قبل أسابيع قليلة أصدرت مؤسسة راند الأميركية تقريراً بعنوان "بناء شبكات مسلمة معتدلة" اعتمدت فيه الصوفية طريقا إسلاميا يتواءم مع المصالح الأميركية، لأنه يمكن أن يكون حائط صد أمام الجماعات والتنظيمات المتطرفة، وجسرا يفتح الإسلام السني على التشيع ذي المرجعية الواحدة التي، إن احتوتها واشنطن، ضمنت سلامة لأمنها وحفظا لأهدافها الاستراتيجية في بلادنا، فضلا عن إمكانية أن يقرب التصوف، فكرياً وتنظيمياً وحركياً، بين الإسلام وقيم العلمانية، قياسا إلى التجربة التركية، حيث استوعب المتصوفة قيم العلمانية، وطوروا رؤيتهم الدينية لتواكب العصر، وتتمشى مع النهج الديموقراطي، على مستوى القيم والإجراءات. وقبل ثلاث سنوات تقريبا استضاف معهد نيكسون للدراسات الاستراتيجية مؤتمرا حاشدا، شارك فيه متصوفة ومفكرون إسلاميون ينتمون إلى مختلف دول العالم الإسلامي من غانا إلى فرغانة، لبحث هذه الفكرة، التي اختمرت في العقل الاستراتيجي الأميركي بعد حدث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، حيث بدأ الأميركيون، في سياق حملتهم الشاملة على"الإرهاب"، يدرسون إمكانية تعميم"الصوفية"بحيث تصبح هي الشكل المستقبلي للإسلام، أو على الأقل تقوى شوكتها على الساحة الإسلامية، لتحسم من رصيد الجماعات والتنظيمات السياسية المتطرفة ذات الإسناد الإسلامي، التي أنتجت تنظيم القاعدة وما على شاكلته. ولا تنبع الرؤية الاستراتيجية الأميركية هذه من فراغ، بل تتأسس على أمرين: الأول هو الأدوات والطرق التي اتبعتها الولاياتالمتحدة في إسقاط الشيوعية، والثاني وهو الجدل الذي طال بين المستشرقين حول ما إذا كان التصوف الإسلامي ينطوي على حلول لمعضلة التطرف، وما إن كان فيه ما يقرب بين الإسلام والليبرالية، أو ما يسهل مهمة واشنطن في تجديد مناهج التعليم الديني في العالم الإسلامي. وهناك من المستشرقين من يعتبر التصوف"قلب الإسلام"، ومن يؤكد أن"مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتما للتيار الصوفي"، بل إن هناك من بين فقهاء المسلمين أنفسهم من يؤكد أن حل مشاكلنا الحياتية المعاصرة في يد التصوف، وهنا يقول الداعية اليمني على زين العابدين بن عبد الرحمن الجفري الملقب بالحبيب علي:"الحقيقة أنني أرى أن لب القضية التي تعيشها الأمة ومصيبتها الكبرى يرجع إلى حب الدنيا وكراهية الموت. والذي يعالج هاتين الخصلتين هو علم التصوف بمعناه الراقي وليس التصوف الهزلي الذي يمارسه البعض اليوم. فالتصوف الراقي هو الذي يعتني بتطهير القلوب وصفائها ويخلصها من حب الدنيا وكراهية الموت ويربطها بالله عز وجل. فالتصوف بهذا المعنى هو القادر على حل جميع مشكلاتنا وأزماتنا الاقتصادية والاجتماعية والسلوكية لأن هذا المعنى من التصوف هو الذي أخرج لنا صلاح الدين الأيوبي ونور الدين زنكي والذي يقرأ تاريخ الاثنين يجدهما نتاج مدرسة التصوف". بل يذهب محمد يتيم إلى ما هو أبعد من ذلك حين يرى أن التصوف هو الذي يقي السياسة من الفساد، حين يوفر لها ثوابت نقية، ويسمح بالجمع بين"معانقة الحق ومخالطة الخلق"، أو الرباط الروحي والممارسة السياسية". ورغم غلبة الطابع الفلكلوري فيها على العقدي شقت الصوفية دربا وسيعا في تاريخ المسلمين، منذ أن كانت مجرد شحنات عاطفية تجيش بها صدور الزاهدين، إلى أن صارت مؤسسات اجتماعية تتراوح في بعض الدول بين الدين والفلكلور، وفي أخرى بين العقيدة والسياسة. وطيلة القرون التي خلت والصوفية تخذل كل الذين تصوروا اندثارها إما متهاوية تحت ضربات النقد اللاذع الذي تتعرض له من قبل الجماعات والتنظيمات والفرق الإسلامية التي تناصبها العداء، أو متصدعة بفعل موجات التحديث التي اجتاحت العالم الإسلامي في العقود الأخيرة، من جهة، وترعرع الأشكال الأخرى لجمعنة الحالة الدينية سواء المسيسة أم الدعوية والخيرية، من جهة ثانية. لكن هذه الطرق سارت في اتجاه مخالف للرسم البياني الذي خطه من توقعوا تدهور حالها واستطاعت أن تضم بين مريديها عناصر تنتمي إلى أكثر الفئات الاجتماعية والمهنية تحديثاً. لكن هناك فارقاً كبيراً بين طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي كما الحال في تركيا، وطرق صوفية تماهت في الفولكلور وباتت ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس شرعيتها كما الوضع في مصر، التي إن كان يمكن على استحياء تصنيف طرقها الصوفية بأنها أحد روافد المجتمع الأهلي اعتمادا على النشاط الخيري لبعضها، فإن من الصعوبة بمكان الطموح إلى تثويرها أو إنهاء مسألة انسحابها الواضح نسبيا من الحياة السياسية، أو على الأقل تنقيتها من بعض مظاهر الخرافة والدجل التي سقطت فيها، وبالتالي تفتقد إلى ما يجعل المسلمون يتقبلونها طريقا متكاملا نقيا للإسلام. فالصوفية المصرية مثلا إن كانت قد فرزت في عصور غابرة، ولمرات قليلة، شيوخا ناطحوا السلاطين باستنادهم إلى التفاف جماهيري منقطع النظير ينساق حول أعمال باراسيكولوجية وأسطورية ومنافع مادية، فإنها تحولت في الوقت المعاصر إلى مجرد خادم للحكام. وهي مسألة لا تخطئها عين من يتابع الاحتفالات الصوفية ولا يهملها عقل من يفكر في خطاب المتصوفة حيال السلطة من جهة، والحبل السري الذي يربط تنظيمهم بشقيه الإداري والروحي بجهاز الدولة الأمني والديني من جهة ثانية. أما في تركيا، فبدءا من نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه وأحد رموز الطريقة النقشبندية وصولا إلى أحد مريديه وهو طيب رجب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية، تغالب الطرق الصوفية تقليديتها وتستغل الفضاء الواسع الذي يتيحه الفكر الصوفي من تسامح واعتراف بالآخر في وضع أطر ووسائط سياسية تجعلها متناغمة مع الحياة الديمقراطية التي تعتمد على التعددية، كما تستخدم ما في الصوفية من حض على التراحم والتماسك والصبر على المكاره في تعزيز ثقافة الإنجاز، ومن ثم السير قدما على درب التنمية. لكن التصورات الأميركية هذه، تتعامل مع التصوف في بعده الحركي على أساس أنه إما نمط واحد إيجابي يمكن تعميمه، أو أنه حالة جوانية فريدة تعلي من تقدير طوية الإنسان وحريته، وتزيد من تسامحه في التعامل مع الآخرين، وإيمانه بحقوق الإنسان، وبذلك يمكن استخدامه في محاربة التطرف، واستخدامه على أنه الإطار الديني لثقافة سياسية إسلامية ذات سمت ديمقراطي. إلا أن التصوف، في حقيقة الأمر، لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي، كما بدأ، فقد صار مؤسسات ضخمة لها امتداد، عابر للقارات كافة، بعضها يجتهد في أن يلعب دورا تنمويا وسياسيا واجتماعيا، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية، بعضها متسامح في التعامل مع الآخرين، بما في ذلك أتباع الطرق الصوفية المنافسة، وبعضها يدخل في تناحر مع الآخر ويعاديه، بعضها تعاون مع الاستعمار - وربما هو ما تريده الولاياتالمتحدة في الوقت الراهن - لكن أغلبها حارب المستعمر بضراوة، وجزء منها ساهم في التنمية بأبعادها الشاملة. ويبدو