يُحاول بطل رواية"الجنّية"ضاري ضرغام الضبيّع، طالب الدراسات العليا في جامعة في غرب أميركا، الذي اختار التحضير للدكتوراه في"الأنثروبولوجيا"، أو"علم الإنسان"، إقناع أستاذته ماري هدسون بوجود علاقة جسدية بينه وبين الجنّية عائشة قنديشة، وما دامت الدكتورة هدسون لا تنفي أن"أدبيات السحر والسحرة مليئة بقصص الاتصال الجنسي بين الشيطان ونساء البشر"، وبما أنها قالت:"دعوى الاتصال الجسدي بكائنات غير بشرية، شيطانية، أو ذات طبيعة مجهولة، كانت جزءاً من التجربة البشرية، حتى في مجتمعات متحضرة". وبما أن هذا ما تراه البروفيسورة الأميركية، فكيف إذاً لا تصدق أن له علاقة جسدية بجنّية؟ أليست هي التي قالت:"في أيام الإغريق كانت آلهتهم، وهي بالتأكيد تختلف عن البشر، تقيم علاقات جنسية مع البشر؟" هذا كله دفع الطالب النجيب ضاري الضبيّع إلى أن يسأل أستاذته:"عندما يوجد الآلاف الذين يتحدثون عن تجربة ما، أي تجربة، عبر عصور مختلفة، ألا يعني هذا أنه يصعب أن نفترض أنهم تواطأوا على الكذب؟"، غير أنها أجابت:"من قال شيئاً عن الكذب؟"فقال لها ضاري:"إذاً، فأنت تصدقين....؟"، وكان جوابها الوافي الشافي:"التصديق والتكذيب ردود فعل عاطفية ليست لها علاقة بالبحث العلمي. أن تصدّق بشيء لا يجعل من الوهم حقيقة، وأن تكذّب بشيء لا يجعل من الحقيقة وهماً". ولكن... ما الهدف من كتابة هذا الموضوع؟ إن الهدف الحقيقي هو توضيح أن جزءاً كبيراً مما يُنشر، ومما يُروى عن أمور تهمّ عامة الناس، كادعاءات علاج أمراض مزمنة أو مستعصية، ما هي إلا من قبيل"الأساطير". أي التي قد يكون لها أساس. غير أن ما لها من أساس في الأصل انتفخ وتضخم، وتحول الملاحظ أو الراوي من ذاكر حقيقة إلى"عالم"يُحاول تفسيرها. وأذكر حينما كنت مريضاً بأفتك أنواع سرطان الدم، قبل عشر سنوات، كم وصلني من الأعشاب، ومن حليب النوق مخلوطاً بأبوالها. وكل الذين أرسلوا ما توهموا انه العلاج الشافي لمرضي، القاتل لمن يصاب به في معظم الأحيان، وليس في كل الأحوال كما هو واضح من وجودي على قيد الحياة متمتعاً بصحة جيدة، كل هؤلاء لم يريدوا إلا الخير، فتحمّلوا المشاقّ حتى اوصلوا إليّ ما ظنوا انه بلسم يشفيني، حينما كنت في"سياتل"في أقصى شمال غربي أميركا. ولم أشك قط في صدق من أرسلوا العلاجات"الشعبية"، مشفوعة بروايات أشخاص أخذوا هذه الأعشاب مع العسل أو من دون عسل وحليب"الأبكار"- النوق التي ولدت للمرة الأولى - مخلوطاً بأبوالها أو غير مخلوط. فكل تلك الروايات لها أساس من الحقيقة. فقد يُصاب شخص، أو يُقال له انه مُصاب، بالسرطان، فيأخذ هذه الخلطة أو تلك ويُشفى. غير أن شفاء شخص واحد أو بضعة أشخاص، لا يعني أن هذه الخلطة أو تلك تشفي من السرطان أو السكر أو الضغط، أو غيرها من الأمراض التي يعمل لإيجاد علاجات فاعلة لها جهابذة العلماء. هذه أساطير لها أساس... ولكنها ليست علماً! إن التجارب العلمية الطبية لا بد من أن تكون"عمياء مرتين". أي إذا كانت هناك إشارات من تجارب أجريت على حيوانات إلى أن هذا الدواء أو ذاك يُفيد في علاج مرض ما، ماذا يحصل؟ إذا كانت هناك أدلة تستحق صرف مئات الملايين للتحقّق من مدى فاعليتها، حينئذ تُجرى التجارب، بعد أن يتم تقسيم من يتبرعون أو يُضطرون لأخذ هذا العلاج إلى فئتين، إحداهما تتناول الدواء فعلاً، والفئة الأخرى تتناول حبوباً أو جرعات أخرى خالية تماماً من كل دواء. والأطباء المشرفون ايضاً لا يدرون أي الفئتين تأخذ الدواء الحقيقي. إذاً، لا الأطباء المشرفون ولا المرضى الخاضعون للتجربة المُحكمة إجراءاتها يعلمون من يأخذ الدواء الحقيقي."التجربة عمياء"، حتى يتم إجراؤها وملاحظة نتائجها ومدى تأثيرها إحصائياً، ثم وضع الاستنتاجات بطريقة"موضوعية"بحتة. هذا هو العلم، أي الذي لا علاقة له بشخص العالِم. ويمكن أن يتأكد أي"عالِم"من حقيقة الأمر، لأنه يمكن إجراء التجارب بمعزل عن الشخص الذي ادّعى وقوعها. أي يمكن تكرارها باتباع الإجراءات العلمية المعروفة نفسها، بصرف النظر عن موضوع التجربة. أما السحر فيعتمد على الساحر، أو المشعوذ، والمسحور، ولا يمكن تكرار ما يدعيه الساحر أو المسحور بطريقة مستقلة، من قبل أو على آخرين. أما تفسير"أساطير"العلاج التي يرويها أناس صادقون، فقد يعود تفسير عدم فاعليتها بطريقة يعتمد عليها إلى أن المريض ربما لم يكن مصاباً بما قيل له انه مُصاب به، وقد شُفي لأسباب أخرى حدثت في الوقت ذاته الذي تم فيه أخذ هذه الخلطة أو تلك. وسيجد قارئ حكاية"الجنّية"، أن المؤلف وظّف الخيال، واستخدم أدوات "الأساطير"و"الخرافات"، ليقوم بكتابة دراسة لها امتدادات موثقة في العلوم الاجتماعية، ليبين، بقصد أو بغير قصد، أن الخرافات والأساطير والأوهام لها جذور تاريخية مُنذ وجود بني الإنسان على كوكب الأرض. بل ولها وجود في جميع المجتمعات من متقدمة أغناها العلم، وفقيرة أفقرها الجهل. ويروي الدراسة"الجادة"بأسلوب قصصي مشوّق، يفهم منه كل قارئ ما قد يفهم، وفقاً لخلفيته الثقافية والعلمية. وبالطبع فقراءة الخيال بأسلوب قوي مشوّق تُفيد كل القراء بدرجات متفاوتة، إن لم يتوجسوا من قراءة شيء يخيفهم عنوانه قبل الاطلاع على محتوياته. بل إن هذا هو ما يفعله القصيبي في كثير من رواياته، مثل"أبو شلاخ البرمائي"و"العصفورية"، وأكثر رواياته سوداوية التي سماها"7"، والتي تعكس الحقيقة بدقة عن بعض ابرز مثقفي عرب لندن وباريس وجنيف. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.