من مجمل الأسئلة الجوهرية المطروحة في لبنان يبرز سؤال يتعلق بمدى قدرة "حزب الله" اللبناني على العمل ضمن آليات الديموقراطية اللبنانية. ويكتسب السجال حول هذه الإشكالية بعداً يتعلق بالطبائع والبنيات أكثر مما يتعلق بالأداء السياسي المفترض أن تسلكه مجموعة سياسية عادية، إذ ان الابتعاد من ملامسة بعض الحقائق"الخلقية"لأحزاب عقائدية مشابهة لا يسهّل التطرق إلى جوهر هذه الإشكالية التي تكشّفت من خلال اعتمادها مساراً سياسياً معاكساً لحركة الديموقراطية اللبنانية، هذه الديموقراطية التي نزعت أخيراً إلى التفلّت من أسر أعوام كثيرة من الاحتلالات والوصايات الخارجية عليها. فقد بدا النظام السياسي اللبناني الذي أنشئ بعد الطائف مكشوفاً أمام عدم قناعة بعض الفئات بشروطه، وبدا إذ ذاك فاقد القدرة على تطويع حالات طائفية أو سياسية تخلط بين ما تريده هي من الديموقراطية وما تريده الديموقراطية منها. وترافق ذلك مع تشابكات إقليمية ودولية ومحلية وصلت إلى ذروتها وبدت أنها نتيجة لتراكم تعقيدات سياسية كبيرة، فانعكس ذلك على الآليات الدستورية والتطبيقية التي يعتمدها النظام السياسي اللبناني منذ اتفاق الطائف، والتي قد تأخذ لبنان إلى أن يتموضع في حاضنة واحدة من الخيارات الحاسمة في المنطقة. تصطدم الديموقراطية بتعاطي قوى غير ديموقراطية معها، وفي هذا السياق هناك خطران يتهددانها: الأول اصطدامها مع المحيط غير الديموقراطي الذي ينازع عليها ويعتبر أن لبنان إذا لم يكن موجوداً في أحضانه فهو يدور في فلك النظام الغربي، ويُنظر إلى ديموقراطيته، بانفتاحها وعلاقتها مع المجتمع الدولي، باعتبارها تهدف إلى إحداث التغيير في المنطقة بشكل عام. فالحرية الصحافية والإعلامية في لبنان ليست محط ترحيب من الجوار الأقرب في ظل سيادة نظام الحزب الواحد في سورية، لذلك فالنظام السياسي اللبناني يدور في حلقة الاستهداف من جانب أي عمق غير ديموقراطي يكون على حدوده ومن جانب العدو الإسرائيلي في الوقت ذاته. والثاني هو التحدي الذي تواجهه من"حزب الله"الذي يُظهر أن هناك ثقافة متكاملة لا تستطيع أن تتعايش مع الديموقراطية إلا بقدر ما تتناسب هذه الأخيرة مع حاجاتها وطموحها، خصوصاً إذا افترضنا أن هناك توجهاً عاماً يبثه"حزب الله"بين الشيعة ويقول بضرورة تحسين مواقعهم في النظام السياسي"بعد نجاحهم في تحرير الجنوب عام 2000 والانتصار على العدو الإسرائيلي عام 2006 والدعوات التي صدرت وأكدت ضرورة ترجمة هذه الانتصارات في الداخل، وفقاً لما ورد على لسان المسؤولين في إيران والسيد علي خامنئي بالتحديد. أنتج لبنان إحدى أهم الديموقراطيات في المنطقة على الإطلاق، وكان في معظم الأوقات يتحصّن بها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء. وللديموقراطية اللبنانية الفضل الأبرز في إنتاج أشكال متعددة من المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. لكن صيغة الديموقراطية التوافقية التي ينتهجها لبنان تُبقي على عوامل التمايز بين اللبنانيين ولا تلغيها، ذلك بفضل التعددية التي تتمتع بها الديموغرافيا اللبنانية. وبهذا المعنى فقد استرق النظام اللبناني من الديموقراطية ما يفيده لإعادة إنتاج طائفيته وتعدديته الفريدة. وفي ظل موجة الأسلمة الحديثة صارت التعددية اللبنانية مصدر غنى للديموقراطية. وهنا كان السؤال الذي طرح سابقاً ويطرح اليوم: هل يكفي أن يكون النظام السياسي في لبنان ديموقراطياً أم أن هناك شروطاً إضافية يجب أن تلازمة لئلا تذوب خصوصيته أمام أي مد أحادي. لقد دتشكلت البنية العقائدية والفكرية ل"حزب الله"بناءً على إطار متكامل من النظم والمعايير التي لم يقتصر تأثيرها في تركيبته الداخلية وفي الوسط الشيعي فحسب، بل فرضت نفسها بقوة على توزيع القوى وعلى مصير لبنان ومساره في السياسة والأمن، وأخذت المرجعية المتمثلة بالولي الفقيه الموجود في إيران تحسم النقاش الفقهي الذي عُهِد حضوره وتنوعه في الوسط الشيعي تقليدياً، وبذلك تم اختزال المستويين المحليين السياسي والعقائدي بأنموذج نظري وتطبيقي واحد. حينها تم إدخال لبنان دائرة صراع إقليمي ودولي بعيد من حدوده، وللمرة الأولى يصبح لبنان مرتبطاً بمصالح دولة بعيدة من حدوده المباشرة هذا البعد، لكنها ممسكة بمفاصل القوة وبشرائح مجتمعية لطالما اشتُغل عليها منذ زمن. يطرح"حزب الله"نفسه كعصبة متمايزة من حيث الإيمان ومن حيث الإنجاز الوطني، ويعتبر أنه متراص ومنظّم بالمقارنة مع بقية الفئات السياسية. كل هذه الاعتبارات لا تسهّل عليه الاقتناع بضرورة الممارسة الديموقراطية بل تأخذه باتجاه التشكّل على شاكلة القوى الشمولية، وتُفقد قدرته على التعاطي مع الفرقاء السياسيين الآخرين من موقع المتساوي معهم، فتتحول ممارساته إذ ذاك إلى نموذج من ديموقراطية عددية تحشيدية يغلب عليها النمط الأوتوقراطي وتلغي أي إمكان لحرية الاختيار. و ينتمي"حزب الله"إلى منظومة العمل الإسلامي ذات الطابع الشيعي، وذلك انطلاقاً من فلسفة عامة تخضع بالولاء للمرجعية الدينية، وتعمل في إطار ممانعة أساليب التغريب والحداثة وتدعو الى التمسك بالأطر والشكليات التقليدية. إلا أن النمط الجهادي التحريري لنموذج استطاع"حزب الله"تكريسه في الإسلام السياسي جاء ليتحول بعد العام 2000، عام الانسحاب الإسرائيلي من لبنان وانتصار المقاومة، إلى نمط إشكالي غير قادر على المواءمة بين دوره الوطني - التحريري ودوره الإقليمي - الحضاري. يسعى"حزب الله"إلى تعميم نموذج الجهاد المسلح وإدخال انتصاره على العدو في حلقة الصراع العقائدي غير السياسي، في حين تدفع القوى الاستقلالية في لبنان باتجاه تغليب السياسي على العقائدي في الصراع العام، وقد برزت هذه التفاوتات بعد ذلك حين سعى"حزب الله"إلى إيجاد مبررات داخلية للإبقاء على سلاحه كالحديث عن استهدافه من قوى محلية تتعاون مع الغرب لتنفيذ القرارات الدولية. أظهرت التطورات السياسية الأخيرة التي حصلت في لبنان استحالة في قدرة"حزب الله"على الفصل بين لغته السياسية الموجهة إلى العدو الإسرائيلي ولغته الموجهة إلى خصومه السياسيين في الداخل، وخلط"حزب الله"بين أنماط التعبئة السياسية والعقائدية، فأكد هذا كله أن المنطق الذي يتحكم باللعبة السياسية في الديموقراطيات يبقى بعيداً من الحدود التي يستطيع"حزب الله"التحكم بها. فهو ينطلق من مسلّمات لا تتيح للدولة ممارسة نفوذها أو سيطرتها، وهو يحبّذ بالتالي التعاطي مع وقائع وقضايا أمنية من خلال حوار سياسي، إضافة إلى أن كل حركته السياسية تدور حول اكتساب شرعية إضافية لحقه في المحافظة على سلاحه أو توظيف أي سلطة سياسية للضغط في هذا الاتجاه. يعتبر"حزب الله"ان الانتصار على العدو يتحقق بفعل الثقافة التي ينشرها بين مؤيديه، وهو يستثمر في الجانب الثقافي الكثير من الإمكانات، كما في الجانبين الخدماتي والاجتماعي أيضاً، حتى أن نوابه ومسؤوليه يكررون الحديث عما يسمونه ثقافة المقاومة وأمن المقاومة ومجتمع المقاومة. يدفع كل ذلك إلى اعتماد المقاومة مسلكاً يومياً يُشيّد فوق منظومة متكاملة من المتطلبات، ويطرح"حزب الله"ما يعتبره الفعالية المجتمعية التي تحل مكان فعالية الدولة في البناءات الوطنية، فيتطلب الأمر نمطاً من التفكير مستقلاً عن الإطار العام. وبهذا المعنى يصبح النظام السياسي اللبناني غير قادر على الوفاء بمستلزمات فئة كبيرة من أبناء لبنان لا تتكامل بأي حال من الأحوال مع شروط الثقافة الديموقراطية بل تنطلق أولاً وآخراً من مبادئ الثقافة الجهادية ومعاييرها بكل شعائرها وتطبيقاتها. وفي الخلاصة، لا يمكن أن تستعيد الديموقراطية اللبنانية مكانتها في النظام السياسي قبل حصول ما يمكن أن ندعوه دمقرطة"حزب الله"، ولا يمكن دمقرطة هذا الأخير قبل لبننته، وفي كل الأحوال هناك ضرورة ملحّة لتصالح"حزب الله"مع آليات النظام اللبناني الذي يتطلب منه التكيف معها لأنها، في أي حال، غير قادرة على التكيف معه. * كاتب لبناني.