سبق الحديث، في هذا المكان، عن رواية الدكتور غازي القصيبي التي سماها "حكاية"، ليبعدها عن تَقَعُّرَات النُقّاد. ووفقاً لما قاله كبار المبدعين، ومُنذ عقود، إن لم يكن مُنذ قرون، أن نفراً من النُقّاد، وليس كلهم بالطبع، اتجهوا إلى "النقد" التهكّمي الجارح أحياناً، لأنهم فشلوا في إجادة ما كانوا يتمنون أن يكونوه. والمقصود ب"المبدعين"هنا هم المبدعون في جميع الفنون، من رسم ونحت وتمثيل وشعر ورواية. ومُنذ القرن الماضي يُعتبر الإبداع في السيطرة على"الكاميرا"لالتقاط الصور المعبرة، فناً يرقى إلى مستوى بقية الفنون. ويبقى"النُقّاد"الحقيقيون الذين يؤدي نقدهم إلى رفع مستوى الفنون، هم من أجادوا شيئاً مشابهاً لما ينتقدون. خصوصاً إذا كان النقد بعد ممات المُنتقدْ، حينما تنتفي دوافع الغيرة والحسد، كنقد الشاعر أبي العلاء المعري شعر نده أبي الطيب المتنبي. وأذكر، وربما يذكر غيري من أبناء جيلي، حينما وقف السير لورانس أوليفييه ليتسلم"جائزة الإبداع مدى الحياة"، بعد أن فاز أكثر من مرة ب"الأوسكار"، وقال: إن سر نجاحي في إجادة تمثيل مسرحيات شكسبير، وفي الأفلام التي كتب قصصها مبدعون حقيقيون، يعود إلى تجاهلي ما يكتبه النقاد واهتمامي بما يقوله من أُعجبت به من ممثلين ومخرجين وكُتّاب. ومن يقرأ كثيراً مما يُكتَب في الصحافة العربية، يجد أن كثيراً ممن"نقد"تقديم الخدمات، و"نقد"الآخرين في جميع المجالات الأخرى من سياسية واجتماعية، ليسوا أكثر من أنهم غير راضين عن أنفسهم، أو لا يعتقدون أن مجتمعاتهم أعطتهم ما يَرون هم أنهم يستحقونه من"مكانة". والقائد الإداري الممارس سيهتم بما جاء في"حياة في الإدارة"، وسيتجاهل ما يكتبه"مصلحون"كما يدّعُون أو كما قد يكونون في الواقع، غير أنهم يتحدثون في ما لا يعرفون. ولكن موضوعنا ليس عن النقد ولا عن النقاد، وبكل تأكيد، لا يُعْتبرُ كاتب هذه السطور لا أديباً ولا ناقداً أدبياً. ويحكم نظرته إلى"الجنّية"ما يجده في قراءتها من متعة وما يستفيده مما ورد فيها من معلومات ووسائل بحث. وقد تعلمت من هذه"الحكاية"الكثير من الأشياء التي كنت أجهلها، إضافة إلى الاستمتاع بقراءة سرد مسلٍ. والذي قادني إلى كتابة هذا الموضوع عن العلاقة بين"الجنّية"والخلفية العلمية، هو استعانة المؤلف بخلفيته كأستاذ جامعي، التي من مسلماتها إجادة وسائل البحث العلمي بصرف النظر عن موضوع البحث. وقد يجد من يقرأ أعظم روايات الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أنهم لم يكونوا في حاجة إلى الاستعانة بوسائل البحث وحشد المعلومات من مصادر أكاديمية، لأنهم في كثير من الأحيان يعرفون عن موضوع الرواية ومكانها وزمانها أكثر من كل ما هو متوافر في مصادر مكتوبة أخرى. ومع ذلك، يجد القارئ أن شكسبير استعان بما كان متوافراً من معلومات وأساطير عن التجارة والتجار حينما كتب"تاجر البندقية". وحتى في وقتنا الحاضر، نجد أن الروائي السعودي عبده خال كتب الرواية ولم يجد حاجة إلى الاعتماد على البحوث، ربما لأنها ليست موجودة بطريقة مباشرة عن المواضيع التي كتب عنها، في الوقت والمكان اللذين جاء وصفهما في رواياته. ومع ذلك أجاد وأبدع لأنه كتب عن معاناة شخصية. ومن طبيعة الأمور أنه يعرف عن موضوعه أكثر من كل الباحثين والنقاد مجتمعين أو أفراداً. والقصيبي شاعرٌ كما يرى المهتمون بالشعر. وروائي كما يرى الروائيون. ومفكر"من الطراز الأول"كما كان يرى عَالم مُثَقَّف كالشيخ علي الطنطاوي رحمه الله. وإداري مخضرم مميز كما يرى من مارسوا الإدارة التنفيذية العليا. وسيبقى القصيبي، ما بقي حياً، وفي نفسه شيء من أستاذ الجامعة وعميد الكلية. فكم من المثقفين يعرف أن المفكر العربي"الموسوعي"أبا عثمان الجاحظ، كَتَبَ عن"الجنّ"قبل ما يزيد على ألف سنة، ما يتفق إلى حدٍّ كبير مع ما وصل إليه العلم الحديث عن"أساطير الجن". وقد لا يخطر على البال أن يقرأ المرء عما كتبه الجاحظ في رواية رومانسية مسلية عن أساطير الجن. وهذا أحد شواهد استعانة المؤلف بوسائل البحث والاستقصاء والملاحظة والاستنتاج. أي بوسائل البحث العلمي. انظروا إلى اسم بطل الرواية"ضاري ضرغام الضبيّع"، ما يلفت الأنظار إلى القدرة الإبداعية في"نحت"هذا الاسم من تراث الجزيرة العربية، وملاحظة أن معظم سكان المنطقة الوسطى يحوّلون"الضاد"إلى"ظ"، حينما ينطقون الكلمات التي تحتوي على الحرف الذي تُسمّى لغة العرب به. في الصفحتين 40 و41 يقول بطل الرواية ضاري الضبيّع: وفي أوقات لاحقة، أدركت أن التفسير الأنثروبولوجي والنفسي لأساطير الجن لم يكن من اكتشافات العلم الحديث، ولا من ابتكارات دوركهايم أو فرويد، وإنما يعود إلى عهد بعيد. إذ وضع المفكر الموسوعي العربي العظيم الجاحظ يده على العوامل التي أدت إلى انتشار أساطير الجن، حين قال: إذا استوحش الإنسان تمثّل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب، وتفرّق ذهنه، وانتقضت أخلاطه، فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع، وتوهّم الشيء اليسير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصوّر له من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث تواردوها، فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشئ، ورُبّي عليه الطفل، فصار أحدهم حين يتوسّط الفيافي في الليالي الحنادس، فعند أول وحشة مفزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأى كل باطل وتوهّم كل زور... فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان! وكلمت السعلاة! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي