لا شك في ان حظوظ اندلاع حرب باردة جديدة قليلة، على رغم ان تغير السياسة الروسية، منذ تربع الرئيس فلاديمير بوتين في الحكم يثير أسئلة كبيرة تتناول دور روسيا في العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي. فبعد انتهاء عهد الشيوعية، افترض الغرب ان طموحات روسيا الإمبراطورية أفلت، وان نهج التعامل الديبلوماسي معها الموروث من الحرب الباردة، لم يعد مناسباً. وهذا افتراض خاطئ. فروسيا هي وريثة تقاليد إمبراطورية تعسفية لا تعرف الرحمة. ولا يكفي انتهاج الغرب سياسة حث روسيا على الانفتاح عليه، لاحتواء ميولها التوسعية ومساعيها الى الارتقاء الى مصاف الدول العظمى على حساب دول الجوار السوفياتي السابق. فارتفاع سعر النفط في الأسواق العالمية انتشل روسيا من كارثة التسعينات الاقتصادية والسياسية. وتبلغ نسبة النمو الاقتصادي الروسي 6،5 في المئة. هي تراكم ثالث اكبر احتياطي عملات"صعبة"في العالم، وسددت ديونها الكبيرة. ويشعر الروس بالامتنان لبوتين، وينسبون الفضل إليه في إرساء الاستقرار، والنمو الاقتصادي. ويحظى بوتين بشعبية في صفوف شعبه يحسد عليها. وفي ولاية بوتين الرئاسية الثانية، تقهقرت روسيا إلى الخلف نظير كل خطوة خطتها إلى الأمام. فالدولة هيمنت على القطاع الاقتصادي، وخصوصاً قطاع الطاقة. وتضاعفت حصة الحكومة الروسية من قطاع الطاقة في ظرف ثلاث سنوات، ما أسهم في زيادة معدلات الفساد وتردي أداء الشركات العامة. وأحكمت الحكومة قبضتها على وسائل الإعلام، ولاحقت الأحزاب المعارضة والمعارضين. وانتهجت روسيا سياسة خارجية مقلقة. فهي رعت الطموحات الايرانية النووية، وأبرمت صفقات بيع أسلحة مشبوهة، وابتزت دول الجوار. وعلى خلاف الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، وهذا أقر بحق المعارضة في المشاركة في الحياة السياسية، انقض فلاديمير بوتين على حركة المعارضة السياسية، وقوض دورها وعزز مركزية الحكم. وبحسب دراسة شملت نحو ألف مسؤول عينهم بوتين، عمل نحو 70 في المئة من هؤلاء المسؤولين في ال"كي جي بي"جهاز الاستخبارات السوفياتي أو فروع الأجهزة. وفي التسعينات، درج المراقبون على مقارنة روسيابألمانيا فيمار، أي أمة منهارة ومهانة ومضطربة جراء الأزمة الاقتصادية والتضخم المالي. ولكن ألمانيا في عشرينات القرن الماضي، كانت دولة صناعية حديثة. وهذه ليست حال روسيا يلتسن وفوضاها الحكومية. ولا شك في أن روسيا بوتين وحكمها المركزي تفرض تحديات استراتيجية على المجتمع الدولي. وكان الغرب حسِب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أن روسيا أضعف من الاسهام في الشؤون الدولية. وعوض التعاون معها، وربطها بشبكة علاقات يوم كانت ضعيفة، تجاهلها الغرب. فاعتبرت روسيا أن تجاهل الغرب لها، وميله الى دعم استقرار الدول السوفياتية السابقة، هما في منزلة عدوان عليها. وهذا التهميش أفضى الى مشكلاتنا الحالية. ولسوء الحظ، لا يملك القادة الغربيون أدنى فكرة عما يفترض بهم المبادرة اليه عند مواجهة الخطر. ففي الثلاثينات، لم تكن بريطانيا وفرنسا تعرفان ما يريد أدولف هتلر بلوغه. فانشغلتا بتخمين نواياه. وغفلنا عن اختلال ميزان القوى بين ألمانيا القوية والدول الضعيفة الواقعة شرقها، وعن موازنة الاختلال بتقوية دول الجوار. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي انصرف الغرب الى مساندة عمليات الاصلاح الاقتصادي الروسي، وانتهج سياسة هي أقرب الى خطة مارشال نسبة الى الجنرال الاميركي ومساعد ترومان جورج مارشال، وهذا اقترح منح أوروبا مساعدات اقتصادية غداة الحرب العالمية الثانية الاقتصادية منها الى السياسات الخارجية التقليدية. وفي الأثناء، تذرعت روسيا بالقيام بعمليات حفظ سلام في الدول السوفياتية السابقة، وبعثت وصايتها في ابخازيا واوسيتيا الجنوبية وترانسدينستريا، وزعزعت استقرار الحكومات. الحق أن الغرب لم يبذل وسعه في مساعدة الدول السوفياتية السابقة، ولم يحصن مكانتها الدولية، وتجاهل خطط القوات الروسية لتقويض حكومات مولدافيا وأوكرانيا والدول السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى. وعلى القادة الغربيين التنديد بابتعاد روسيا من الديموقراطية، وادانة حرب بوتين على الشيشان، وسياسة ابتزاز دول الجوار في مجال الطاقة. وعليهم التحذير من تعديل الدستور الروسي تمهيداً لبقاء بوتين في سدة الحكم، وتهديد الكرملين بطرد روسيا من مجموعة الثماني الصناعية في حال مدد لبوتين ولاية ثالثة. وعلى الغرب، كذلك، انتهاج سياسة واقعية، والحؤول دون تذرع موسكو باستقلال كوسوفو عن صربيا للنفخ في الحركات الانفصالية في ابخازيا وناغورنو كاراباخ وجنوب أوسيتيا والقرم. ولا مساومة على اعتبار علاقات روسيا بالدول السوفياتية السابقة علاقات دولية قد تنجم عن الإخلال الروسي بها مشكلات دولية، وإلزام موسكو، تالياً، مراعاة قوانين السياسة الخارجية الدولية عوض مماشاة نازع روسيا الى الانفراد بقرارها السياسي في هذه الدول. وموازنة الغرب قوة روسيا في محيطها وتقتضي الاقتصار على تشجيع الاصلاحات الروسية الداخلية. ولعل تفادي اندلاع أزمة دولية في أسواق الغاز، والحؤول دون احتكار"غازبروم"أنابيب النفط التحتية، واستبعادها شركات الغاز الخاصة، من عناصر سياسة غربية فاعلة. وفي وسع أوروبا مقايضة اعترافها بعضوية روسيا في منظمة التجارة العالمية بمصادقة هذا البلد على شرعة الطاقة وبروتوكول الترانزيت. فهذه الشرعة شأن بروتوكول الترانزيت تقيد روسيا بفتح أسواق الطاقة امام التنافس والقطاع الخاص. عن يوليا تيموشينكو زعيمة المعارضة البرلمانية الاوكرانية، ورئيسة الحكومة السابقة،"فورين أفيرز"الاميركية، 5-6/2007