في ما بدا أنه تحديد لاتجاه خط السير الذي ستسلكه روسيا في المستقبل لحجز مكان مؤثر في خريطة القرن الجاري، التي تعيش حالة مخاض دموي في أكثر من منطقة في العالم على وقع محاولات الإدارة الأميركية إلقاء القبض على مفاصل القوة والاقتصاد والسياسة وقرائنها الاجتماعية والثقافية والفكرية، أطلق الرئيس فلاديمير بوتين، الذي سيتنحى عن منصبه العام المقبل، قنابل جديدة في وجه الأميركيين وحلفائهم الأوروبيين، ورفع من حدة المواجهة مع واشنطن التي تصر على نشر منظومة دفاع صاروخية في كل بولندا وتشيكيا بحجة"اعتراض خطر الدول المارقة"، وذلك من خلال تهديده بالانسحاب من"معاهدة القوات التقليدية في أوروبا"، والذي سرعان ما ترجمه وزير خارجيته سيرغي لافروف، عندما قام بإبلاغ وزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسي الناتو ال26، خلال اجتماعهم في أوسلو، أن بلاده قررت فعلياً تعليق العمل المعاهدة، حسب ما أعلن الأمين العام للحلف ياب دي هوب شيفر، وكذلك عبر توقيعه مرسوماً حول إعادة هيكلة الصناعة النووية قد يترجم بإنشاء"هولدنغ"موحد يحمل اسم"اتو انرجو بروم"، وتملك الدولة أسهمه بنسبة 100 في المئة بما يتيح لروسيا، وفق المكتب الصحافي ل الكرملين،"تعزيز تنافسها في الأسواق الدولية في المجال النووي". بوتين الذي ربط، في خطابه السنوي عن حال الاتحاد أمام الجمعية الفيديرالية التي تضم مجلس النواب الدوما والشيوخ الفيديرالية في موسكو قبل أيام، مواصلة العمل بالمعاهدة التي تلزم حلف شمال الأطلسي والاتحاد السوفياتي سابقاً، بنشر ما لا يزيد على 20 ألف دبابة و20 ألف قطعة مدفعية و30 ألف مدرعة قتالية و6800 طائرة مقاتلة وألفي مروحية هجومية لكل منهما في المنطقة ما بين المحيط الأطلسي وجبال الأورال، بتصديق الأطراف الأخرى عليها، وإحراز تقدم ملموس في تطبيقها، هاجم السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشدة، واعتبر أن حملة الغرب التي تتلفع بالبرقع"الديموقراطي"على دول العالم الأخرى، بما فيها روسيا، تذكّر بالحقبة الاستعمارية التي"كانوا يتحدثون خلالها عما يسمى دور دول المستعمرة في ادخال الحضارة الى الشعوب"، مذكراً بأن ثمة جهات تستخدم بخبث عبارات الديموقراطية الزائفة وترغب في العودة الى الماضي، ومحذراً من أن البعض من المتدخلين في الشؤون الروسية"يستخدم العبارات الديموقراطية بهدف إرجاع روسيا الى الماضي القريب الذي شهد نهب ثرواتها من دون عقاب، وسرقة الناس والدولة، وحرمان روسيا استقلاليتها الاقتصادية والسياسية". وهو ما أعاد الى الأذهان لهجة بوتين خلال مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ التي تضمنت تعابير كانت منسية في القاموس السياسي الروسي طوال السنوات العشر الماضية، وأبرزها الحديث عن"سعي الولاياتالمتحدة الى الهيمنة على مقدرات العالم". وكما كان متوقعاً، جاء الرد الأميركي على الاجراء الروسي سريعاً، حيث أبدت واشنطن، على لسان وزيرة خارجيتها كوندوليزا رايس، مخاوفها من هذا التطور الجديد، داعية موسكو الى"الالتزام بمضامين المعاهدة"، وذلك بعد أن كانت وصفتن في وقت سابق، مخاوف موسكو من خطط نشر الدرع الصاروخية بأنها"سخيفة تماماً"و"ليس لها أي معنى"ن كون نشر 10 صواريخ اعتراضية في بولندا لن يؤثر في التوازن الاستراتيجي مع روسيا"التي تمتلك ترسانة نووية عملاقة"! وهو ما ذكّر، ايضاً، بموقف واشنطن أثناء مؤتمر ميونيخ عندما رفض وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس اتهامات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للولايات المتحدة بأنها تسعى الى فرض سطوتها على العالم، واصفاً إياها بأنها"كلام فظ من جاسوس قديم"، واعتباره أن"حرباً باردة واحدة تكفي"لأن العالم اليوم حسب تعبيره"أصبح مختلفاً وأكثر تعقيداً مقارنة بأيام الحرب الباردة، بعد أن أصبحت الشراكات مع دول أخرى، من بينها روسيا، ضرورية لمواجهة المشاكل العامة وتحدي التطرف الاسلامي الجدي"، متناغماً في ذلك مع مزاعم أمين عام حلف الناتو بأن الحلف"لا يتمدد على حساب أحد، والبلدان التي تريد أن تكون أعضاء في نادي الديموقراطيات تنضم إليه بملء إرادتها"! غير أن هذا الموقف الأميركي المتغطرس لم يحل دون محاولة امتصاص تداعيات هذا التطور قبل أن يتحول الى بؤرة أزمة جدية بين واشنطنوموسكو التي ترتفع فيها الأصوات المطالبة بإعادة صياغة العلاقة مع الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية على قواعد متكافئة تتيح لروسيا انتهاج سياسة خارجية مستقلة، وعدم الاكتفاء بالوقوف متفرجة على سباق التسلح الذي تفرضه الولاياتالمتحدة، وفق ما يرى سيرغي ماركوف مدير معهد البحوث السياسية بموسكو، إذ سرعان ما تمت المبادرة الى طرح فكرة تشكيل فريق عمل جديد خاص بالعلاقات الأميركية الروسية برئاسة كل من وزيري الخارجية الأميركي والروسي السابقين هنري كيسنجر ويفغيني بريماكوف تحت مسمى"روسيا، الولاياتالمتحدة، نظرة الى المستقبل"، وذلك بعد أن ناقش الرئيس بوش، وفق توضيح البيت الأبيض، هذه الفكرة مع كيسنجر قبل مغادرة الأخير الى موسكو، وأعرب عن تاييده للفريق الجديد في مقابل ترحيب الرئيس بوتين بهذه الفكرة وتأييده لها شرط أن يضم الفريق المقترح ساسة وشخصيات اجتماعية معروفة ومحترمة في البلدين. ومع أن ثمة شكوكاً كبيرة في مدى فعالية منظومة الدفاع المضاد للصواريخ التي تستعد الولاياتالمتحدة لنشرها في أوروبا الشرقية لقطع الطريق على الصواريخ الاستراتيجية الروسية وفق ما صرح رئيس الأركان الروسي يوري بالويفسكي، الذي قال إنها من طراز"باك - 3"التي كانت تستخدم في بداية تسعينات القرن الماضي، وهي لم تكتسب منذ ذلك الحين أي خصائص جديدة، إلا أن أخطارها، وفق بالويفسكي نفسه، يمكن أن تضر بالبيئة عندما يتم اطلاقها، ذلك أنها لا تستطيع تدمير صواريخ مهاجمة ذات رؤوس نووية انشطارية إلا بإحداث انفجار نووي مقابل. ولم يتوصل الخبراء الأميركيين بعد الى ايجاد اسلوب يمكنهم من تمييز الرؤوس النووية القتالية الحقيقية من الرؤوس غير الحقيقية التي يقذفها الصاروخ الاستراتيجي الى جانب الرؤوس القتالية بهدف التمويه والتضليل. وفي حال تم توجيه ضربة نووية الى الهدف المطلوب تدميره حتى إذا كان صارخاً لا يحمل العبوة الناسفة النووية، فإن الانفجار سيتسبب في قطع التيار الكهربائي في دائرة يبلغ نصف قصرها 500-600 كيلومتراً، وهذا يعني تعطيل أجهزة الكومبيوتر ومحطات تحويل الغاز ومضخات الماء ووسائل الإعلام وأنظمة ارشاد الطائرات، ويدمر بنايات كثيرة ويسبب تلوثاً اشعاعياً يفوق ما ترتب عن الانفجار في محطة تشيرنوبيل. في كل الأحوال، ما يبدو مرئياً هو أن القفزة الروسية التي فتحت ثغرة اضافية في جدار العلاقات القلقة الهشة مع الولاياتالمتحدة، وتالياً مع دول أوروبا السائرة في ركاب واشنطن، يمكن الحاقها بالانذار الذي وجهه بوتين لهذه الدول في مؤتمر ميونخ، عندما أعلن صراحة أن روسيا لن تقبل سيطرة الولاياتالمتحدة التي"تتمدد عسكرياً متجاوزة الحدود السياسية والمعايير الدولية في جميع الميادين"، تحت عباءة بالديموقراطية، على العالم، وأن بلاده"تمتلك أسلحة متطورة بإمكانها أن تحوّل المظلة الدفاعية الصاروخية الأميركية فوق شرق أوروبا على مظلمة من دون جدوى وعديمة الفائدة". ولكن يبقى السؤال الملح معلقاً في الهواء: هل يمكن لروسيا وزعيمها الكامح في استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق ومكانته التدصي لجموح إدارة بوش التي تزداد شراستها على وقع مأزق العراق وأزمات المنطقة وهجوم ديموقراطيو الكونغرس المتواصل عليها، ومن ثم إعادة التوازن لاحقاً الى العلاقات الدولية في حقبة الرئيس الروسي المقبل؟ وهل تمتلك موسكو المؤهلات والوسائل اللازمة لتدصي لهذا الدور واستغلال التراجع، الفعلي الواقعي، للدور الأميركي بعد افتضاح دمويته ومشاريعه التفتيتية وخطره الكارثي على العالم برمته؟ ثم، الى أي مدى يمكن أن يؤثر هذا الحراك الروسي، المرعب لبعض الأوروبيين، ولا سيما اولئك الذين انضموا حديثاً الى حلف شمال اطلسي ووضعوا بيضهم كله في السلة الأميركية، على الاتحاد الأوروبي الذي تبدو بلدانه مرتبكة وتائهة بعد جنوح العديد منها باتجاه العودة الى التحالف مع الولاياتالمتحدة والجلوس تحت مظلتها؟ ما يسمع في موسكو من تقديرات ينصب على أن الرئيس الروسي الذي استطاع إعادة ترميم بلاده على أكثر من مستوى وصعيد، قرر بالفعل عدم تحميل موسكو التزامات قانونية ناجمة عن المعاهدة المذكورة على رغم اختفاء أحد الأطراف الموقعة عليها حلف وارسو والذي انضمت غالبية بلدانه السابقة الى الناتو أو في طريقها الى الانضمام، وأن خطوة بوتين هذه تمثل بداية الرد الروسي على الخطة الاستراتيجية الأميركية التي نشرت أخيراً ودعت الى مواجهة ما وصفته بالتصرفات الروسية السلبية، وإفهام الغرب أن روسيا بوتين التي فتئت تدعو بناء نظام عالمي جديد يعتمد التعددية القطبية بدلاً من القطب الواحد في اطار احترام مصالح روسيا على الساحة الدولية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية كما جرى مع أوكرانيا وجورجيا وغيرهما من دول الاتحاد السوفياتي السابق، ليست روسيا يلتسن الذي رحل الى مثواه الأخير منذ أيام قليلة. * كاتب فلسطيني.