هناك الصورة الكنائية التي تصور المشهد الذي يبدو من الظاهر وصفاً بصرياً، لكنه في نهاية الأمر يتحول إلى مجاز أو استعارة أو رمز لشيء أبعد منه. أذكر مثلاً حديثه عن الليل في قصيدة"تراب ودخان"، وأذكر أشعاره عن القمر، وپ"رباعياته"عندما يتحدث عن مفردات الطبيعة - الأعشاب، والهواء - والرغبة في ممارسة المستحيل، أقصد إلى تلك الرغبة التي تجعله يتطلع إلى القمر ويقفز إليه في الهواء، ولا يعنيه أن يطول القمر أو لا يطوله، يصل أو لا يصل إليه، فالمهم هو المحاولة، والسعي الى المستحيل. والإبداع في جوهره هو بحث عن لؤلؤة المستحيل، كما قال أمل دنقل ذات مرة، وهو بحث عن الذي لا يتحقق، والذي ينبغي أن لا نكف عن محاولة الوصول إليه حتى لو لم نصل، فالأهم من محطة الوصول الرحلة نفسها، ومتعة السفر في ذاتها، بهذا المعنى كان للفلسفة الوجودية مغزاها عندما أكدت أن سيزيف كان عارفاً بأن محاولاته مقضيّ عليها بالفشل، لكنه لم يكن يكف عن المحاولة، لأنه كان يدرك أن وجوده كإنسان خالق متمرد لا ينفصل عن المحاولة. هذا هو ما نجده في شعر صلاح جاهين، حيث المحاولة الدائمة من خلال الصورة والرمز والكناية للوصول إلى المستحيل الذي يتباعد كلما اقتربنا منه، وكدنا نمسكه بأصابع أمنياتنا. لكن وجود هذا المستحيل يظل شرطاً لحياتنا التي لن يكون لها معنى دون المحاولة المستمرة الدؤوبة التي تفرض على العبث واللاجدوى في حياتنا المعنى والمغزى، وتميزنا نحن البشر الفانين، الذين - مع علمنا بأننا محدودو القدرة - لا نكف عن التشبه بالآلهة. والأمر الذي يلفت الانتباه في شعر صلاح جاهين - إلى جانب ذلك - هو صفة"الدرامية". ولعل من يقرأ هذا الشعر متأملاً يجد أنه ينطوي على صوتين على الأقل: صوت الشاعر الذي يتحدث، وصوت الشاعر الذي يُتحدث إليه، كأن صلاح جاهين ينقسم دائماً في قصائده إلى ذات وموضوع. الذات تتأمل الموضوع خارجها، لكنها في الوقت نفسه تتأمل الموضوع الذي هو إياها. ولهذا نلاحظ أنه بمقدار ما يقيم موازاة بين نفسه وهرم صغير مثلاً، يقيم موازاة بين نفسه وأشياء أخرى، كي يتأمل الحضور المحاصر لهذه الذات التي كان اليأس ينتابها أحياناً، لكنها لم تكن تكف عن محاولة التحدي. ولهذا كانت الدرامية موجودة في قصائد صلاح جاهين العامية منذ البداية إلى النهاية. ولذلك لم أستغرب مثلاً أنه كتب"الليلة الكبيرة"بأصواتها المتعددة. التي انتقلت من الأوبريت إلى قصيدته العامية الشهيرة جداً"على اسم مصر"، وهي قصيدة تحمل كل ما يمكن أن يتميز به شعر صلاح جاهين، وكأنه في هذه القصيدة كان يحاول أن يستعرض تاريخه الشخصي، ممزوجاً بتاريخ مصر كلها، متأملاً الذات في الموضوع، والموضوع في الذات. وللأسف لم يستطع أن يُكمل الاستعراض التاريخي، فتوقف عند نقطة صعبة حاسمة لم يستطع أن يُكمل بعدها فاحتبس صوته واختنق، مستسلماً للإحباط العظيم الذي قاده إلى الموت، حسرة على سقوط كل الأحلام التي غنَّى لها أجمل ما كتب. وعندما قرأت