بعد أكثر من عامين على قيام روسيا بالعدوان على أوكرانيا متذرعة بحماية (السكان الناطقين بالروسية)، ومن ثم قضمها شبه جزيرة القرم وضمّها إلى الاتحاد الروسي، يتّخذ حلف الأطلسي قرارات حاسمة لمواجهة سياسات بوتين الاستفزازية لدول البلطيق المتوجسة من «سيناريو أوكراني» يتهدد أمنها ووحدة أراضيها تحت عنوان الدفاع عن السكان الناطقين بالروسية. ويرتفع منسوب هذا القلق مع استمرار قيام الطائرات الحربية الروسية بطلعات على حدودها التي شهدت ايضاً تدريبات عسكرية للقوات الروسية، مماثلة لتلك التي سبقت احتلال القرم، وترافقت مع اختفاء ضابط استخبارات إستوني ظهر بعد ذلك مقيد اليدين في موسكو. عندما عبر الروس الذي عرفوا بأسم (الرجال الخضر الصغار) الحدود مع أوكرانيا للقتال في صفوف الانفصاليين في الأجزاء الشرقية للبلاد، قالت موسكو ان هؤلاء الجنود ذهبوا من تلقاء انفسهم في فترة إجازاتهم، وعندما كانت استونيا ضحية هجوم إلكتروني روسي في العام 2007، رد الكرملين انه لا يستطيع السيطرة على مرتكبي هذه الهجمات الذين يتصرفون بدافع شعورهم الوطني. في هذه الأجواء عقدت القمة الأطلسية في وارسو وتكرّست للبحث في محتوى وشكل الإستراتيجية الجديدة التي ستلغي ما سماه وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر «قواعد لعبة الحرب الباردة» التي يرى مسؤولون اميركيون ضرورة تغييرها في إطار الأوضاع والتحديات الأوروبية المستجدة بعد أحداث أوكرانيا التي «أبرزت أهمية وضرورة تعزيز القدرة على التصدي لإستراتيجية (الحرب الهجينة) التي تعتمد روسيا في شنها على استخدام جنود مجهولين ومواد دعائية وضغط اقتصادي وإثارة الاضطرابات المتعددة الأشكال داخل البلدان الأوروبية». يقول أستاذ دراسات الأمن القومي في كلية الحرب البحرية الأميركية في (نيوبورت/ رود أيلاند) نيكولاس فوسديف «إن بوتين يقيس مدى استعداد الغرب لمواصلة فرض الضغوط في ما يتعلق بأوكرانيا»، هذا فيما رأى الباحث في مركز الأمن الأميركي الجديد ألبريدج كولبي أنها «ليست بحرب باردة جديدة، بل هي حالة في غاية الاختلاف عما كنا عليه قبل سنوات قليلة». طبول حرب هادئة «يدق الأطلسي طبول الحرب، ولكن بهدوء تام»، وفق تعبير المحلل الألماني برند ريغارت، إذ إن نشر أربع كتائب تضم ما بين 3 - 4 آلاف عسكري في بولندا ودول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، برأيه «لا يشكل أي تهديد للجيش الروسي وماكينته الحربية الهائلة»، موضحاً «أن الحلف يريد أن يقول لحكومات دول البلطيق، وكذلك لحلفائه في دول أوروبا الشرقية بأنه يعي ما ينتابها من قلق وخوف من عدوان روسي محتمل». يقوم الأطلسي الآن بأضخم عملية إعادة انتشار عسكري منذ نهاية الحرب الباردة، من إقامة قواعد عسكرية جوية في دول عدة في أوروبا الشرقية، ونشر قوات عسكرية، إلى نصب وتشغيل الدرع الصاروخية في كل من بولندا ورومانيا لمواجهة ما اعتبره الرئيس الأميركي باراك أوباما «تحديات مختلفة عن تلك التي كانت حتى الآن»، والتي تجعل بلاده عازمة على «الدفاع عن أوروبا وتقوية العلاقة بين الجانبين». يتفق الكثير من المحللين على أن لا دولة من البلدان الأوروبية الأعضاء في الأطلسي تؤمن جدياً بأن لدى روسيا نيات بتكرار السيناريو الأوكراني في بلدان أخرى، وإنما هي تقوم باستفزازات بين فترة وأخرى للترهيب وإثبات القوة، وهي تعي أيضاً أن بوتين يسعى إلى تثبيت نفوذه في أوكرانياوجورجيا ومولدافيا وأذربيجان وأرمينيا، ولقد حقق ما يصبو إليه فعلاً، فهذه البلدان كلها تعيش نزاعات تقف وراءها روسيا، فضلاً عن أنها لم تعد قريبة من نيل العضوية في الأطلسي لسنوات طويلة. ويقول ريغارت «إن بوتين نبّه فنلندا التي كثيراً ما تطرح وتتداول فكرة الانضمام إلى الأطلسي بضرورة فهم واقع أن لها حدوداً طويلة للغاية مع روسيا