المتنبي ساحر كلمات، وعرّاف أفكار. ملحميّ اللهجة، وسمفوني التآليف. ناصع الحضور، مغرق في الغياب، جليّ وخفيّ، أليف وغريب، روح صارخة في عنفوان امتلاكها للعالم، وروح منكسرة في أسى انهيارها في مواجهة العالم. البطولة في أوجها والهزيمة في قيعانها. وفي ذلك كله يكمن سر بقائه، وديمومة فتنته للوعي العربي وللاوعي، بقدر واحد. سره الحقيقي، للعامة، في أمرين: كان حامل القيم والمثل العليا التي تجسد بها الثقافة جوهر حضورها في التاريخ. في زمن الانهيار والتشظي العربي، كان كالحدث الحمراء في صلابة بنيانها، وموج المنايا حولها متلاطم. وأظن هذه الصورة بين أجمل ما جسَّد به المتنبي نفسه والذات العربية المتمثلة فيه وفي سيف الدولة كما ابتكره هو. أي أن المتنبي كان من هذه الوجهة، وجهة تجسيده للمثل العليا والقيم ذات الديمومة، شاعر الجماعة، صوت الذات الجمعية في بعديها التاريخي والمستقبلي. لكنه ? في اللحظة نفسها - كان أضخم ذات فردية في التايخ الشعري العربي. وسحره الحق يكمن في توحد هذين البعدين فيه، مندمجين في لغة شعرية فاتنة، وإيقاع فذ، وذكاء شعري خارق. تمثلت كلها في كونه يصهر الفكر الخالص في بركان الزخم الانفعالي. وذلك سر كل شاعر عظيم بحق: صهر الفكر في الشعور، توحيد الذات الجماعية بالذات الفردية، وتجسيد التجربة والرؤيا في لغة وإيقاع أيقونيين، كما أسميهما. الشاعر الذي يعرف كيف يصف قلعة تبنى شامخة في الفضاء، والرماح تتقاذف حولها، بلغة تقول:"بناها فأعلى والقنا تقرع القنا"فيجسد شموخ البناء وتصارع الرماح بشموخ الألفات وتضارب القافات، ثم ينتقل في الشطر الثاني إلى الواوات وصورة التموج وترطبة التاء والطاء والميم المتكررتين، فيقول:"وموج المنايا حولها متلاطمو"لا يقال فيه إلا أنه يملك عصا موسى السحرية في استحضار المكونات الصوتية والتصورية إلى جسد الفكرة والتجربة والانفعال الذي يتفجر منه الكلام. الذكاء الشعري سر الشعر الأكبر، وقد أدرك العرب ذلك حين اشتقوا الشعر من الفطنة. والشاعر الظيم شاعر ألمعي الذكاء، والمتنبي كان ذلك، وغيره قلائل. وندرة الذكاء طابع الشعر في زماننا، ولذلك لا ننتج شعراء عظماء بحق. كان كلٌّ من سميرَيْ المتنبي وخليليه، المعري وأبو تمام، واحد قبله وواحد بعده، مثله في بعد واحد فقط: الأول شاعر فكر وذات فردية لكنه لم يكن سار لغة، والثاني شاعر لغة مترف لكنه ضامر الذات. في المتنبي اجتمع البعدان وتآلفا وتوحداً. ونادراً ما انفصما، وحين انفصما كان شعره عادياً. للخاصة، سحر المتنبي في لغته الشعرية، وفي اغترابه في العالم، في قلقه، وتمزقه، وإخفاقه، وضياعه، وتناوسه بين شهوة الحياة \ شهوة السلطة والمجد، وبين الاستجداء للعطف والحب والمكانة. مأساته في عشقه لسيف الدولة، وفي حبه لأخته، وموته التافه -هو شاعر الرماح والسيوف - ولغته المتكسرة حنيناً وتوقاً وأسى وندماً على حبيب أضاعه بصلف أو بحمق، مأساة تبقى. وانتهاكه للمألوف والسائد في اللغة والصورة والعلاقة بين الشاعر والسيد السياسي مالك القوة، وصرخته في وجه السلطة أنه خير من تسعى به قدم، مع افتقاره إلى عطاء مالك القوة، مأساة المعاصرين أيضاً. في جانب مني، عرفت المتنبي وعشته: عشته أنا ثانية لي، أنا مندغمة بكل الاغتراب والوحشة وانتهاك السائد وعشق اللعب بالكلام وتيه الروح في عالم داكن، وعشته في علاقته السرية بعاشقه ذي السلطان وكونه في لحظة السيد وفي لحظة المستجدي. سلخت عنه قشرة البطولة والذكورة وشهوة المجد وتجسيد القيم العليا، وصوته الجماعي، وكتبته وكتبني متقاطعين متشابكين تائهين معاً، قلقين مع الريح القلقة، مبهمين لا يعرفنا أحد ولا نعرف أحداً. فيه وجدتُني، وفي أنا وجدني في وجودي له. وكنا في عذاباتنا كل منا يندب الثاني ويلوّعه، ويواسيه، وبه يتعزى وبه يستعين على براح، وله يهمس بما لا يهمس لأحد، ويبوح بما لا يباح. كتبته في لغة لينة، هشة، خالية من صراخ البطولات وضجيجها، وفي إيقاع النثر المتكسر الخافت، وبعثرت تجمّع نفسه نثاراً على الصفحات، وكتبته في صفحات سوداء لا كلام فيها. لكن كما أن أحداً لم يفقه ما هو، لم يفقه أحد ما فعلته أنا: ذاته الثانية. تركته يرسم ويدوّن مذكرات مبهمة بقلمه ويتأود في أوج الشهوة لعاشقه السلطان. أفرغته من محتواه المألوف المتوارث، من الفحولة الذكورية في المعركة، إلى الفحولة الصوتية في الكلام الشعر. قلبته عَقْساً على رَقِب. لكن، كما قال هو: لم يَقْفَهْ حَدَأٌ. وذلك أيضاً سر اغترابه في العالم، لا عنه وحسب. وقد جسد هذا الاغتراب والإبهام واللافهم في أعظم"ما"كتبت في تاريخ العربية حين صرخ: "يقولون لي:"ما"أنت، في كل بلدة وپ"ما"تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يُسْمَى". ولو قال: يقولون لي:"من"أنت، لما كان النمتبي ولا ذاتي الثانية. وقد قلت له: جلَّ أن يُسمى؟ أم جلّ أن يكون يا أحمد؟ فقال: ومثلك يسأل يا كمال؟ وغمزني بعين فارغة ترنو إلى البعيد القصيّ الذي لم يكن هناك. * شاعر وناقد سوري مقيم في أوكسفورد