بدأ العد التنازلي لمغادرة توني بلير لمكتبه الفاخر في 10 داونغ ستريت في لندن، إذ ثار عليه حزبه، وأجبره على التنحي نتيجة الأخطاء الفادحة التي أفقدت الحزب كثيراً من شعبيته. إن حزب العمال وجد أن زعيمه يسير به مسرعاً، ويجره نحو الهاوية لمصلحة حزب المحافظين المتحفز لاستغلال كل هفوات رئيس الوزراء وأخطائه، وهو الذي أدخل جيش بلاده في نفق مظلم في أفغانستانوالعراق، وهو من ألحق الضرر بعلاقات بريطانيا مع بعض دول العالم، وأضر بسياستها الخارجية وأساء إلى سمعتها. لقد جعل بلير نفسه تابعاً ورهن إشارة الرئيس الأميركي جورج بوش الطامع في حكم العالم وشن الحروب واحتلال الدول، فلا ينطق بوش بكلمة أو يدلي بتصريح عنتري إلا ويتلقفه بلير قبل أن تتلقفه وسائل الإعلام ليضيف إليه صرخة مؤيدة وبتبعية، منعته من التثبت من صحة قراراته. أعلن بلير الحرب على أفغانستان وعلى العراق، وظل يهدد - مثلما يفعل بوش دائماً - ويؤيد كل ما يقوله بوش وكأن أقوال"سيد البيت الأبيض"صكوك مقدسة أو قدر محتوم. أساء بلير بهذا الانكسار والتبعية لدولته أيما إساءة، وهي التي كانت تستعمر أميركا يوماً ما. وقبل رحيله غير المأسوف عليه، انتهز الأيام المعدودة الباقية قبل مفارقة كرسي السلطة الوثير، هذا الكرسي الذي نزعه منه حزبه نزعاً، ليسرع إلى صديق عمره بوش ليعانقه عناق الوداع ليظهر الرجلان أمام رجال الإعلام وكاميرات التلفزيون وكأنهما لا يزالان متمسكين برباطة جأشهما وقوة عزيمتهما! لكن الحقيقة تقول إن أحد مهندسي احتلال أفغانستانوالعراق وضرب الصومال تحت شعار"الديموقراطية"قد أسقطته الديموقراطية في بلاده التي حكمتها الديموقراطية بعد قرون من التجارب لكنها الديموقراطية لن تتاح لها الحياة إذا فرضها السلاح وسكت العقل وقدم البطش ودفنت العدالة. و "الديموقراطية" التي أَنْزَلت بلير من على كرسي رئاسة الوزراء، في بلد النظام البرلماني بريطانيا هي نفسها التي هبت رياحها العاتية في دولة النظام الرئاسي الولاياتالمتحدة على الرئيس بوش لتعلن فوز الديموقراطيين على الجمهوريين وتضع رئيس السلطة التنفيذية في موقع صعب، يتوسل تارة الديموقراطيين لمنح الجيش الاميركي في العراق الإمدادات المالية التي يحتاجها، ويهدد تارة أخرى ب"الفيتو"الرئاسي. سيرحل بلير وسيسجل التاريخ خطأ سياسته العوجاء وعودته بنظرته القاصرة إلى عهد الاستعمار البغيض، كما أن مواقف بلير من قضية فلسطينالمحتلة كانت كأنها تؤكد وتثبت، بل وتجدد وعد بلفور الخبيث الذي كان وقّعه وزير خارجية بريطانيا المكروه آرثر بلفور بتاريخ 2 تشرين الثاني نوفمبر 1917، فأعطى اليهود أرضاً لا يملكونها بعد صداقة حميمة مع اليهودي وايزمان، فكان عطاء من لا يملك لمن لا يستحق. كان من المفترض بعد 59 عاماً من قيام إسرائيل وتشريد الفلسطينيين، أن يتعامل رئيس وزراء البلد الذي ارتكب تلك الجريمة بحق شعب بأكمله، بشيء من العطف مع ذلك الشعب، ولكننا نجد أن السياسة التي تبناها بلير تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي لا تعدو أن تكون انحيازاً تاماً لإسرائيل. فخلال فترة حكمه الطويلة لم يتقدم خطوة واحدة للمساهمة في حل الصراع، بل زاده تعقيداً، وزياراته لإسرائيل وتصريحاته الكاذبة ووصفه الكفاح المسلح لتقرير المصير بالإرهاب، أثبت بجلاء مخططات بلير وكذب وعوده بأن القضية الفلسطينية تحظى باهتمام السياسة البريطانية الخارجية في عهده، إذ أثبتت الوقائع أن الرجل أعد نفسه لشن الحروب وليس لصنع السلام. لقد حزّ في نفس الشعب البريطاني أن يكون تابعاً بعد أن كان يقود العالم، فرئيس وزرائه بلير يتبع بوش تبعية كاملة. فعندما أعلن بوش الحرب على أفغانستان كان بلير"جندياً مطيعاً"لبوش، وعندما استيقظ الرئيس الأميركي صباحاً ليعلن حرباً أخرى على العراق، كان بلير أكبر مؤيديه، بل فبرك الأكاذيب ولفّقها عن صلة العراق بالإرهاب، ووجود أسلحة الدمار الشامل فيه، ثم صاح بأعلى صوته نعم للحرب نعم للحرب! ولماذا نعم مرتين؟ لأن الأولى والأهم هي النفط ثم النفط وثانياً الاستراتيجية وأمن إسرائيل، فضرب الرجلان الكادحان - من أجل تدمير استقرار العالم - عصفورين بحجر واحد، واحتل التابع البصرة بآبار نفطها واحتل المتبوع بغداد والشمال بغزارة نفطه، ليصبح العراق باحتياطيه 115 بليون برميل، مقسوماً"قسمة ضيزى"بين النظامين البرلماني والرئاسي الديموقراطيين، وأعلن الحليفان العراق دولة ديموقراطية تنهب وتسرق تحت ظلام الليل وفي وضح النهار. حوّل السيدان بوش وبلير ورفاقهما أفغانستانوالعراق إلى محطات للزيارات المفاجئة، اذ حظي البلدان بأكثر مما تحظى به ولايات أميركا ومقاطعات بريطانيا من الزيارات، وكانت آخرها زيارة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني صانع الحروب في أفغانستانوالعراق، وكان هدفها هو أن يطمئن على أحوال النفط، أما الديموقراطية فمصيرها إلى مزبلة التاريخ، فقد حطمتها جنازير الدبابات وانفجار القنابل والصواريخ المقذوفة من الطائرات على البشر والشجر والحجر. وفاجأ بلير العراقيين وحكومة المالكي يوم السبت الماضي بزيارة مفاجئة لبغداد بعد أن فرغ من زيارة بوش، شريكه الأكبر في الحرب على العراق ليقدم له الولاء والطاعة قبل رحيله عن سدة الحكم. وزيارة بلير لواشنطن لا تعدو كونها رمزية، لأن الرجلين سيرحلان أولهما حتماً في السابع والعشرين من الشهر المقبل ليتسلم السلطة بعده وزير الخزانة البريطاني غوردون براون، كما أن الرئيس بوش ليس بعيداً عن مغادرة البيت الأبيض إلى الأبد. بعد الأخطاء الفادحة التي ارتكبها بلير كنا نتوقع، والرجل يعيش أيامه الأخيرة في السلطة، أن يعتذر عما ارتكبه بحق بلاده وبحق أفغانستانوالعراق والعالم كله، ولكنه ركب حصان العنجهية، وحاول الظهور بمظهر الرجل غير النادم، فأصدر تصريحه من بغداد وسفارة بلاده تتعرض للقصف قائلاً إن"مستقبل العراق يجب أن يحدده العراقيون بما يتماشى مع رغباتهم"! وإذا رصدت تصريحات رئيس الوزراء البريطاني خلال زياراته السبع لبلاد الرافدين تجد أنه ركز على الديموقراطية كخيار يريده للعراقيين، وكان تصريحه الذي ذكرناه يصبُّ في هذا الاتجاه، ولكنا نستغرب التناقض بين أفعال الرجل وأقواله، فإذا كان مصير العراقيين متروكاً لهم، وهذه هي الديموقراطية، فلماذا عزف مع بوش على وتر الحرب واحتل العراق وأحرق الأخضر واليابس؟ لماذا لم ينصت إلى صوت العراقيين والرأي العام العالمي والمنظمات الدولية، وفي مقدمها الأممالمتحدة التي وقفت ضد الحرب على العراق؟ ولماذا أنصت إلى أصوات جواسيس باعوا الوطن وتقارير وأكاذيب ملفقة؟ إن بلير لم ولن يجد الشجاعة للبوح بالإجابة لأن الإجابة تعرَيه أمام العالم. إنه لا يستطيع أن يقول إنهم احتلوا العراق بسبب النفط سيد الثروات. إن تأييد بلير لبوش"فيه الكثير من الخنوع"ودعمه لسياسات بوش في العراق"مأساة كبرى للعالم"، كما قال الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية أخيراً. صحيح أن كارتر لم يذكر النفط لكن قوله"خنوع"و"مأساة"يدركها كل من بلير وبوش، لكن من أجل عيون البترول لا يتحرج الرجلان من دفع العالم إلى مآسٍ وكوارث، فالذهب الأسود يُسيل لعاب الطامعين، ومن أجله سُيِّرت الجيوش الأميركية والبريطانية وأعماهما النفط عن رؤية الرمال المتحركة وقادا بلديهما والعراق إليها. إن النصر في الحروب يغطّي دائماً على أخطاء القادة وصانعي القرار، أما الهزيمة فهي لا تستر عورة، فما أن تأكدت هزائم المحتلين على الأرض حتى ظهرت السيئات وانكشف المستور وبدأ عرّابو الحروب يسقطون واحداً تلو الآخر، من الذين أغاروا على أفغانستانوالعراق، فسقط رامسفيلد وبعض زملائه وتدنت جماهيرية سيد البيت الابيض وتهاوى حزبه في الانتخابات التشريعية تحت شعار الوقوف ضد احتلال العراق الذي رفعه الديموقراطيون. لقد أطاحت الحرب على العراقوأفغانستان ببلير وأفقدته كرسي السلطة ولن يتوقف الأمر عند ذلك، بل إن لعنة العراق ستطارد الرجل بقية عمره. فبراون الذي سيخلف بلير وقبل جلوسه على كرسي السلطة أخذ يتعرض للضغوط كما نقلت صحيفة"الإندبندت"البريطانية الأسبوع الماضي ليفتح التحقيق حول الحرب على العراق بطلب من عائلات الجنود البريطانيين وبعض أعضاء البرلمان لمعرفة حقيقة ما حدث خلال سنوات حكم بلير وتأييده الأعمى للرئيس الأميركي. وحتى قبل أن تكشف التحقيقات ما أخفاه الرجل من مخازٍ فإن أيامه كلها منذ أن تولى الحكم كانت مخازي، وذهبت أقواله التي كان يحاول بها تحسين صورته أدراج الرياح، إذ صرّح بالكثير ولم ينفذ شيئاً يسجله له التاريخ. أكد الديموقراطية فصارت سراباً، وتصدى للقضية الفلسطينية ولم يفعل أكثر من دعم إسرائيل، ولم يكن في كل تصرفاته أقل سوءاً من وزير خارجية بريطانيا بلفور، فإذا كان الثاني أعطى إسرائيل حق الوجود بالباطل، فإن الأول دافع عن تثبيت هذا الباطل بكل قوته، ولا شك أن صانع الباطل والمدافع عنه في الجرم سواء. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية