يعكس الواقع اللبناني هذه الايام حقائق عدة أهمها أن موضوع الخلاف الأساسي الذي تقف مسألة"حزب الله"، إذا جاز التعبير، في صلبه، بات يتخطى الأطر السياسية التقليدية، حتى أنه في بعض اللحظات يبدو وكأنه يتخطى الأطر الثقافية أيضاً، وذلك ليصل إلى حدود الانفصام التام من حيث غياب اللغة المشتركة مع باقي مكونات لبنان في كل الميادين، وبالأخص في ما يتعلق بمدى الرضوخ لمرتكزات النظام السياسي التعددي، وكلما تقدمت هذه الحال إلى الأمام، كلما ازدادت ارتباطاً بحالات اقليمية تمتد إلى ما وراء الحدود، وكلما ابتعدت عن أشياء اللبنانيين وحاجاتهم الوطنية، وذلك في أصدق تعبير لما يمكن ان يكون بمثابة إعادة صوغ وتوزيع للولاءات السياسية في المنطقة على قاعدة المواجهة الدائرة بين القوى الاقليمية والدولية كافة، إذ يشكل"حزب الله"اليوم عنواناً حاسماً في هذا المجال، وعليه تتوقف تداعيات أي تغيّر إذا ما حصل، فهو الذراع الخارجية الأقوى لإيران في أي مواجهة تحصل بينها وبين الولاياتالمتحدة، وهو القوة الأكبر التي تمانع تطوير مفهوم الدولة القومية الحديثة وتدفع إلى التحول نحو الدولة الأمة ببعدها التاريخي مُستحضرة بنموذج الجمهورية الإسلامية في إيران. من فضائل الأنظمة الديموقراطية أنها تتيح للقوى المتنوعة والمتعددة البوح بحقيقة مشاريعها وأهدافها الاستراتيجية، فيكون في مقدور كل من الأوساط السياسية والرأي العام الحكم على الشق المُعلن والمُتداول من البرامج السياسية، ويكون المقروء في السياسة هو نفسه غير المقروء منه. أما في حال لبنان اليوم الذي تتعرض ديموقراطيته لأصعب استحقاق، فالأمور تختلف وتقترب إلى أن تصبح الديموقراطية اللبنانية مجردة من كل خصائصها ومجوّفة من معظم فضائلها، أو في أحسن الأحوال ديموقراطية محكومة بتعاطي قوى غير ديموقراطية معها، فتصبح الأحكام على برامج القوى السياسية، وتحديداً على برنامج"حزب الله"، بحاجة إلى ارتباط أوثق بين الظاهر المُعلن من برنامجه أو المستور المُضمر منه، وكلما تقدمت الأزمة السياسية واشتدت اصبح يجوز الحكم على الطبائع والنيات في هذه الحال، فالصراع السياسي الدائر في لبنان ليس فريداً من نوعه أبداً ولا يخرج عن دائرة علم الاجتماع السياسي الذي يستطيع التوصل إلى معرفة حقيقة الصراع عن طريق معرفة أدواته والطبائع السلوكية لفرقائه. والأزمة اليوم تظهر حقيقة أن هناك مشكلة لبنانية داخلية عميقة بحيث يجب الاعتراف أن العامل الاقليمي نجح في تحويل نفسه الى حيثية داخلية معتبرة وهي تشاطره الأهداف وتلتقي معه على المصير المشترك. فالطائفية في لبنان تتقلب وتتكيّف مع معظم أنماط الصراع بأشكاله الثقافية والدينية والسياسية وحتى السطحية منها، وبقدر ما كان النظام الطائفي سبباً في انتاج الأزمات عبر التاريخ، إلا أنه اليوم يبدو وكأنه ضحية مشاريع أكبر من قدرته على التأقلم معها أو تجاوزها. بغض النظر عما إذا كان النقاش حول المقاومة هو نفسه النقاش حول"حزب الله"، أو إذا كان السجال مع"حزب الله"هو نفسه السجال مع الطائفة الشيعية، فإن العناوين التي باتت مطروحة للنقاش والظروف التي تواكبه ثم مستوى الاستقطاب المذهبي والسياسي، كل ذلك بدأ يطرق أبواب المحظورات ويصل إلى الاعتبارات الأكثر تجذراً، فإذا كان هناك من شيء تظهره مواقف قادة"حزب الله"، فهو أنها تصب في مصلحة استثارة الهواجس وتعميم أجواء الخوف على المصير بين الشيعة، وذلك يظهر مدى الاحساس ب"التآمر"الذي يعيشه"حزب الله"ويحاول سحبه على الطائفة الشيعية. أمام هذا الواقع، يبرز احتمالان يدفعان"حزب الله"الى اعتماد هذه المسلكية، فإما أن يكون ذلك نتاج قناعة راسخة بالأمور، أو أنه محاولة للتسييس والتعبئة، وفي الحالتين هناك ضرورة لقراءة ذلك بتمعن، إذ أن هناك تداعيات لا بد أن تنعكس على علاقة الطائفة الشيعية بباقي الطوائف، وهو ما يُدخل البلد في دوامة من الصراع السياسي يكون عنوانه تبديد هواجس الشيعة وضرورة إعادة تموضعهم في النظام السياسي، وهذا ما يتطلب إعادة انتاج تسوية سياسية تتخطى عناوين اتفاق الطائف، وهذا أيضاً ما لا يتحمله لبنان، خصوصاً أنه لا يزال يقبع في مرحلة انتقالية يصعب الخروج منها إلا بحسم الواقع الاقليمي المحيط الذي يتطلب اخضاعه للقرارات الدولية وإرادة المجتمع