أن النظرة الأميركية القاصرة تدور فقط في حيز ضيق ينظر إلى المتصوفة بوصفهم"خونة"أو"عملاء"أو متقاعسين عن المقاومة والجهاد، قياسا إلى ما قامت به جماعات من التيجانية في خدمة السلطة أيام الاستعمار الأوروبي لأفريقيا. فالمستعمر شجع التيجانية على الانتشار، لأنه رأى في تعاليمها ما يصرف الناس عن الجهاد والتفكير السليم وعن صحيح العقيدة والشريعة، ويلقيهم في غياهب الخرافات. وقد لمس الأوروبيون رغبة رجال الطريقة في الحصول على المال والنفوذ فراحوا يغذون هذه الروح، ويشترون ولاء هؤلاء بالمال والمناصب، فأثمر هذا وقوف التيجانية إلى جانب الاستعمار في بعض المواقف الحاسمة، وفي مقدمتها مساعدة الفرنسيين ضد الأمير عبد القادر الجزائري، ما حدا بالقائد الفرنسي بيجو إلى أن يرسل إلى شيخ الطريقة قائلا:"لولا عطفكم لكان استقرار الفرنسيين في هذه البلد أصعب بكثير مما كان... عندما تشعر بحاجة إلى شيء ما أو خدمة من أي نوع كانت فما عليك إلا أن تكتب إلى مرافقي الذي سيسره أن يبلغني رغباتك". كما ينظر الأميركيون إلى القاديانية، التي لبست رداء التصوف، لتخدع مناصريها بأن مسلكها سليم، مع أن مؤسسها الميرزا غلام أحمد، لم يكن سوى عميل يساعد الإنكليز لبسط نفوذهم على شبه القارة الهندية وأفغانستان، فها هو يقول:"لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنكليزية ونصرتها، وفي النهي عن الجهاد، ووجوب طاعة ولي الأمر، وكان هدفي أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة... إن عقيدتي التي أكررها أن للإسلام جزئين، الأول طاعة الله، والثاني طاعة الحكومة التي بسطت الأمن وآوتنا في ظلها من الظالمين، وهي الحكومة البريطانية". وتنسى الرؤية الأميركية هذه أو تتناسى تاريخا طويلا من كفاح المتصوفة ضد الاستعمار. فقد تكفلت الطرق الصوفية في شمال وغرب أفريقيا بكبح جانب من النزعة الاستعمارية التي استشرت لدى الأسبان والبرتغاليين بعد تمكنهم من إخراج المسلمين من الأندلس عام 1492. فالمستعمرون أرادوا أن يتعقبوا الدين الإسلامي جنوب المتوسط وفي عمق الصحراء الأفريقية، لاسيما بعد أن رصدت البابوية مبالغ ضخمة لتحقيق هذا الهدف، وراحت تنفخ في أوصال حكام أوروبا، ليتحمسوا في تنفيذ هذه الاستراتيجية. لكن مريدي الجازولية والقادرية والتيجانية والشاذلية والسنوسية كانوا لهم بالمرصاد، وحولوا سواحل أفريقيا في القرن السادس عشر إلى ساحة مواجهة ضد المستعمرين. ولولا نضال مشايخ الصوفية مثل الخليفة الطاهر في نيجيريا، وساموري توري في بلاد الماندونجو، وعبد القادر الجزائري في شمال إفريقيا، وعمر الفوتي التكروري في الغرب، ومحمد عبد الله حسن في الصومال، ورابح فضل الله في وسط القارة السمراء، لتغير التركيب الديني الراهن لأفريقيا تماما. فهؤلاء لم يكتفوا بالتصدي للاستعمار، بل كونوا دولا وممالك متماسكة، أعطت مقاومتهم للمستعمر عمقا وقوة وديمومة. وما كان لهذه الدول والممالك أن تقوم لولا نجاح مشايخ الطرق الصوفية في نشر الإسلام على نطاق واسع، بين أعداد غفيرة من البشر، وعلى نطاق جغرافي مترام. فحاصل ضرب البشر الموالين لهؤلاء المشايخ، والجغرافيا المنطوية تحت أقدام الأتباع، أنتج على الفور كيانات تجمع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. إن نشاط الطرق الصوفية في نشر الإسلام بالقارة الأفريقية، وإن كان قد بدأ متأخرا عشرة قرون كاملة عما قام به التجار في هذا الشأن، فإن المتصوفة، لم يكتفوا