إذا كان أهل الغرب يدعون ان الديموقراطية نتاج لحضارتهم وكان ميلادها هناك، فإن وأدها سيكون في تلك البلاد أيضاً، ليس على أيدي شعوبها وإنما بأيدي زعمائها، كما قال راسل دافنبورت:"ان اعظم خطر تواجهه الديموقراطية ليس ذكاء الناس، وإنما هو ميل زعمائهم إلى الاستهانة بذكائهم"، مثل الرئيس الأميركي جورج بوش الابن الذي تهاوت شعبيته الى 31 في المئة، وهي نسبة لم يسبقه إليها أي رئيس أميركي، والسيد بلير الذي يطالبه حزبه بتحديد موعد رحيله، بعد النكبات الذي تعرض لها الحزب في الانتخابات الأخيرة بسبب سياسات بلير. ولذا تعرضت الديموقراطية في بعض الأمم التي ترفع شعارها لانتهاكات سافرة، وذلك بالتعدي على الحريات، والتقول على حقوق الإنسان وكرامته وإنسانيته، تحت راية الديموقراطية... والولايات المتحدة الأميركية مثال حي لدولة تدعي أنها أم الديموقراطية في العالم، ولكنها كانت أول من خرق مبادئ ديموقراطيتها المزعومة، احتلت الدول واغتالت حقوق الإنسان وحريته، وأهانت آدميته، ضاربة بما تدعيه من مبادئ عُرض الحائط. فأميركا تعتبر رجال المقاومة إرهابيين وأشراراً اما المحتلون فهم الشرفاء الأخيار! ولم تسأل نفسها عن سبب بقائها إلى الآن في العراقوأفغانستان، وهل يصح في تقديرها تطبيق الديموقراطية بواسطة جنود الاحتلال؟! وهل يمكن تصور انتخابات ديموقراطية تتم تحت التهديد بفوهات البنادق وصلصلة جنازير الدبابات وهدير الطائرات وصوت انفجار القنابل والصواريخ؟ في شهادة قدمها محرر عسكري اميركي هو فريدريك لافارج، الذي سجل بكاميرته لحظة دخول القوات الأميركية الفلوجة، وكيف هدمت المساجد ودمرت المدارس والمستشفيات والمنازل، وقتلت المدنيين العزل، تنفيذاً لتعليمات عليا التزم بها الجنود الأميركيون، وهذه التعليمات تقول:"أطلق النار على كل شيء متحرك او غير متحرك"، وتؤكد:"اذا دخلتم احد المساجد ووجدتم جثة فأطلقوا النار عليها مرتين للتأكد من وفاتها"، هذا هو أسلوب أميركا الديموقراطي، تصفية شاملة للمقاومة، وقتل جماعي في مدينة تلو الأخرى، في النجف، والصدر، وسامراء والرمادي والفلوجة وبغداد وغيرها، وهذه هي ديموقراطية إسرائيل في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وجنين وغيرها. أميركا التي تتبجح بأنها حامية الحريات وحقوق الإنسان، وحاضنة الديموقراطية، هي أول من قام بتوجيه ضربات قاتلة لكل شعارات الديموقراطية، حيث اعتقلت العديد من المسلمين بشبهات واهية باطلة ومن دون محاكمات، وزجت بهم في السجون مقيدي الأرجل والأيدي بالسلاسل، ووضعتهم في زنزانات انفرادية موحشة في جزيرة كوبية، هروباً من القوانين الأميركية. هذه هي الديموقراطية التي يتغنون بها ويبشرون. أميركا لا يحق لها ان تتحدث عن الديموقراطية اذا كانت تعتبر معتقل غوانتانامو وسجن ابي غريب والسجون السرية في دول أوروبا وغيرها من المعتقلات فنادق خمس نجوم، أميركا التي كانت تقاطع الدول وتفرض عليها عقوبات سياسية واقتصادية لأنها سجنت متمرداً على سلطة بلده، او لأنها نفذت حكم الإعدام في مجرم قاتل، تقتل الآن الأبرياء بدم بارد - ان كان لها دم أصلاً - وتمارس في تلك السجون ما تقشعر منه الأبدان، ماما أميركا - تعتقل الآلاف لمدة طويلة في ظروف غاية في السوء من دون ان توجه لهم تهماً محددة، وتمارس ضدهم أسوأ أنواع التعذيب المعنوي والنفسي والإذلال، والمناظر التي صورت خلسة ونشرها الإعلام يندى لها الجبين خجلاً، وتبكي لها الإنسانية دماً، والعجيب الغريب ان ماما الإدارة الأميركية ما زالت تتحدث عن الديموقراطية. صحيح..."اللي اختشوا ماتوا". اما بريطانيا فقد أثبتت ان الزمن الذي تلد فيه"الأَمَة"ربتها قد جاء، فهي الأمة التي ولدت أميركا ولكن أميركا هي ربتها، تأمرها فتنفذ وتشير إليها فتركع، تعادي من تعاديه أميركا، وتشهد الزور ضده من اجل عينيها، وهي تتبعها بلا تفكير، تحمل على سننها حذو القذة بالقذة، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلت جحر ضب لدخلته، لذلك لم يكن غريباً ان تؤيد بريطانيا كل ما تفعله أميركا من شنائع، بل تقلدها في أفعالها الشنيعة وخرقها للديموقراطية، والخلاف بينهما أو الاختلاف، ان أميركا تنفذ سطوة"الكاوبويات"وبريطانيا تنفذ قهر"القراصنة"، وقد أصدرت بريطانيا من القوانين لما يسمى بمكافحة الإرهاب، ما فيه من التجاوز على حقوق الإنسان وكرامته، ما يعتبر ذبحاً للديموقراطية التي تدعي انها نصيرها وحاميتها، وهذه القوانين صدرت"ديموقراطياً"، ولا داعي للعجب فهذا زمن العجائب. دعاية أميركا للديموقراطية وتلميعها، جعل الكثيرين ينسون ما فعلته الديموقراطية بأوطانهم، أليست معاهدة سايكس - بيكو ووعد بلفور! والحاضر المشاهد وليد الديمقراطية؟ نسي هؤلاء القوم ما فعلته ديموقراطية فرنسا فى بلد المليون شهيد الجزائر، وما قامت به في سورية ولبنان، وما فعلته ديموقراطية بريطانيا العظمى فى مصر وفلسطين واليمن والعراق والسودان، وغيرها من بلاد العالم، وما فعلته وتفعله ديموقراطية أميركا وبريطانيا فى الشرق والغرب، في العراقوأفغانستان، وفى فلسطين، دعماً لأمن وإرهاب إسرائيل! تحت غطاء مكافحة الإرهاب وتدمير أسلحة الدمار الشامل التي اختفت، نقلت أميركا صراعها الى العراق لتحتله تحت أعين الأممالمتحدة، بزعم لا سند له من المنطق والواقع، الهدف المعلن من غزو العراق هو تحقيق الديموقراطية والحرية للشعب العراقي، ولا يتوانى السيد بوش وتشيني ورامسفيلد ورايس، الذين أصبحت العراق أهم محطة لزياراتهم لشم رائحة النفط، عن التأكيد على هذا الزعم الباطل، فهو ادعاء ينطوي على استخفاف بالعقول ويعوزه الصدق ويخلو من البراءة، فمن يصدق ان تقبل دولة بسفك دماء جنودها واستنزاف نحو ثلاثمئة بليون دولار، بدعوى نشر الحرية والديموقراطية في العراق؟! في زيارة بلير السرية المفاجئة للعراق العام الماضي، عندما حوصر بأسئلة الصحافيين، زعم ان كل الخسائر البشرية والمادية هي تضحيات من اجل صاحبة الجلالة"الديموقراطية"، وعندما زار إسرائيل وقف إلى جانب شارون مؤيداً إرهابه ضد الشعب الفلسطيني، وفي الأسبوع الماضي زار العراق وربط الانسحاب بتطور الوضع في بلاد الرافدين، ولا يزال الرجل على حاله متشبثاً بديموقراطيته"العرجاء"، فأية ديموقراطية هذه التي تحارب كفاح الشعوب من اجل الاستقلال وتقرير المصير، وتؤيد إرهاب إسرائيل