حدث أول صدام دال على موقف العقاد المعادي للشعر الجديد بعد حرب 1956 وفشل العدوان الثلاثي. وقد جمع المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب القصائد التي قيلت في مواجهة العدوان، ومنها قصيدة لأحمد حجازي بعنوان"أثبت في أعلى السلم". وتحمس للقصيدة - من لجنة الشعر - علي أحمد باكثير الذي يعد بحق رائداً من رواد الشعر الحر بترجماته لبعض مسرحيات شكسبير وكامل الشناوي الذي كان يشجع أحمد حجازي. ولكن العقاد رفض في عنف أن يسمح بوجود أية قصيدة من الشعر الحر في الديوان الذي أصدرته لجنة الشعر التي كان يترأسها، وقال قولته الشهيرة بإحالة القصائد الحرة إلى لجنة النثر للاختصاص. ومرت هذه الواقعة التي فرض فيها العقاد رأيه، ولم يأبه باعتراض المعترضين، ومنهم فتحي غانم الذي كتب منتقداً موقف العقاد في مجلة"صباح الخير"القاهرية. لكن يوسف السباعي أمين المجلس سعى إلى تخفيف الصراع، إدراكاً منه لصعود حركة الشعر الحر، فسمح لحجازي وصلاح عبدالصبور بتمثيل مصر في مهرجان الشعر الأول في دمشق، على أن يكتبا قصيدتين عموديتين، وعندما جاء المهرجان الثاني، وأصرّ الشاعران على إلقاء شعرهما الحر ثار العقاد، وهدد بالاستقالة من رئاسة لجنة الشعر والمجلس الأعلى كله، ونجح في منع الشاعرين من الإنشاد. وعاد الشاعران من دمشق إلى القاهرة مفجوعين بالانفصال الذي أصاب حلم الوحدة بين مصر وسورية في مقتل، في أيلول سبتمبر 1961، وثائرين على موقف العقاد الذي أصبح في أشرس أحوال عدائه للشعر الحر. ويكفي أن نضع في اعتبارنا سياق الموقف التاريخي الذي بدا فيه مسلك العقاد شاذاً ورجعياً ومتخلفاً، وساعياً إلى رد عقارب الساعة إلى الوراء. وهو الأمر الذي كان مستحيلاً بعد أن وصلت حركة التجديد الشعري إلى ما وصلت إليه في مصر والأقطار العربية على السواء، وذلك ابتداء من شعراء العراق الذين رادتهم نازك الملائكة بدواوينها المتتابعة، ابتداء من"عاشقة الليل"1947 وپ"شظايا ورماد"1949 وپ"قرارة الموجة"1957. وكان إلى جانبها بدر شاكر السياب الذي كان أصدر أكثر من ديوان في العراق إلى أن نشرت له مجلة"شعر"ديوانه التأسيسي"أنشودة المطر"1960. وينطبق الأمر نفسه على عبدالوهاب البياتي الذي انتقل من"ملائكة وشياطين"1950 وپ"أباريق مهشمة"1954 إلى"أشعار في المنفي"1957 وپ"كلمات لا تموت"1960. ويكتمل المشهد العراقي بدواوين بلند الحيدري التي كان صدر منها"أغاني المدينة الميتة". وكان ذلك في السياق الذي ظهرت فيه قصائد أدونيس في سورية ثم بيروت، ابتداء من"قالت لي الأرض"مروراً بپ"قصائد أولى"1957 وپ"أوراق في الريح"1958 وإلى جانبه الشاعر السوري شوقي بغدادي الذي أصدر"أكثر من قلب واحد"1955. وكان نزار قباني يواصل إنجازاته الشعرية التي بدأت مع"طفولة نهد"1948 وپ"سامبا"1949 وتواصلت مع"أنت لي"1950. أما في لبنان فكان سهيل إدريس أنشأ مجلة"الآداب"سنة 1953 التي فتحت صفحاتها لشعراء الشعر الحر من الأقطار العربية المختلفة، وذلك في السياق المتصاعد الذي أدى بيوسف الخال إلى إنشاء مجلة"شعر"1957 وبعدها ديوان"البئر المهجورة"1958 الذي صدر بعد ديوان خليل حاوي"نهر الرماد"1957 قبل"الناي والريح"1960. ولم تكن حركة الشعر الحر المصرية منفصلة عن إنجازات شعراء السودان الشبان، خصوصاً الذين عاشوا منهم، أو درسوا، في القاهرة، وأصبحوا بعض رأس حربة الإبداع الشعري الصاعد فيها، وذلك من مثل محمد الفيتوري الذي أصدر ديوانه الأول"أغاني أفريقيا"1955 قبل زميله محيي الدين فارس الذي أصدر"الطين والأظافر"سنة 1957، أي في العام نفسه الذي أصدر فيه صلاح عبدالصبور ديوانه الأول"الناس في بلادي"قبل عامين من إصدار أحمد عبدالمعطي حجازي ديوانه الأول"مدينة بلا قلب"1959. وهو العام نفسه الذي نشر فيه قصيدته الشهيرة"أوراس"التي كتبها عن النضال الوطني الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، مؤكداً بها حضوره الذي جعل منه شاعراً قومياً بامتياز. ولم تكن حركة الشعر الحر في تيار التفعيلة منفصلة عن الحركة نفسها في تيار قصيدة النثر التي أشاعتها مجلة"شعر"بإصدارها لديوان أنسي الحاج الأول"لن"1960. وكان ذلك في العام نفسه الذي نشر فيه شوقي أبو شقرا ديوانه الثاني"خطوات الملك"بعد عام واحد من ديوانه الأول"أكياس الفقراء"1959. وهو العام الذي تأكد فيه حضور قصيدة النثر بصدور الديوان الأول لكل من جبرا إبراهيم جبرا"تموز والمدينة"1959،. ومحمد الماغوط"حزن في ضوء القمر"1959. وهو ما كان يعني صعود قصيدة النثر لبنانياً على الأقل، في المجموعة الليبرالية التي تحلقت حول مجلة"شعر"في موازاة المجموعة القومية التي تحلقت حول مجلة"الآداب"التي أراد لها سهيل إدريس أن تكون منبراً للجديد الذي يوازي التوسط القومي، ولا ينحاز إلى قطب الاتحاد السوفياتي الذي ظل يرعى الأحزاب الشيوعية أو الغرب الرأسمالي بزعامة أميركا التي اتهم ليبراليو مجلة"شعر"1957 ثم"أدب"1961 بالتعاطف معها، وقبول دعمها الذي تكشف أخيراً في الكتاب الشهير"الحرب الثقافية الباردة". وبعيداً من هذا الاستقطاب السياسي، لم يكن هناك شيء جذري يفصل حركة قصيدة النثر عن قصيدة التفعيلة، داخل الموجه الصاعدة للشعر الحر، وذلك في التمرد على عمود الشعر القديم وأصوله الخليلية التي ظل العقاد يدافع عنها، ويحارب بضراوة كل خروج عليها. وكانت المفارقة الدالة أن كلاً من صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي تأثر - بوعي أو من دون وعي - بدعوة العقاد التجديدية التي دعت إلى ربط الشعر بالحياة اليومية وتفاصيلها الأليفة المعتادة، بعيداً من التسامي الرومانسي ومن السموق الكلاسيكي في الوقت نفسه. وهي الدعوة التي كان ديوان العقاد"عابر سبيل"1937 مثالاً عليها. صحيح أن هذا المثال كان يؤكد أفكار التجديد النظرية أكثر من إبداع الشعر، وصحيح كذلك أن الشعر في هذا الديوان كان فاتراً، لا يخلو من تصنع بارد، وهو الأمر الذي استفز أكثر من ناقد، مثل مارون عبود الذي هاجم الديوان في ضراوة لافتة، وجسارة دالة. ولكن من الواضح أن كلاً من أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور التقط الخيط من العقاد، وانطلق من حيث انتهى، لكن في مجال الشعر الحر الذي سمح لصلاح عبدالصبور أن يقول - في ديوانه الأول: "يا صاحبي إني حزين / طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح / وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح / ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش / فشربت شاياً في الطريق / ورتقت نعلي / ولعبت بالنرد الموزّع بين كفي والصديق / قل ساعة أو ساعتين / قل عشرة أو عشرتين". وكان ذلك في السياق نفسه الذي دفع حجازي إلى أن يقول محاكياً لغة الحياة اليومية - في ديوانه الأول: "يا عم/ من أين الطريقْ؟/ أين طريق"السيدة"/ أيمن قليلاً، ثم أيسر يا بني/ قال... ولم ينظر إليّ / وسرت يا ليل المدينة / أجرُّ ساقي المجهدة / للسيدة". ومن المفارقات الطريفة أن يهاجم أنصار العقاد هذا النوع من الكتابة التي كانت دعوة العقاد - في"عابر سبيل"- تشجيعاً عليها في أكثر من معنى، وتمهيداً فكرياً لتصاعدها. وعندما يأتي العقاد، وفي هذا السياق الصاعد من امتداد حركة الشعر الحر بجناحيها التفعيلي والنثري، ويهاجم شعراءها، ويحتشد حوله أنصار القديم الذين وجدوا في حضوره العملاق دعماً لاتجاههم المحافظ، فإن هذا الموقف لا بد من أن يستفز أبناء العقاد الذين تأثروا بدعواته التجديدية، وصدَّقوا أفكاره النظرية عن التجديد الذي مضوا فيه أشواطاً أبعد من الأب الذي تحول إلى عائق للتجديد وعدو ينبغي إزاحته، سواء بالمعنى الإبداعي الذي يقترن بخلق قصيدة مناقضة، أو بالمعنى الأوديبي الذي لا ينفصل عن القتل الرمزي للأب، كي يتحرر الابن من سطوته، ويؤكد حضوره الحر وزمنه الواعد وإبداعه النقيض. وقصيدة حجازي في هجاء العقاد تحمل هذه الدلالات وغيرها، ولا تعبر فحسب عن غضب متفجر من سلطة الأب الذي حال دون أبنائه والإنشاد الحر بما يرفضه من شعر، وإنما تعبر في الوقت نفسه عن وجهة نظر الابن الثائر الذي يسعى رمزياً إلى تدمير سطوة الأب، ويعلن هويته الإبداعية الجديدة. ولذلك أراني أعد قصيدة حجازي في هجاء العقاد بياناً من بيانات حركة الشعر الحر في مصر، ضد أكبر أعدائها وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً. ولا غرابة في أن يختار حجازي القالب العمودي لهجاء العقاد، على طريقة البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال من ناحية، وعلى طريق التدليل على التمكن من القديم الذي ينتسب إليه العقاد، والذي لم يعد يصلح للزمن الجديد من ناحية موازية. هكذا، تمضي قصيدة حجازي من خلال"بحر البسيط"لتؤكد حضورها المتمرد على النحو الآتي: "من أي بحر عَصِيّ الريح تطلبه/ إن كنت تبكي عليه، فنحن نكتبه يا من يحدِّث في كل الأمور، ولا/ يكاد يحسن أمراً أو يقرِّبه أقول فيك هجائي، وهو أوّلُه/ وأنت آخر مهجو وأنسبه تعيش في عصرنا ضيفاً، وتشتمنا/ إننا بإيقاعه نشدو ونطربه وإننا نمنح الأيام ما طلبت/ وفيك ضاع من التاريخ مطلبه". ومطلع القصيدة دال على اقتدار الجيل الجديد على النظم في القالب القديم الذي لم تكن الكتابة في القالب الجديد فراراً منه، وإنما كانت تلبية لضرورات ملحّة فرضها زمن جديد، أو عصر مغاير لم يعد العقاد منتسباً إليه، أو كياناً فاعلاً في تياراته الصاعدة، فأصبح أشبه بالضيف الثقيل الذي يفرض زمنه القديم على زمن غيره من الأبناء الذين يستفزهم أن يعرقلهم في عصرهم من ليس منتسباً إليه. ولا ينسى الهجاء أن يغمز من موسوعية العقاد التي دفعته إلى الكتابة في كل مجال، والأخذ من كل شيء بطرف، لكن بعيداً من عمق التخصص الذي أصبح سمة للزمن الجديد وعلامة على