بإدخال جماعات متفرقة تعيش بالقرب من خطوط التجارة أو بعض قاطني المدن في الإسلام، بل توغلوا إلى قلب القارة، حيث القبائل الوثنية، التي تسكن القرى والنجوع، فحولوها إلى الإسلام. ونقلوا الدعوة من شكلها الفردي إلى صيغة جماعية مؤسسية. أما في قارة آسيا فبرز دور النقشبندية، التي وجدت نفسها، حين اشتد ساعدها، في حاجة إلى الانخراط في حركة الجهاد بمنطقتي الشيشان وداغستان ضد القيصرية الروسية، التي كانت تحتل آسيا الوسطى والقوقاز. فلما قامت الثورة البلشفية عام 1917 عاود الاتحاد السوفيتي المنهار زحفه جنوبا ليطوي القوقاز وآسيا الوسطى، فشحذ مريدو النقشبندية هممهم، واستجمعوا عزيمتهم، التي لم تنل منها المآسي التاريخية، وراحوا يقاومون الجيش الأحمر بكل ما وسعهم من قوة، تحت قيادة الشيخ نجم الدين دي جوتسو في داغستان، والشيخ أوزون حجي في الشيشان، واستمرت مقاومتهم أحد عشر عاما، بمساعدة الدولة العثمانية. وفي شبه القارة الهندية لعب النقشبنديون بقيادة الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الفاروقي دورا في نشر الإسلام بين صفوف المغول. وظهرت حركة الشيخ أحمد بن عبد الحليم الدهلوي الذي دعا إلى التصوف القائم على الاعتقاد والعمل بما جاء في الكتاب والسنة، لتقف للإنكليز بالمرصاد حين أخذوا يستبدون بالأمر، ويقلصون سلطات الحاكم المسلم، وأطلق الكلمة المأثورة:"إنه لا يُتصوَّر وجود ملك مسلم من دون نفوذ، إلا إذا تصورنا الشمس من دون ضوء!"، ثم فتواه الأشهر"إن الهند قد أصبحت دار حرب لا دار إسلام، وعلى المسلمين أن يهبوا جميعا للجهاد بعد أن أصبح إمام المسلمين لا حول له ولا قوة، ولا تنفذ أحكامه، والحل والعقد صار بيد الإنكليز... يعينون الموظفين، ويدفعون الرواتب، ويشرفون على القضاء وتنفيذ الأحكام". وإثر هذه الفتوى قاد العلماء الجهاد، وخاضوا غمار الحروب والمعارك لإنقاذ المسلمين من الإنكليز، ومن السيخ الذين لقوا دعمًا من المحتلين. وكان من تلاميذه الشيخ أحمد بن محمد بن عرفان الذي أسس دولة ذات شأن، خاضت جهادا طويلا ضد السيخ، وهزمتهم في معارك عدة، إلى أن سقط شهيداً، بعد أن دبت الفتنة في صفوف تابعيه، لكن راية الجهاد لم تسقط بعده، بل حملها أتباعه، لتستمر ضد السيخ والإنكليز معا. ولعب مريدو الطريقة المحمدية دوراً في مقاومة الاستعمار الهولندي لإندونيسيا وجنوبالهند، وتمكنوا من إبرام تحالف مع الهندوس في هذه الحرب الطويلة، التي انتهت بإجبار المستعمر على الرحيل. وفي تايلاند، نشطت الطرق الصوفية في منطقة فطاني، التي تقع بين ماليزياوتايلاند ويعود أصل سكانها للمجموعة الملايوية ويتكلمون اللغة الملايوية ويكتبونها حتى الآن بأحرف عربية. في خاتمة المطاف يمكن القول إن الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تعزيز التصوف في وجه الجماعات والتنظيمات السياسية الراديكالية، محكوم عليها بالفشل الذريع. وربما يغير الأميركان وجهة نظرهم، حال قراءة متعمقة لما ينتجه الفكر الصوفي من ثقافة سياسية من ناحية، والإطلاع على تاريخ الطرق الصوفية في آسيا وأفريقيا من جهة ثانية، وربما يمضون في استراتيجيتهم، لكن الثابت في كل الأحوال أن الصوفية شكلت على مدار التاريخ أحد تجليات الإسلام في أبعاده الدينية والسياسية والاجتماعية، وستظل تزاول هذا التجلي في المستقبل المنظور، من دون أن تكون مطية في يد الأميركيين. * كاتب وباحث مصري مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط.