منذ التأميمات التي طاولت قطاع النفط في الشرق الأوسط عام 1970، أصبحت الاحتياطات النفطية للمنطقة خارج سيطرة الشركات النفطية الغربية، ما دفعها إلى ملء الفراغ من حقول بحر الشمال وألاسكا في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إضافة إلى مناطق جديدة، كحوض البحر الأسود والمناطق البحرية في غرب أفريقيا. ونظراً لانخفاض الإنتاج في كل من بحر الشمال وألاسكا وارتفاع الأكلاف الإنتاجية للنفط في تلك المناطق، حولت الولاياتالمتحدة وبريطانيا اهتمامها مرة أخرى إلى نفط منطقة الشرق الأوسط. فعام 1993 أنشأ "المركز الدولي للضريبة والاستثمار"، الذي يضم في عضويته 110 شركات نفطية، منها "شل" وپ"بي بي" وپ"كونوكو فيلبس"وپ"إكسون موبيل"وپ"شيفرون تكساكو". وبدأت تلك الشركات بالتركيز على العراق كخطوة أولى في خطة تهدف إلى إطلاق عملياتها في الشرق الأوسط. وعام 2004، أصدر المركز المذكور تقريره"النفط ومستقبل العراق"متضمناً التوصيات الآتية: - ان عقود مشاركة الإنتاج تعتبر النموذج القانوني والمالي المناسب لتسهيل عملية تطوير وتنمية الصناعة النفطية في المدى البعيد. - ان نماذج العقود النفطية الأخرى تعتبر متدنية بالقياس إلى عقود مشاركة الإنتاج. - ان الاستثمار الأجنبي المباشر من قبل المركز أو أي من الشركات النفطية العملاقة يعتبر خطوة أولية مهمة في طريق تفعيل الاقتصاد العراقي نظراً إلى حاجة الحكومة العراقية إلى الأموال التي قد تخصص للنفط لاستثمارها في برامج تنمية قطاعات أخرى. وعام 2002، عقد اجتماع في تكساس بين الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير بهدف التنسيق بشأن نفط الخليج، فاتفق الطرفان على ضرورة العمل على زيادة الطاقة الحالية في الخليج من 23 مليون برميل يومياً إلى 52 مليون برميل يومياً، نظراً لما ستؤول إليه الحاجة عام 2030. ولتحقيق ذلك أوعز الرئيسان إلى مجموعة عمل تابعة لوزارة الخارجية الأميركية بدراسة حجم الأموال والاستثمارات المطلوبة في منطقة الخليج، خصوصاً العراق. وقدرت مجموعة العمل ان العراق يحتاج كحد أدنى إلى استثمار أربعة بلايين دولار لإرجاع الإنتاج على ما كان عليه قبل 19903.5 مليون برميل يومياً، وإلى 25 بليون دولار من أجل زيادة الإنتاج إلى خمسة بلايين برميل يوميا. وأوصت باللجوء إلى الشركات النفطية الكبرى للقيام بعملية التمويل. وفي بداية الاحتلال الأجنبي للعراق، عينت سلطته مديرين فنيين من الشركات النفطية الكبرى للمساعدة في إيجاد سياسة نفطية للبلد. وقد دعوا إلى فتح حقول النفط العراقية بموجب آلية عقود مشاركة الإنتاج. وفي 13 تموز يوليو 2003، أنشأ الحاكم المدني بول بريمر مجلس الحكم، وعين في اليوم نفسه إبراهيم بحر العلوم وزيراً للنفط الذي دعا في تصريحاته الأولى إلى الأخذ بعقود مشاركة الإنتاج وإعطاء الأولوية للشركات النفطية الأميركية. وعند مجيء الحكومة الانتقالية برئاسة أياد علاوي، نصت خطة نفطية على تطوير الشركات النفطية العالمية كل الاحتياطات الجديدة من خلال عقود مشاركة الإنتاج، وإدارة"شركة النفط الوطنية العراقية"الحقول الحالية مع تخصيص جزء منها، والتسويق المحلي وبيع المنتجات النفطية إلى القطاع الخاص، وبناء الشركات الخاصة لمصاف جديدة وتوسيع القائم منها. ورأت الحكومة عدم مناقشة هذه المواضيع في البرلمان العراقي خوفاً من إبطاء العملية. بموجب نموذج عقود مشاركة الإنتاج، تؤمّن الشركة الأجنبية رأس المال الاستثماري المتعلق بالحفر والبنى الإنشائية التحتية، وتُعطى الشركة الأجنبية الحصة المستخرجة الأولى من النفط. ويدعى هذا الجزء من النفط"نفط الكلفة"ويحدد سنوياً. وبعد استرجاع الأكلاف كلها، يتم اقتسام النفط المتبقي"نفط الربح"بين الدولة والشركة. وتؤخذ الضريبة من حصة الشركة في نفط الربح، وقد يكون إلى جانب ذلك"ريع"يدفع عن النفط المنتج. وتدفع الشركات إلى الحكومة مكافأة عن توقيعها العقد وفي بعض الأحيان عند بدء الإنتاج. وتمتد عقود المشاركة بين 25 و40 سنة. وفي بعض الأحيان تدخل الحكومة كشريك تجاري في عقد مشترك يجمع الاثنين، الدولة والشركة الأجنبية أو تحالف الشركات. وبموجب ذلك تدفع الحكومة حصتها في