تمهلوا!! فغازي القصيبي هنا لا يتحدث عن قبيلته "النَّسَبية" بل هو يتحدث عن قبيلته "الفنية" بكل أفخاذها وبطونها، يتحدث عن الفن والشعر والأدب... كتاب صغير جداً، ومفيد جداً، وشاعري جداً، ومكتوب بوعي الشاعر الناقد، انه حصيلة ذائقة فنية، واثقة شفافة ومستبطنة لكل عصور الشعر العربي وأحواله تأتي كمعزوفة موسيقية ذات مقاطع، كل مقطع له لونه وطعمه ولكنه مندمج في الوحدة الهارمونية للحن. هكذا قام القصيبي بتأريخ مراحل الشعر العربي ولكن على طريقته هو وليس على الطريقة التقليلية المتعارف عليها. فالكتاب تاريخ شعري مكتوب بأسلوب فني يقوم على الذائقة النقدية، واستيعاب المراحل الشعرية، وفق قانون رؤية الشاعر الفنية، وليس رؤية الناقد المقننة بشروط النقد الصارمة. اسمع أو اقرأ ما يقول القصيبي: "يظلم بعض الباحثين المعاصرين الشعر العربي القديم حين يعتبرونه مجرد "كلام موزون مقفى يدل على معنى" هذا هو التعريف التقليدي... أما تعريف القصيبي فهو يحدده بالقول "والحقيقة التي لا مراء فيها أن العرب منذ بدأت علاقتهم بالشعر كانوا يدركون أن هناك "شيئاً ما" غير الوزن والقافية يفرق بين الشعر الجدير بالبقاء والنظم الذي يموت بمجرد ولادته..." من هذا الوعي النقدي انطلق القصيبي في كتابه "عن قبيلتي أحدثكم". وقبيلة القصيبي "الشعرية" قائمة على الطبقية، وهي ليست طبقية ابن سلام الجمحي، ولكنها طبقية تكاد تشبه الطبقية الاجتماعية، فهناك الشعراء الملوك ، والشعراء الفرسان، والشعراء الموظفون الكبار، والشعراء الأجراء، والشعراء الحرفيون الصغار. أما الشعراء الملوك فهم تلك الطبقة المتمردة، أو القوية أو الحاكمة من شعراء الجاهلية كامرئ القيس، وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وعنترة بن شداد وغيرهم. صدق هذا المدلول الفني الذي أدخل ضمنه الشعراء الصعاليك بحكم تمردهم وصلابتهم وعنفوانهم فهم ملوك ارادتهم بما يمتلكونه من جرأة وفروسية، إلا أن هناك عبيداً للشعر يخرجون عن طبقة الملوك هذه ليس في ابداعهم ولكن في سلوكهم غير الملوكي. وهذا بالطبع ما تجاوزه الدكتور غازي القصيبي. أما طبقة الشعراء الفرسان فهي تلك الطبقة التي نشأت في ظل سلطة، أو تحت قوانين سلطة، أمثال جرير، والفرزدق والأخطل... وتحديداً سلطة الخلافة الأموية، وهذه الطبقة التي أطلق عليها القصيبي تسمية "الكتيبة الضخمة" استمد شعراؤها فروسيتهم من حاجة الدولة الأموية الى ألسنتهم. فالدولة قائمة على ايقاظ العصبية القبلية، واثارتها وليس من محرض أقوى من لسان الشاعر لإلهاب هذه العصبية، لهذا فالشاعر مُدل على الدولة، تنفق عليه بسخاء، وفي الوقت نفسه تهاب لسانه السليط... فهذا أحدهم يستنكر على الخليفة الداهية فيقول: أيشتمني معاوية بن حرب/ وسيفي صارم ومعي لساني؟ هذا تحدٍ صريح يجابه بالاسترضاء والمكافأة!! والقصيبي لا يتوسع في نماذج "الطبقات" فنجده يتجاوز أو يهمل مثلاً أشد الشعراء الفرسان سلاطة لسان وبذاءة في فنون الهجاء والقدح، هجاء الدولة وأمرائها كيزيد بن مفرغ الحميري الذي يقول للخليفة: "أتغضب أن يقال أبوك عفّ...". والفروسية عند هذه الطبقة في منظورالقصيبي النقدي ليست فروسية الهجاء، أو المديح أو الفخر فحسب، بل هي الفروسية بمعناها المتسامي أيضاً... لذا نجده يرى أن الشعراء العذريين فرسان من نوع آخر وهو التسامي بمفهوم الحب، ذلك التسامي الذي يرفعه عن هبوط الجنس أو المتعة الحسية... ونرى أن هؤلاء الشعراء العذريين الجدد يفتحون آفاقاً أكثر رحابة لهذا اللون من الشعر فلا يجعلون شعر الحب والغزل نوعاً من الولوج الى القصيدة ككليشيه فنية متوارثة...!! ولكنهم يخصصون قصائد كاملة لحبيباتهم بل يكادون يوقفون شعرهم على هذا النوع الشعري النبيل، متجاوزين بذلك ما نجده في الشعر الجاهلي من هذا النوع النادر النبيل كقصيدة المرقش، وربما المنخل اليشكري. أما