ما يعني أن عليها التفكير جدياً قبل أن تتخذ أي خطوة من هذا القبيل». ولا ينتاب خبراء الأمن والدفاع أية شكوك في «قدرة روسيا على تدمير هذه الكتائب الأربع بلمحة بصر، واحتلال دول البلطيق الثلاث لو أردات اللجوء إلى القوة والتحدي»، وذكرت صحيفة «فايننشل تايمز» أن «الهدف من نشر هذه الكتائب هو نصب فخ لبوتين، وبعث رسالة إلى الكرملين مفادها «إذا أردتم اجتياح وغزو دول في المنطقة فستتورطون في نزاع مسلح مع كل الحلف». واعتبرت نائبة الأمين العام للحلف الأطلسي ألكسندر فرشيو التي تعد أول امرأة في قيادته «أن العدوان الروسي على أوكرانيا ليس حدثاً معزولاً، بل هو تعبير عن نموذج للسلوك يتكرر منذ سنوات ما فرض تبدلاً شاملاً في تركيبة منظومة الأمن الأوروبي». العقيدة الأمنية الروسية الجديدة ينتاب القلق قيادتي الأطلسي والاتحاد الأوروبي من تطورات خطيرة قد تحدث وتنجم عن سلوك الرئيس بوتين واستفزازاته في أكثر من بقعة في أوروبا والعالم، ونقلت «نيويورك تايمز» عن مصادر رفيعة في الحلف قولها « ليس في مقدورنا التكهن بما ستؤول إليه الأزمة الأوكرانية لا سيما أن العقوبات ضد روسيا لم تؤتِ ثمارها بحيث تدفع بوتين إلى إعادة النظر في سياساته». في السياق نفسه نقلت الصحيفة عن خبراء ومحللين تأكيدهم «أن طريقة تعامل الغرب مع الأزمة في أوكرانيا لم تأخذ في الاعتبار الأسس والسياقات التي تؤطّر الأسباب الداخلية للمغامرة الروسية في أوكرانيا». ورأى المعلق السياسي والعسكري في «بي بي سي» جوناثان ماركس «أن لا أحد يعرف ما الذي سيحدث بعد أسابيع من الآن، فمن الممكن أن تستمر المناوشات العسكرية الفاترة الحالية وتتحوّل في وقت ما إلى ممارسة ثابتة». نصّت العقيدة الأمنية الروسية الجديدة على «اعتبار الولاياتالمتحدة ضمن التهديدات التي تواجه الأمن القومي الروسي»، و «حق روسيا في استخدام قواتها المسلحة خارج حدودها لمواجهة أية أخطار تهدد أمنها القومي» واعتبرت «أن العدو الخارجي يتجسد في توسع الحلف الأطلسي شرقاً في اتجاه الحدود الروسية» و «نشر الدرع الصاروخية في منطقة نفوذها السابقة وفي دول تقع على مقربة من حدودها الخارجية» من دون تجاهل أخطر ما ورد فيها وهو «المطالبة بأراض من روسيا ومن حلفائها والتدخل في شؤونهم الداخلية». ويعزو خبير الشؤون الدولية مارفن كالب الأزمة الحالية إلى ما سماه «تاريخ المنطقة، وتحديداً الماضي المتشابك بين روسياوأوكرانيا» وقال في كتابه المعنون «مغامرة إمبراطورية» إن «هذا الماضي هو الذي دفع بوتين لانتزاع القرم من أوكرانيا عام 2014» وأضاف» لا يوجد مفرّ من التاريخ». شهدت الأسابيع السابقة على عقد قمة وارسو سجالات كلامية وتصريحات نارية واتهامات متبادلة بين الأطلسي والولاياتالمتحدة من جهة وروسيا من الجهة الأخرى، وقامت الأخيرة بأستفزازات في البحر والجو في منطقة البلطيق، قابلتها مناورات عسكرية للأطلسي في بولندا شارك فيها أكثر من 30 ألف عسكري، وأخرى في إستونيا بمشاركة 6 آلاف عسكري من 11 دولة، ما استدعى رداً روسياً بالتهديد بقصف مواقع الدرع في بولندا. وقال رئيس تحرير مجلة «ترسانة الوطن» فيكتور مورخافسكي «إن روسيا ستستهدف هذه المنظومة بصواريخ «كاليبر» التي تطلق من السفن والغواصات، إضافة إلى تعزيز منصات إطلاق صواريخ إسكندر- م» في كالينغراد». في السياق ذاته أعلنت روسيا أنها ستردّ عسكرياً وتقنياً على تواجد قوات أطلسية على حدودها. وتساءل أيغرت «كيف سيحصل ذلك ومن أين ستأتي الموارد المالية اللازمة، في وقت تخطط حكومة ميدفيديف لتجميد موازنة الدولة الروسية لفترة ثلاث سنوات، ما سيؤدي عملياً إلى تخفيض النفقات العسكرية بنسبة 15 في المائة حتى العام 2019؟». الاحتواء والتهديد الرادع يشير اجتياح القرم وضمها إلى روسيا والحرب في أوكرانيا إلى أن بوتين «لا يحترم مبدأ حرمة الحدود وسيادة المعايير القانونية الدولية». ودعا وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر أوروبا إلى «إقامة علاقات قوية مع الأطلسي لكبح جماح سياسات القوة العظمى لروسيا وتكرار بوتين أخطاء الاتحاد السوفياتي». وليس خافياً أن الأزمة في أوكرانيا أضحت محور تجاذب بين روسيا والغرب، وفي شكل خاص الولاياتالمتحدة التي بدأت بانتهاج سياسة تمزج بين نهج «الاحتواء» الذي اعتمده الرئيس بوش، وبين سياسة «التهديد الرادع» التي ينتهجها أوباما وتتجسد في السياسة الجديدة للحلف الأطلسي. وذكرت صحيفة «غازيتا فيبروتشا» البولندية في تعليقها على قرارات الحلف «أن قمة وارسو تعدّ مؤشراً واضحاً على نهوض الأطلسي من سباته، لأنه وبعد سنوات طويلة من الترهّل والكسل يتبنّى جدياً سياسة «الاحتواء عبر التهديد الرادع» التي تجلّت في قراراته بنشر قوات في أوروبا الشرقية ودول البلطيق وإقامة 6 مراكز للسيطرة والتحكم في 6 بلدان أطلسية، إضافة إلى زيادة عديد قوات الانتشار السريع إلى 40 ألف عسكري». وكانت سياسة الاحتواء التي صاغها الخبير الأميركي جورج كينان في العام 1947 تقوم على فكرة إنشاء سلسلة من الأحلاف العسكرية، بهدف تطويق الاتحاد السوفياتي، وعزله ومنع انتشار نفوذه وتصدير آيديولوجيته إلى العالم. ويقول الأستاذ في جامعة برنستون الأميركية هارولد جيمس في مقال نشرته «بروجكت سيندكيت» إن «الناتو نكث بالوعود التي كان قطعها للكرملين العام 1989 بعدم توسيع الحلف شرقاً، فلقد قدّمت الولاياتالمتحدة في العام 1990 طرحاً قوياً بأن ألمانيا الموحّدة لا يمكن أن تكون جزءاً من نظامين أمنيين مختلفين»، موضحاً «أن السياسة الخارجية الروسية تبدّلت مع أزمة جورجيا العام 2008 عندما ردّت تبليسي التي كانت تغازل ال «ناتو» للحصول على عضويته عسكرياً على الانفصاليين المدعومين من روسيا في إقليم أوسيتيا الجنوبية ما دفع بوتين إلى شنّ غزو شامل بحيث أصبح فجأة أكثر جنوناً من راسبوتين». بوتين يفوز في المواجهة ليس من مؤشرات حتى الآن على أن بوتين ينتهج سياسات خاسرة، فعشية انعقاد القمة الأطلسية حصلت ثلاث حوادث مهمة تثبت نجاعة قراراته وسياساته، أولاً: قيام الرئيس رجب طيب أردوغان بتقديم اعتذار لنظيره الروسي على إسقاط تركيا الطائرة العسكرية الروسية في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي ما يشكل انتصاراً لبوتين بعد 6 أشهر من العقوبات الاقتصادية والسياسية والديبلوماسية التي فرضتها روسيا على تركيا. ثانياً: تقديم الرئيس الأميركي أوباما عرضاً لبوتين بتوحيد جهود البلدين في محاربة «داعش» و«جبهة النصرة» في سورية مقابل وقف القصف الروسي لجماعات المعارضة التي تدعمها الولاياتالمتحدة، وهي خطوة تنطوي على اعتراف أميركي ضمني بأن روسيا لاعب لا يمكن تجاهله على الساحة الدولية وهو ما كان يتشوّق القيصر لحدوثه، وثالثاً: تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي سيرغم الحكومة الجديدة المرتقبة في لندن على تركيز جهودها على مواجهة التداعيات المالية الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن هذا الخيار الشعبي، ما سيؤثر لا محالة في التزاماتها العسكرية كعضو أساسيّ في الأطلسي. وليس هذا فقط بل إن بوتين ما زال يحظى بدعم شعبي واسع في بلاده على رغم تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الروسي لتحليل اتجاهات الرأي العام «أن 44 في المئة من الروس يعتقدون بوجود تهديد مباشر للأمن القومي للبلاد، مقابل 42 في المئة استبعدوا مثل هذا الاحتمال العام الماضي». ونقلت «رويترز» عن مسؤول أميركي سابق طلب عدم الكشف عن هويته قوله «عليك أن تتذكر أنه لا يوجد ببساطة خيار لحرب تقليدية مع روسيا، فهي إما غير تقليدية مثل هذه أو يرجح أن تصبح شيئاً أسوأ بكثير».