الدولي وفك ارتباطه بلبنان ليس إلا. في معادلة اظهار المخاوف والهواجس، فإن ما حكم منطق مرحلة ما قبل القرار 1701 هو غير الذي يحكم منطق مرحلة ما بعد القرار، لأن مبرر ابقاء"حزب الله"على سلاحه بين المرحلتين تغير، وفي ظل غياب منطقة تماس بينه وبين العدو الإسرائيلي، وفي ظل تطبيق اتفاقية الهدنة بحسب القرار، والعمل السياسي والجهد الديبلوماسي لاستعادة شبعا وانجاز مهمة اسر الجنود الإسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى، يصبح السلاح المكدّس بالداخل بحاجة إلى البحث عن مشروعية، وبالتالي فمبررات الداخل غيرها مبررات الخارج. من هنا قد نفهم أن يلجأ"حزب الله"الى تظهير الطائفة الشيعية وكأنها مستهدفة أو هي محط تآمر من الآخرين، فارتفاع منسوب التعبئة التي تُظهر"حزب الله"مستهدفاً من أطراف داخلية يرتبط بالدرجة الأولى بإظهار الحاجة للمحافظة على سلاحه أكثر من أي شيء آخر. بعد تحوله إلى معارضة، بنى"حزب الله"مرتكزات خطابه السياسي على محطة حرب تموز يوليو، والملاحظ أن هذا الخطاب يتركز على اختلاف في قراءة أسباب تلك الحرب ونتائجها، فمن ناحية ان"حزب الله"هو الأقدر والأعلم في ما خص التقديم لهذه المسببات، لأنه الفريق الفاعل والمبتدئ بالحرب، وهو الذي قدّر نتائجها عليه وعلى لبنان، وهو الذي توقع حجم الرد الإسرائيلي، بغض النظر إن اصاب أو أخطأ، فمناقشة هذه الاشكالية لا تعفي"حزب الله"من مسؤولية اعطائه المبرر للحرب، فكيف إذا كان يتصور كما يُشيع أن هناك من اللبنانيين من تواطأ لجره إليها، لذلك لا يجوز أن يُفرط"حزب الله"في قراءته الأحادية لأسباب ونتائج حرب تموز، وفي الوقت نفسه لا يجوز أن ينتزع من الآخرين حقهم في قراءتها ومناقشة أسبابها أو نتائجها وسبل تحاشي تكرارها. ثم ليس في مصلحة"حزب الله"أن يصيغ موقفه من الآخرين على قاعدة موقفهم من الحرب، فما همّ كثيرين من اللبنانيين أن ينتصر"حزب الله"ويخسر لبنان. والدليل على خسارة لبنان هو ما يحصل حالياً، لأن حرب تموز بالنسبة إلى الشيعة بحسب ما جاء على لسان السيد حسن نصرالله في ما لو انهزم"حزب الله" كانت تستهدف اقتلاعهم، أما بالنسبة إلى الآخرين كانت خطأ ارتكبه"حزب الله"ليس إلا، بحيث أدى هذا الخطأ الى أن ينقسم اللبنانيون الى متوجسين من بعضهم بعضاً، وذلك بفضل حملة"حزب الله"التعبوية التي أتبعها بعد الحرب. وفي قراءة حرب تموز أيضاً، أنها شهدت توحداً وطنياً، على رغم أنها فاجأت الجميع. وهذا التوحد انسحب على كل المستويات، فتوحدت الحكومة على النقاط السبع، وتوحد اللبنانيون وتحولوا إلى لجان للإغاثة، فما الخطيئة في ذلك حتى يصبح استعداد الناس لاستضافة اخوانهم وكأنه تآمر ودعوة إلى تغيير ديموغرافي ايضاً كما جاء في إحدى خطب السيد حسن نصرالله؟ إن الدخول في لعبة الهواجس لا يقتصر على"حزب الله"، بل لكل من الفرقاء في لبنان هواجسه. والعمل على تبديد هذه الهواجس لا يتم بطرح هواجس مقابلة، لا بل يكون عبر استدعاء عناوين الالتقاء والتسليم بالمبادئ العامة لأي مشروع وطني تكون الدولة مرتكزه انطلاقاً من أن لغة المستقبل بالنسبة إلى اللبنانيين عليها أن تقطع مع لغة الماضي، وعلاقات لبنان مع المحيط الاقليمي والدولي لا تكون على حساب اللبنانيين بقدر ما هي لحسابهم، من هنا فإن موضوع إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي ليس مسألة تفصيلية أو ثانوية في رأي معظم اللبنانيين، وهي ليست معزولة عن صراع الهواجس مع"حزب الله". تشكل التحولات الديموغرافية عندما تُطرح من المنظور السياسي نقطة ارتكاز في وعي الطوائف والمذاهب، وهي نقطة تصبح معها الأمور غير قابلة للاصلاح، خصوصاً في مجتمع تحكمه العصبيات الى حدود بعيدة، فيتحول الهاجس إذذاك من مقولة آنية أو أداة تحشيد سياسي إلى اعتقاد راسخ يتمكن من الوعي العام للفئة أو الطائفة المجتمعية، وهذا ما يضرب الصيغة التعددية ويهدد التعايش ويزيد من حدة الانقسام الوطني، وعليه فإن التقليل من شأن تداعيات أي كلام على هذا المستوى هو كالاستخفاف باستقرار صيغة العيش المشترك التي ميزت الاجتماع اللبناني لزمن، وبقدر ما يعتبر بعض قادة"حزب الله"سلاحهم ضمانة لوجودهم بقدر ما يتحول هذا السلاح إلى هاجس بحد ذاته يبشر اللبنانيين بحروب لا تنتهي. * كاتب لبناني