وتكريس احتلال العراقوأفغانستان؟! أميركا وبريطانيا بسياستهما"الديموقراطية"التي تكيل بمكيالين... تدعم الديموقراطية عندما تريد وتدعم الإرهاب عندما تريد، فموقفهما الفج بدعم الدولة العبرية بغير تحفظ، يعتبر تجرداً من المثل والمبادئ الأخلاقية... تغمض العينين عن المظالم ضد الشعب الفلسطيني من اجل عيون الصهاينة! فهل هذه الديموقراطية التي تنشدانها وتطالبان العالم العربي بتطبيقها؟! أميركا طالبت العرب في مشروعها للشرق الأوسط الكبير بممارسة الديموقراطية، وقد فعل الشعب الفلسطيني باختيار حكومته ديموقراطياًَ، لكن ماما أميركا تراجعت، وأعلن الرئيس بوش رفضه القاطع للخيار الديموقراطي، وعندما يختار الإسرائيليون حكوماتهم تصفق الإدارة الأميركية طرباً، عذر أميركا القبيح لمحاصرة"حماس"أنها لا تعترف بإسرائيل وبخريطة الطريق، وتحمل السلاح ضد الدولة العبرية... فهل إسرائيل تعترف بالفلسطينيين وبمبادرة السلام العربية وخريطة الطريق؟! لا تعترف الا بالتدمير واحتلال الأرض والقتل والإرهاب، وإقامة المستعمرات والجدار العنصري... الخ. أميركا تتفاخر بديموقراطية"كاذبة"في العراقوأفغانستان، ثمنها الباهظ دفعه العراقيون والأفغان من دمائهم، وتعتبر هذا نموذجاً في الشرق الأوسط على الطريقة الأميركية، أما النموذج الفلسطيني في اختيار"حماس"ديموقراطيا فهو مرفوض، مصيره الحصار وقطع المساعدات الأميركية والضغط على أوروبا وغيرها، لتجويع الشعب الفلسطيني مكافأة على اختياره الديموقراطي. هذا هو مفهوم السلام عند السيد بوش، يزعم ان الأمن والسلام والاستقرار لا تتحقق الا في الدول التي تطبق الديموقراطية، وبحسب رؤيته الناقصة فإن الأنظمة التي أساس الحكم فيها ديموقراطي لا تشن حروباً على دول أخرى! والحجة غالبة على بوش نفسه، ديموقراطيته التي طبلت وزمرت لها ادارته ليل نهار، شنت الحروب على أفغانستانوالعراق واحتلتهما. والديموقراطية الإسرائيلية المدعومة أميركياً شنت أربع حروب على العرب، واحتلت الأراضي العربية والفلسطينية، ولا يزال الأميركي يتباهى بالديموقراطية! لكنه عندما فازت"حماس"بانتخابات حرة نزيهة تنكر لها، وألّب عليها المجتمع الدولي لمصلحة إسرائيل، الدولة الوحيدة في العالم التي تأسست على ارض مغتصبة تمارس التفرقة العنصرية بالاغتصاب العسكري والاحتلال، وتقف في وجه الحرية والنضال ضد الاستعمار من اجل الاستقلال، بدعم صارخ من ماما أميركا راعية الديموقراطية العالمية، لتفرض المنطق المعكوس، مناصرة المعتدي وإدانة المعتدى عليه، ليصبح المحتل للأرض شريفاً والمدافع عن ارضه"ارهابياً"! هذا هو غياب عالم القيم وعالم الأخلاق! هذا يذكرنا بمثل صيني، إذ كان الصيني ايام الثورة الثقافية في الصين يقول اذا اراد ان يلعن آخر فلتعش اياماً عجباً، واليوم فإن العالم كله يعيش وسط ثورة من العجب، كل يوم نشاهد كارثة جديدة تغرس حزناً جديداً في دواخلنا، وآخرها ولن تكون الأخيرة حرب أميركا الكارثية ضد العراق، التي حصدت اكثر من مئة ألف عراقي، وسوت بعض مدن العراق وقبلها أفغانستان بالأرض... باسم الديموقراطية! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة.