بعد مضي أيام معدودة من انعقاد قمة الدول الثماني الصناعية الكبرى في هيليغندام في ألمانيا، والتي افتتحت في أجواء الحرب الباردة واختتمت بالاتفاق على خطورة الاحتباس الحراري، استقبلت العاصمة البلغارية صوفيا بقلق، الرئيس الأميركي جورج بوش بسبب الدور الذي قد يكون طلب أن تلعبه بلغاريا في المستقبل القريب، ومن التنازلات التي من المحتمل ان يطلبها. وعلى رغم محاولة وزير الخارجية البلغاري الطمأنة أن بلاده لن تستخدم لنشر الدرع الصاروخية الأميركية عبّر 200 متظاهر من مختلف الأحزاب عن استيائهم فجابوا شوارع العاصمة قبل أن يتم إغلاقها بنشر الآلاف من رجال الشرطة والجيش. بوش كان أعلن في مقابلة تلفزيونية قبل مغادرته البيت الأبيض، أن زيارته تهدف الى تدعيم العلاقات مع دول أوروبا الشرقية: You"vegot a good friend كان جوابه عندما سئل عمّا ستكسب بلغاريا مقابل 3 قواعد عسكرية على أراضيها. وأضاف ان"الصداقات لا يجب أن تقاس على أساس اتخاذ قرارات متبادلة". بمعنى آخر"لا تسأل عمّا يمكن الولاياتالمتحدة أن تقدم لك، بل اسأل عمّا يمكنك انت أن تقدم لها". وفي وقت كانت تأمل صوفيا بحصد غلال وفائها، والحصول على أكثر من مجرد تربيت على الكتف, يبدو أن سعيها نحو تحقيق الحلم الأميركي عاد خطوة الى الوراء ولم تجن سوى دعم معنوي لحل الأزمة المتعلقة بقضية الممرضات البلغاريات اللواتي حكم عليهن بالإعدام في ليبيا بتهمة نقل فيروس الإيدز الى أطفال ليبيين. فقد أكد بوش لرئيس جمهورية بلغاريا جورجي بارفانوف التزام البيت الأبيض"تقديم المساعدة اللازمة"، معتبراً ما يحصل"أمراً مؤلماً". وصرح أن موقف أميركا الرسمي ودعمها الممرضات كان من أهم الرسائل التي حملها طوني بلير الى ليبيا خلال زيارته الأخيرة حيث التقى بأسر نحو 400 طفل. وأعلنت في ما بعد، مؤسسة القذافي للتنمية التي يترأسها سيف الإسلام نجل الزعيم الليبي، في بيان أن هناك"بوادر للحل في المستقبل القريب." ولكن على رغم جدية الموضوع والحملة المكثفة لدعم الممرضات، وتعالي الإدانات وإصرار الشعب على الإفراج عنهن، فهناك نقطة أخرى يعلق عليها عدد كبير من البلغار الكثير من الآمال. وعدٌ يدغدغ المشاعر، ويتمسك به الشبان، وهو عقد اتفاق يخولهم السفر الى أميركا من دون الحاجة الى تأشيرة دخول مسبقاً. في الواقع قدمت بلغاريا أكثر من مجرد قواعد عسكرية لصديقتها. وعلى رغم المواقف الرسمية المعلنة للحكومة وقيادات الأحزاب فإن الرأي العام يعارض بشدة وجود هذه القواعد وبخاصة التيارات"القومية"الجديدة، التي تزداد انتشاراً. بعد أن تخلصت من التبعية السوفياتية، وتخلت عن إديولوجياتها السابقة، عملت بلغاريا بجهد على تبني الخيار الديموقراطي بنسخته الأميركية من اجل توثيق علاقاتها مع الولاياتالمتحدة. ولم تعارض صوفيا العضو الجديد في"الناتو"الحرب على العراق، بل ذهبت أبعد من ذلك وأرسلت قوات مسلحة للوقوف الى جانب أميركا وبريطانيا. وتعلمت، ألا تتعرض لأميركا بعد أن عدلت هذه الأخيرة عن رأيها بتقديم مساعدة عسكرية تقدر بعشرة ملايين دولار، على أثر رفض الحكومة البلغارية توقيع معاهدة توافق فيها على عدم خضوع العسكريين الأميركيين للمحاكمة الدولية التي أقرتها الأممالمتحدة للبحث بجرائم الحرب. ليس جديداً أن تبحث دولة ضعيفة عن وصاية إمبراطورية كبرى, بخاصة انها اعتادت التبعية ولعب دور ساحة الصدام الأمامية للاتحاد السوفياتي. والمشكلة الأساسية لا تكمن في التنازلات التي تقدمها بلغاريا وما قد تخسره أو تربحه الآن. وإنما تكمن في أن المجتمعات البلقانية لا تعي أهمية موقعها في المعادلات الدولية الجديدة، والاهتمام الأميركي والغربي الزائدين بتلك الدول يؤكد تماماً أنها أصبحت رقماً صعباً. عوملت هذه المنطقة في منتصف القرن المنصرم وكأنها منطقة معادية تجوز استباحتها. وعلى رغم هدوء الروس النسبي حيال دخول معظم دول البلقان الى حلف الناتو عام 2004 فهم لن يتنازلوا مجاناً عن مداهم الحيوي. من مصلحة أوروبا الغربية أن تقدم دول البلقان القواعد العسكرية اللازمة لواشنطن لتكون البديل عن القواعد التي ينسحب منها الأميركيون في ألمانيا وغيرها. ولكن نقل تلك القواعد من اوروبا الغربية الى الشرق يجعلها اقل فاعلية في وجه روسيا حيث ان الأجهزة الاستخباراتية الروسية تعرف عن ظهر قلب الأراضي البلقانية وهي لا تزال بطريقة أو أخرى على صلة مع الأجهزة البلغارية. أما مصلحة واشنطن فتكمن في حماية مصالحها العامة بعدما فرضت وجودها العسكري في المنطقة منذ أن تدخلت في الحرب اليوغوسلافية, وهي تؤمن بضرورة إقامة نظام دفاعي يهدف الى رد أي هجوم صاروخي محتمل من ايران أو كوريا الشمالية، وبالتالي يترتب عليها إقناع دول الناتو من جهة بضرورة المشروع وعقلانيته، واقناع الكرملين من جهة أخرى أن 10 صواريخ اعتراضية لا يمكنها ان تؤثر في التوازن الاستراتيجي ولن تشكل تهديداً لروسيا. ويبدو أن المهمة قد أنجزت وتم الاتفاق على"تعاون شفاف"بين البلدين، كفيل بإزالة المشاكل. تبقى مسألة كوسوفو التي تطالب باستقلالها، وأكدت الاحتفالات"البلقانية"بجورج بوش إيجابية العلاقات مع واشنطن، وكشفت تأييد ألبانيا لهذا المشروع، على رغم امتعاض الكرملين الذي يلوّح بحق الفيتو وعرقلة موضوع الاستقلال. يبقى السؤال كيف يمكن بلغاريا أن تستفيد من الوضع الحالي طالما للجميع مصالح في المنطقة؟ وهل الأمر يستحق المجازفة بالعلاقات التاريخية مع روسيا؟ أم ان صوفيا تستعد لدور"حصان طروادة"الذي يقدمه الكولونيل السابق في الپ"كي جي بي"فلاديمير بوتين للبيت الأبيض؟