رأس المال المستثمر وتتسلم نسبتها في نفط الكلفة ونفط الربح. ويرى خبراء كثر في العقود النفطية ومنهم دانيال جونستون بعدم وجود فروق جوهرية بين"عقود الامتيازات"وپ"عقود مشاركة الإنتاج"سوى إظهار سيطرة الدولة. فاتفاقات مشاركة الإنتاج تعطي الانطباع بملكية الدولة وسيطرتها على مصادرها النفطية، إلا أنها تبقي على جوهر الامتيازات النفطية المتحيزة لمصلحة الشركات الأجنبية. ان التداعيات المالية والاقتصادية لعقود المشاركة هي نفسها في عقود الامتياز، والدولة في ظل هذه العقود تبدو المسيطرة على الصناعة النفطية بينما هي تدار من جانب الشركات الأجنبية وليس للدولة إلا السيادة الوطنية الشكلية. ويمكن إجمال المساوئ الرئيسة لعقود المشاركة بما يلي: - تتضمن اتفاقات عدة من هذا النوع فقرات قانونية تمنع سريان القوانين المستقبلية أو السياسات الضريبية المستحدثة على المشاريع المتعاقد عليها. لذلك فإن القوانين الوطنية أو الإجراءات التي تصدرها الدولة في شأن اليد العاملة، الأمن المكاني للعمل، الظروف البيئية والاجتماعية لن يكتب لها التطبيق خلال مدة الاتفاق. - خسارة سيطرة الدولة على الصناعة النفطية لمصلحة الشركات النفطية الأجنبية، إذ ان بعض نصوص تلك الاتفاقات تكاد ان تكون سيادية في طبيعتها. - تسوية النزاعات من جانب محاكم التحكيم الدولية وليس من قبل المحاكم الوطنية، إذ تنظر مجالس التحكيم هذه في أهداف وشروط العقد المبرم ولا تأخذ في نظر الاعتبار ظروف الدولة السياسية والوطنية. أي أنها تنظر للنزاع في الإطار الواسع للقانون العام. - خسارة الدولة مبالغ طائلة من العوائد لمصلحة الشركات النفطية الأجنبية. لكن للعراق على الأقل ثلاثة بدائل للحصول على الاستثمارات المطلوبة قبل اللجوء إلى النموذج الذي يقيد سيطرته على نفطه ويحمله خسائر بالإمكان تفاديها: - الاستثمار المباشر من خلال الموازنة العامة. ويشجع على ذلك انخفاض المخاطر وأكلاف التطوير بالمقارنة مع العوائد. لذلك فإن استرجاع الاستثمارات الموظفة سيكون سريعاً. وتقدر الاحتياجات الاستثمارية الأولية بحدود ثلاثة بلايين دولار سنوياً. وبعد ثلاث سنوات من بدء الاستثمار التطويري ستكون العوائد المتحققة من الإنتاج الجديد أعلى من المتطلبات الاستثمارية اللازمة وبالتالي ستكون مصدراً للتمويل. ان اقتطاع هذا المبلغ من الموازنة لن يؤثر كثيراً في القطاعات الحيوية الأخرى. - قيام شركة النفط الوطنية أو الحكومة العراقية بالاقتراض من المصارف بضمانة الإنتاج النفطي المستقبلي، أو من الهيئات المتعددة كالبنك الدولي أو إصدار سندات حكومية لهذا الغرض.إن عملية الاقتراض في ظل الأسعار القائمة حالياً تجعل من خدمات الدين كلفة هامشية بالنسبة لما يمكن ان يتحقق من عوائد مباشرة. - أن تكون العقود متوازنة ومرنة، كأن تقدم الشركات النفطية الاستثمارات المطلوبة ومن دون ان يكون لها مصالح مباشرة في النفط المنتج. فالنفط يبقى مع الدولة وللدولة والشركة الأجنبية تعامل كمقاول لها. بموجب ذلك تعطى الشركة الأجنبية حق التشغيل والإدارة للشركة ولكن بصلاحيات محددة ولفترات قصيرة نسبياً، وأن لا يتاح لها تحقيق أرباح عالية جدا نظرا لأن الدفع سيكون على شكل أجور ثابتة أو معدل عائد ثابت. ولتأكيد ما جاء في أعلاه، تشير إحصائيات وكالة الطاقة الدولية إلى ان 12 في المئة فقط من الاحتياطات النفطية العالمية خضعت إلى عقود مشاركة الإنتاج وفي بلدان تتصف بصغر حقولها وبارتفاع أكلاف الإنتاج وضبابية فرص الاستكشاف، أي خلاف الوضع القائم في العراق. أما المتبقي من العقود 67 في المئة فقد طورتها في شكل رئيس شركات النفط الوطنية. يجب ان يكون العراق واعياً لئلا يقيد نفسه بعقود ترهن احتياطاته وسياسته النفطية لسنوات طويلة، وأن يعمل جاهداً على تحرير عوائده من أكلاف التمويل من خلال اختيار المناسب من النماذج التي تحقق له. ومن الأفضل ان يبدأ العراق بتطوير مشاريع صغيرة قبل عرض الحقول النفطية الكبيرة للاستثمار والتطوير. وفي حال العكس فإن العراق في ظل الاحتلال وانعدام الأمن والفوضى الاقتصادية وحاجة الحكومة للعوائد، سيجني عقوداً ليست في مصلحته. عضو "منتدى الفكر العربي" في عمان.