هذه القصيدة للمرة الأولى أدركت أن صلاح جاهين سوف يفارقنا، وأنه لا بد من أن يرحل عن هذا العالم القبيح الذي أسهم في وجوده بمعنى أو آخر عندما لم يكف عن الإيمان المطلق وبزعيمه الذي لم يكن هناك زعيم غيره. إن شعر صلاح جاهين بمقدار ما يحمل من درامية يحمل في طيّاته تعدد مستويات اللغة، وهذا التعدد جزء من درامية القصيدة في الوقت نفسه، يقول في القصيدة نفسها: رحيلاً رحيلاً بغير هوادة/ رحيلاً فإن الرحيل سعادة /عبادة/ إرادة / سيادة / ولادة/ رحيلاً... إلى أين ليس يهمّ/ وليس يهم بأي وسيلة.../ ولعل اللافت للانتباه في المقطوعة كلها - وهي بالفصحى - تأكيده فكرة الرحيل، أو الانعتاق، حيث الخروج من سجن المكان الذي ضاق بعاشقيه، والزمان الذي أحبط أماني المتطلعين الحالمين بمستقبله الذي بدا واعداً، خصوصاً حين تبدَّل المكان والزمان واستحالا إلى واقع للضرورة، محاصر، كئيب. والانطلاق ليس سفراً في الزمان والمكان، إنما هو سفر في الوعي، المعرفة، سفر لاكتشاف الذات وإعادة اكتشاف العالم الذي ازداد قبحاً، بعد هزيمة 1967 وما أدت إليه من تدهور الدولة القومية وسقوط رموز المشروع القومي وأحلام هذا المشروع. لذلك كان على صلاح جاهين الذي غنّى حالماً بأن يكون في كل قرية عربية أوبرا ومتحف...، أن يغنِّي للتمرد الذي ينبغي أن يتوهج في النفس كي تقاوم به شروط الضرورة في العالم المنهار، المملوء أخطاء، والذي لم يتوقف انهياره، بل ازداد بعد وفاة عبد الناصر. ولهذا ظلت كتابة القصيدة عند صلاح جاهين مزيجاً من العذاب والمقاومة في الوقت نفسه، ونوعاً لا يتوقف عن حب الفقراء الذين ظل منحازاً إليهم إلى اللحظة الأخيرة في حياته التي لم تتوقف عن المقاومة، والتي ظلت تنطوي على معنى السخرية، لأن المقاوِم لا يستطيع أن يستمر في مقاومة بطش براثن ومردة الظلام إلا بالسخرية منهم، السخرية التي تقلِّم أظافر الطغيان، وتجعل الطغيان نفسه موضوعاً للضحك، والبسمة التي تخفف عذاب المقموع، وتجعله على المستوى التخيلي - على الأقل - يتصور إمكان انتصاره على القامع. ومن يقرأ الرباعيات، أو أشباهها، سيجد صلاح جاهين يسخر من نفسه، العالم حوله، لكنها السخرية التي تبعث على البسمة التي تتحول بمعنى من المعاني إلى مقاومة لعبث الوجود وعبث السياسة، ومقاومة انحدار الأحلام وانكسارها وتحطمها، بسبب صعود قوى الشر. وظل صلاح جاهين يواجه بهذه السخرية واقعه المتدهور، ويحمي بها نفسه من الآثار المدمرة لهذا الواقع. ولكن لم تنفصل السخرية، قط، عن التأمل الوجودي في كائنات الوجود وبعد الوجود. لذلك، فبقدر ما تكثر نبرة السخرية ترتفع نبرة التأمل وتحديقة العين المتأملة، فالسخرية قرينة التأمل، والعلاقة بينهما متبادلة في قصائد صلاح جاهين التي لم تكف عن الارتحال بين المدن، والميادين، والأماكن، والأفكار، محدقة في كل شيء، كي تحيل كل شيء إلى موضوع لسخرية المقاوم لا العاجز الذي أبدع شعراً، يظل نوعاً من الفرح المختلس.