في عام 1959، إجتاح الولاياتالمتحدة ذعر هائل بسبب إطلاق القوة المنافسة لها آنذاك، الاتحاد السوفياتي، القمر الاصطناعي الأول"سبوتنيك". وتعمق القلق من التأخر علمياً أمام المنافس السوفياتي مع سير رائد الفضاء الأول يوري غاغارين في الفضاء الكوني، عام 1961، وحينها، وقف الرئيس الأميركي الشاب، جون كينيدي، ليرسم هدفاً آخر للتنافس في الفضاء: الوصول إلى القمر. وفي عام 1969، استطاعت أميركا ان ترسم صورتها كقوة متفوقة بسبق وصول المركبة"ابوللو-11"بروادها إلى القمر. وفي عام 1992، وبعيد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، رفع الرئيس جورج بوش الأب مقولة:"السيطرة على الأرض تبدأ من الفضاء". ولم يتردّد البيت الأبيض في إعلان دخول أميركا إلى القرن 21، قبل حلوله، عندما سار الروبوت"سوجورنر"على سطح المريخ في عام 1996. وتعطي الشواهد السابقة مثالاً عن الأهمية التي توليها القوى العظمى الحديثة، وخصوصاً الولاياتالمتحدة، لتفوقها العلمي الذي تعتبره حجر الزاوية في سطوتها وهيمنتها وجبروتها. تراجع اميركي في القرن 21 يبدو ان مركز الريادة الذي احتلته الولاياتالمتحدة طويلاً في العلم والتكنولوجيا، والذي ساهم في تبوئها عرش النظام العالمي الجديد، شرع في الافلات من يدها. فقد ظهرت أخيراً مجموعة من التقارير والدراسات، إضافة إلى تصريحات لمسؤولين أميركيين، تتحدث عن مؤشرات تدل إلى ان أميركا باتت تعاني خطراً مردّه ظاهرة"التخلف"التكنولوجي، وأنها بحاجة إلى اصلاح تربوي في مناهج العلوم والرياضيات في مختلف المراحل الدراسية. ومن نافل القول أن الأمر فيه كثير من النسبية، لأن التخلف المُشار إليه هو عن موقع ريادة الجنس البشري، وليس التخلف الذي تعانيه شعوب الدول النامية ودولها! ففي تقرير صدر عنه أخيراً، يعترف وزير التعليم الأميركي رود بييج بأن المدارس الاميركية"متأخرة عن كثير من القطاعات الأُخرى في استخدام التكنولوجيا الرقمية". ويجيء الاعتراف على رغم اشارة بييج إلى أن مدارس أميركا كلها متصلة بالانترنت، كما توفر كومبيوتراً على الأقل لكل خمسة تلاميذ. ويورد التقرير عينه أن العديد من الطلاب يعتمد على نظامي"التعليم عن بعد"وپ"التعليم المنزلي"عبر الانترنت. ويضيف:"أن هذه الانجازات غير كافية...لا بد من إعادة تأهيل المدرسين وتدريبهم على الاستخدام المتطور لأجهزة الكومبيوتر والانترنت". كما يلفت إلى ان الطلاب أكثر كفاية في انظمة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من اساتذتهم. ولذا، يعد التقرير بتقديم خطة للكونغرس لمعالجة ما يسميه"ظاهرة التخلف التكنولوجي". ولا يشير تقرير"أمة في خطر"إلى الارهاب، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، بل يتحدث عن اختبارات عالمية في مادتي العلوم والرياضيات بين طلاب اوروبيين واميركيين حل فيها أبناء"العم سام"في المراتب الاخيرة. ولذا، اصدرت اللجنة، التي تضم 18 شخصاً من مشاهير العقول الاميركية في التربية والعلوم والتكنولوجيا، تقريراً سمّته"الاساسيات الخمسة"في الإشارة الى مواد تعليمية يجدر التركيز عليها، تشمل الرياضيات والعلوم والكومبيوتر. ووجهت اللجنة تقريرها إلى المسؤولين الحكوميين والتربويين، وكذلك أهالي الطلاب. واعتبرت اللجنة تقريرها بمثابة:"جرس إنذار عالي الصوت، ودعوة إلى وقف التدهور العلمي في المدارس والجامعات...إنه يهدف لإحداث صدمة قوية في عقل الأمة الأميركية". وفي سياق مماثل، نشرت"لجنة العلماء والمربين ومديري الشركات"تقريراً حمل عنوان"تجاوز العاصفة""يوصي بتعزيز التعليم في مجالات العلوم والرياضيات والفيزياء، وبالاهتمام بمراكز الابحاث العلمية وزيادة المخصصات المالية لها. ولعل أخطر ما في التقرير، من وجهة نظر أميركية، اشارته إلى ان الصين والهند وسنغافورة:"باتت تحتل المقام الاول عالمياً في الرياضيات... لقد صارت تلك البلدان من الدول الواعدة التي يمكن ان تتجاوز زعامة اميركا العلمية... لقد منحت الصين وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان درجة الدكتوراه في العلوم والهندسة أكثر مما فعلت اميركا بين عامي 1986 و2001". وشدّد التقرير عينه على أن هذه الدول أنفقت على الأبحاث العلمية والتكنولوجية بين عامي 1991 و 2003 أكثر مما أنفقت أميركا ببلايين الدولارات، الامر الذي يعتبره:"مصدر خطر حقيقي يهدد هيمنة اميركا على قطاعات تكنولوجيا المعلومات والمنظومة الرقمية". وفي السياق نفسه، نشرت"اكاديمية العلوم القومية"الاميركية أخيراً، تقريراً جاء فيه:"إن الدعائم العلمية والتقنية لتفوقنا الاقتصادي تتآكل في وقت تستجمع فيه دول كثيرة قواها". ويضيف:"على رغم أن العالم ما زال يفترض أن أميركا هي الزعيمة الأولى في المجالات العلمية والتكنولوجية، إلا ان هذا الاعتقاد يتبدد تدريجاً وينحسر، بفعل انتقال هذا التفوق إلى دول صاعدة الصين والهند وتايوان... ما يجعل من الصعب على اميركا استعادة دورها القيادي عالمياً". المدرسة هي الحل تجاوباً مع تلك الدعوات الاصلاحية وتفادياً لمزيد من التدهور والاساءة إلى مكانة أميركا ورصيدها العلمي، ارتفعت أصوات مؤثرة وفاعلة في الاوساط التكنولوجية الاميركية تدعو إلى تحسين الاداء التعليمي العلمي وتجديده، تحت شعار"مدارس اميركية قوية". ويترأس تلك الأصوات نافذون على شاكلة البليونيرين ويلي بروود وبيل غيتس مؤسس شركة"مايكروسوفت"العملاقة للكومبيوتر. وينظم هؤلاء حملة واسعة تساهم فيها مختلف الوسائل الاعلامية، لإقناع الشعب الاميركي بأن الولاياتالمتحدة تحتاج إلى إصلاح فعلي لرفع المستوى العلمي والتكنولوجي في مدارسها وجامعاتها. وتحض هذه المجموعة أميركا على تبني مجموعة من الاقتراحات مثل إطالة السنة التعليمية وأيامها، وتحسين مستويات المعلمين وزيادة اجورهم، واعتماد الكفاية العلمية والمهنية وتنشيط مراكز الابحاث الجامعية وغيرها. وفي الاطار ذاته، أطلق الرئيس جورج بوش في خطابه عن"حال الاتحاد"أخيراً،"مبادرة التنافس الاميركية"the american competitiveness initiative لمواجهة ما سمّاه:"التفوق الصيني والهندي المحتمل.. وللابقاء على أميركا أمة رائدة علمياً وتكنولوجياً". وترتكز هذه المبادرة على ثلاثة عناصر أساسية: مضاعفة تمويل برامج الابحاث العلمية على مدى 10 سنوات، والسماح بتوسع استثمارات القطاع الخاص في التكنولوجيا العالية وأبحاثها، والعناية القصوى بتعليم مادتي العلوم والرياضيات عبر تدريب 70 الف مدرس لهذه الغاية. وفي هذا السياق، تلفت مقالة للصحافي الأميركي توماس فريدريك نشرت في جريدة"نيويورك تايمز"أخيراً تحت عنوان"الفجوة الرقمية" Digital Divide يقول فيها:"أن الطلاب الاجانب يسيطرون على تخصصاتنا ودراساتنا الجامعية في مجالي العلوم والتكنولوجيا الرقمية وعلى معاهد البحث العلمي... إن هؤلاء يعودون إلى بلدانهم ليؤسسوا شركات وينتجوا ابتكارات وابداعات منافسة لنا في كل شيء". كما يشير فريدريك إلى تراجع مكانة اميركا العالمية من المرتبة الرابعة إلى الدرجة 15 حتى العام 2001 في مجال استخدام شبكة الانترنت. ويطالب الرأي العام الاميركي بأن يستدرك السقوط في هذه"الهوة الرقمية"، وبأن يصبح هذا المطلب جزءاً من الحملات الانتخابية في الولاياتالمتحدة. وكذلك أنشأ لهذه الغاية موقعاً الكترونياً تحت اسم"تيك بريزيدنت.كوم"techpresident.com. وطالب ايضاً بتبني شعار"توصيل كل طفل بالشبكة". واللافت ان فريدريك طرح إبقاء العقول الاجنبية في اميركا ومنحها"البطاقة الخضراء"لئلا تتحول اميركا من مستقبلة للعقول إلى طاردة لها.