طبقة الموظفين الكبار فهي طبقة تختلف ليس في شاعريتها وخصبها الفني، ولكن في قيمها الشعرية ان صح التعبير، فهذه الطبقة لا تشكل قلقاً ولا خوفاً من قبل السلطة وانما هي مجموعة من الشعراء الذين يوظفون مقدراتهم وابداعاتهم الفنية في المديح، وهذه الطبقة يتزعمها المفصِّل أو "الترزي" الأكبر أبو تمام الذي يقول ناصحاً تلميذه البحتري: "فإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهِرْ مناقبه وأظهِرْ مناسبه... ولكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد". لقد تنبه القصيبي الى هذه الخاصية في هذه الطبقة التي أجبرت على أن تقطع القماش الشعري على قدر همة الممدوح ومنزلته، ولا يهم الوقوع أو الخروج عن حدود المبالغة ما دام ذلك مُرضياً لأهواء الممدوح مُشبعاً لرغباته النفسية ولو على طريقة الاسراف غير المألوف، أو المعقول كقول أحدهم مادحاً ان النطف التي لم تخلق بعد لا في الأرحام ولا في الأصلاب تخاف هيبة وسلطة الممدوح: "لتخافك النطف التي لم تخلق". أما طبقة الأجراء فهم أولئك الشعراء الذين ليسوا فرساناً ولا موظفين خياطين يجعلون القصيدة على كيف الممدوح طولاً وعرضاً وربما لوناً...! لكنهم أولئك الشعراء الذين جاؤوا في الزمن الرديء، فلا هيبة للسلطان ولا خوف منه، لأن السلطان سلطان خائف، مذعور يحتاج الى من يرفع من قيمته المعنوية، ويشد أزره ان لم يكن بالسيوف والجنود فبالكلمات والقصائد. هذا هو وضع غالبية هذه الطبقة وغالبية حكام تلك الحقبة، ولعله من سوء الطالع أو من حسنه ان يولد المتنبي الشاعر العملاق الذي تلقى أجره عن قصيدة عملاقة ديناراً واحداً!! وهو الشاعر الفارس، ذو الكبرياء صاحب الروح المنطوية على شخصية ملك في هذا الزمن النكد... ومع هذا فإن روحه الوثابة، وهمته المتحفزة تبحث عن موقع قيادي يبزّ به الصغار والكبار من ممدوحيه: "وفؤادي من الملوك وإن كان/ لساني يرى من الشعراء". ويرى القصيبي ان هذه الفترة على رداءتها في زمن السلطة العربية عموماً إلا أنها: "من الفترات المظلومة في تاريخ الشعر العربي، ربما كان لانحدار الشعراء من عروش الجاهلية الى ذل الكدية أثره في جعل الباحثين يبدأون دراسة الفترة بأحكام مسبقة". ويؤكد القصيبي ان هذه الطبقة ربما كانت تمثل آخر أفواج الشعر العربي الراقي المثير دهشة وجمالاً وتكامل شاعرية ويكفي أن يمثلها شاعر العربية الكبير "أبو الطيب". الطبقة الأخيرة من طبقات القصيبي هي طبقة الشعراء الحرفيين الصغار وهي التي تمثل أسوأ أيام العرب انحطاطاً وتخلفاً - لم يدرج القصيبي المرحلة الراهنة في طبقاته - هذه المرحلة التي تبدأ من سقوط بغداد الى عصر النهضة... "وهي طبقة المساكين والفقراء والمعوزين من الشعراء الذين ضعفت مواهبهم، وأجدبت قرائحهم الشعرية، وجفت ينابيع الابداع لديهم فلجأوا الى المحسنات البلاغية في فن البديع من الجناس، والطباق والمقابلة الخ... ذلك ان فنون المماحكة الشعرية قائمة على النظم واستقامة الوزن، والاستعراض اللفظي حيث شحبت شجرة الشعر وأصابها الهزال وأكلها الجفاف... وفُتحت دكاكين حرفية بائسة تنتج قصائد بائسة "للمديح والرثاء، والزواج، وربما قدمت قصيدة للختان فوق البيعة" كما يقول الدكتور غازي، وصفٌ فيه من السخرية والامتعاض ما يتناسب مع ظروف تلك المرحلة الثقافية المتدنية. هذه هي الطبقات المتسلسلة في حلقات الشعر العربي مجردة مما يسمى بفن الترجمة للشعراء كما هو متبع في تاريخ الأدب العربي... وهذه الطبقات متتالية فنياً وزمنياً تؤثر عليها مناخات وظروف المرحلة السياسية والثقافية والدينية على رغم ما في هذه المراحل من التداخل الذي يجعل الناقد يرتبك في عملية ترتيب زمن الخلق والابداع وعلاقته بالمرحلة السابقة لكن الدكتور غازي استطاع أن يرى تلك الفواصل الدقيقة والرقيقة واستطاع بعين الناقد الفطن أن يعطي كل مرحلة لونها الذي يميزها عما سواها. على ان الدكتور القصيبي لمح في إطار تلك المراحل الى ظواهر وابتكارات شعرية كان لها تأثير في مسار الشعر العربي في شكل عام وخصوصاً شعراء "التروبادور وثورة الموشحات" والتي يرى أنها أهم الظواهر الشعرية قاطبة في الخروج عن المألوف الشعري منذ الجاهلية الى تاريخ نشأة الموشح، إذ انه وللمرة الأولى في تاريخ الشعر العربي يولد شعر ارستقراطي خارج عن نسق بحور الخليل بن أحمد. ويرى القصيبي أن تلك الثورة لم تكن ثورة تمردية بقدر ما كانت استجابة ذوقية للواقع الفني لفترة من فترات التاريخ الثقافي العربي الذي كان قابلاً وجاهزاً للتغير نحو الأفضل أو نحو متطلبات الحاجة الفنية الغنائية، يقول: "أراني أميل بشدة الى الرأي القائل ان الموشحات ولدت في أحضان الناي والعود". ويقول: "ما يميز شعر الموشحات عن غيره في رأيي هو انه كان احتفالاً عفوياً حاراً بالحياة". أعتقد ان هذا هو أفضل تصوير وتبرير لظهور هذا اللون من الشعر، فهو يتمشى فعلاً مع إيقاع الحياة المترف المزدهي بكل فنون المتعة بمباهج الحياة بتسامح فني يليق بتسامح تلك المرحلة في شكل عام. على أن فصل "ثورة البند المجهولة" من أمتع فصول الكتاب، وأكثرها اغراء بالقراءة مع الفائدة، فهو يلامس قضية بالغة الأهمية في شعرنا الحديث وهي قضية الشعر الحر أو شعر التفعيلة... حيث يكشف القصيبي عن حقيقة تاريخية لم يتنبه لها إلا القليلون أمثال الدكتور جليل العطية، هذه الحقيقة التاريخية هي وجود هذا النوع من الشعر في الشعر العربي وظهوره قبل ألف عام وهو ما أطلق عليه آنذاك شعر "البند" والذي يمثل الثورة الثانية في الشعر العربي بعد شعر الموشحات. ويأخذ القصيبي العجب الشديد من غفلة النقاد العرب عن هذا النمط الشعري القديم... وانفعالهم به على انه شعر حديث جاء الينا في بداية القرن العشرين بتأثير الترجمة الشعرية، يقول: "ان عجبي لا ينتهي من الجدل الذي لا يزال محتدماً عن ولادة شعر التفعيلة في هذا البلد العربي أو ذاك في هذه السنة الميلادية أو تلك من القرن العشرين الميلادي. وأمامنا شعر تفعيلة يعود أصله الى قرابة ألف سنة". والحق انني شعرت بأن القصيبي يسخر من نقادنا، ويقول لهم: "على مهلكم، فلماذا هذا الركض العنيف وراء الغرب في تفعيلته، وربما في حداثته أيضاً، ونحن قد سبقناهم الى ذلك بألف عام؟". وقد جربنا ذلك فلم يعجب الذائقة ولا الأذن العربية، التي لا تطرب إلا الى موسيقاها، وغنائها وإيقاعها... جربنا ذلك قبل ألف عام يورد القصيبي نصوصاً استشهادية، فلم تعجبنا هذه التجربة فنسيت واندثرت، ولكن لما عادت بثوبها الغرب بهرتنا وسحرتنا لا لشيء إلا لأنها غربية!! والقصيبي بذلك يدلق ماء بارداً في وجوه أولئك الذين تفننوا في التمحك في القول بحرية قصيدة التفعيلة وانها أكثر مرونة، وأرحب مدى، وأوسع صدراً من قوالب وربما سلاسل البحور الخليلية. يقول لهم: "أبداً جربنا شعر التفعيلة منذ دهور وفي الشعر العربي بحور واسعة، من كانت لديه القدرة على العوم فيها فليعم، أما الحفر المائية والمستنقعات فيعوم فيها ذوو القامات التي ترهب أعماق البحور". شكراً يا غازي، وألف تحية. أين أنت يا رجل فقط "تبهدلنا" طويلاً، وحُجر علينا، وضيق علينا من سعة. فقد قلت في الكتيب الصغير، ما لم يقله أصحاب الشهيق والزفير، والشخير أيضاً، والذين أوجعوا أدمغتنا بطنينهم، وبتنظيرهم فأنتجوا لنا شعراء وقصائد تحتاج الى كثير من إبر التطعيم ضد الشلل، والجدري، والرمد. ولقد قلت في إيجاز ما لم يقله أساطين النقد الحديث في العالم العربي... بعيداً من الجعجعة وطحن القرون الذي ظللنا أكثر من أربعين عاماً ننتظر طحينه فأصابنا الجوع، والإعياء وفقر الدم الشعري. أقول إن الكتاب النقدي الصغير "عن قبيلتي أحدثكم" يصلح لو أضيف اليه بعض النصوص الشعرية لأن يكون مقرراً جامعياً بلا تحفظ. * كاتب سعودي.