تقسيمه المغاير للمعرفة، وتوزيعه الاختصاصات على من يمضون بكل تخصص ينتسبون إليه نحو أعماقه البعيدة، فلا يقعون في التسطيح، أو الفتوى في ما يحسنونه أو لا يحسنونه على مستوى التخصص الدقيق. وتناوش القصيدة - بعد ذلك - مكانة العقاد الذي يقرنه الهجاء بأزمنة الانحدار وضيق أفق التحيز والتعصب، بل تخريب المجال الذي يزهو به وهو الشعر الذي يفتح الثوار أبوابه التي أغلقها أمثال العقاد وأشباهه، غير خائفين من عناده، مؤكدين حضورهم الإبداعي الذي تتحول به الكلمات إلى منارات تهدي قلوب الناس، وتصوغ أفراحهم وأحزانهم وأحلامهم، حيث التميز الذي شهد به وله المنصفون في كل محفل وفي كل مجال انبجست فيه عين الشعر الجديد الرقراق العذب، الشعر الذي يصفو له البحر والأفق، ويمتد به المسرب نحو مدى لا آخر له أو حدّ، وذلك كله من غير تنكّر للقديم الذي يبعثه الجديد على طريقته، وفيما يدفع الجديد إلى الأمام، ويجعل المجددين حائزين خزائن القديم، يعرضونها على الناس، مؤكدين صدق القديم مع زمنه، في مقابل صدقهم مع زمنهم، فهم ورثة الإبداع المتصل الذي لم ينقطع بالجمود، وإنما يظل حياً بالتجدد المستمر والإضافة التي تؤكد الحضور المتميز. ولذلك تنتهي القصيدة بالإشارة إلى علاقة الجديد الصادق بالقديم بما يؤكد تفاعل الأصالة والمعاصرة الذي يؤديه البيت الأخير الذي يشير إلى القديم بقوله: "أبناؤه نحن، أعطانا ويسعده/ أنا بهذا الذي أعطي سنغلبه". وهو بيت يؤكد الدلالة الأوديبية التي لا يخلو معها كل لاحق من فعل إزاحة للسابق، لا بالمعنى القمعي الذي يقطع الحبل السري في اتصاله الخلاّق، وإنما بالمعنى التفاعلي الذي يجعل من كل جديد إضافة كيفية إلى القديم. وبالطبع لا تخلو القصيدة من عناصر السخرية، سواء تلك التي تعتمد على تكرار التفاعيل المجردة للبحر"البسيط"أو التهوين الحاد من شأن العقاد الذي أصبح يفتي في ما لا يعلم، ويجمد على ما يتأكد به تصلّب رأسه، وذلك غير بعيد من الدلالات غير المباشرة للغمز السياسي وارتباط العقاد بأزمنة أوتوقراطية وعهود ملكية لم يعد لها محل من الإعراب في الزمن الثوري الجديد الذي أنشد فيه حجازي قصائده القومية، ابتداء من قصيدته عن"عبدالناصر"الذي صار رمزاً للزمن الجديد، وليس انتهاء بقصيدة"أوراس"التي صارت تجسيداً لرغبة التحرر الوطني والقومي على السواء. وقد أحدثت القصيدة ضجة كبيرة عند نشرها في الصفحة الأدبية لجريدة"الأهرام". وكان يشرف عليها أحمد بهجت في ذلك الوقت، أثناء غياب لويس عوض الذي خرج من المعتقلات الناصرية أوائل 1962 ليصبح المستشار الثقافي لجريدة"الأهرام"والمشرف على ملحقها الأدبي في أزهى عصوره. وتحمس للقصيدة أنصار الجديد وعلى رأسهم الشعراء المجددون من أمثال صلاح عبدالصبور وصلاح جاهين الذي حقق ريادته الدالة لما أطلق عليه"قصيدة العامية". وفي المقابل، تسابق العقاديون في الرد على القصيدة بنقائض هجائية، فتح لها صالح جودت صفحات مجلة"المصور"التي كانت تتبنَّى موقف العقاد العدائي المضاد للشعر الجديد. ولم يفت العقاد نفسه الرد على القصيدة في حوار مع عبدالمعطي المسيري، نشرته جريدة"المساء"القاهرية، مؤكداً فيه أن أمثال حجازي هم الذين يعيشون في زمن العقاد، وليس هو الذي يعيش في عصرهم.