يقول المخرج الأميركي، الإيطالي الأصل، فرانك كابرا، منذ عنوان الكتاب الذي أصدره آخر سنوات حياته وضمنه سيرته الذاتية، انه كان هو من أوائل الذين سعوا الى وضع اسم مخرج الفيلم قبل عنوانه. كان عنوان كتابه إذاً، ببساطة"الاسم فوق العنوان". والحقيقة ان جهود الرجل في مجال الفن السابع كانت تستحق هذا حقاً، حتى وإن كان من الصعب اعتبار كابرا واحداً من المجددين الكبار في فن السينما. فقامة كابرا لا تطاول قامات كبيرة مثل جون فورد أو جوزف مانكفتش أو بيلي وايلدر، من مجايليه وزملائه من هوليوود. ومع هذا حظيت أفلام كابرا بشعبية كبيرة أواسط القرن العشرين... كما حظيت، بمكانة سياسية شديدة الأهمية كان لها تأثيرها الحاسم في الولاياتالمتحدة، كما كان لها أثر لافت في دور السينما في المجتمع على صعيد العالم كله. ولن يكون ظلماً للرجل أن نقول انه إنما حقق هذا في عهد الرئيس الأميركي روزفلت، وبفضل سياسات هذا الأخير، السياسات التي جعل كابرا من بعض الأفلام التي حققها خلال العشرية التي سبقت الحرب العالمية الثانية، مرآة تعكسها، بل أكثر من هذا: تعكس تفاعل الشعب الأميركي معها. ولافت هنا أن زمن تحقيق تلك الأفلام يتطابق مع الزمن الذي تمكن فيه روزفلت من ان يعيد الى الشعب الأميركي بعض رفاهيته وكثيراً من ثقته بنفسه، بعد آلام وإحباطات بداية ذلك العقد على أثر انهيار بورصة نيويورك وغرق ملايين الأميركيين في فقر مدقع. لقد جاءت أفلام فرانك كابرا في ذلك الحين رديفاً شعبياً لسياسة الصفقة الجديدة التي صاغها روزفلت معيدة الحديث عن الحلم الأميركي وعن الديموقراطية وعن التصالح داخل المجتمع، ثم في شكل خاص عن أن فساد حكم ما لا يجب أن يعني اليأس من النظام ومن الدولة. بعض سينما كابرا ركز، إذاً، على الفارق الأساس بين الحكومة والدولة، بين السلطة وممارستها. ولعل هذا يتوضح أكثر ما يتوضح في واحد من أجمل أفلام كابرا وأكثرها شعبية:"السيد سميث يتوجه الى واشنطن". هذا الفيلم الذي حققه فرانك كابرا سنة 1939، أوصل أفكاره الشعبية وربما الشعبوية أيضاً، بحسب وجهة النظر التي يمكننا أن نطل منها على الموضوع برمته الى ذروتها، معلناً إيمانه المطلق بأميركا وديموقراطيتها، عازياً الفساد، حين يكون قائماً، الى الأفراد ونزعتهم الشريرة الطماعة لا أكثر. والحقيقة ان النجاح الكبير والفعال الذي حققه هذا الفيلم، يعزى الى انه جاء تتويجاً لجهود روزفلت التي أعادت الثقة الى الناس في حلمهم الأميركي القائم على مبادئ مثل العصامية، وقوة الديموقراطية، والدأب في التعبير عن الموقف والتعاون وغلبة الخير على الشر في نهاية الأمر، ناهيك بإفساحه مجالاً كبيراً للحديث عن الدور الإيجابي غالباً للصحافة والإعلام في رسم مصائر المجتمعات. وفي هذا الإطار كله، لم يكن بعيداً من المنطق أن يسند كابرا دور البطولة في الفيلم الى الممثل الذي كان الأكثر شعبية في هوليوود في ذلك الحين، جيمس ستيوارت، الذي كان عشرات الملايين من الأميركيين يتماهون معه، انطلاقاً من ملامحه الحائرة التي تبدو أول الأمر غير واثقة من شيء، ثم بالتدريج مع تقدم أحداث الفيلم يزداد ثقة بنفسه حتى يتمكن من تحقيق مشروعه، الذي هو هنا على الأقل مشروع الأمة بأسرها. كانت تلك، في رأي كابرا واستناداً، طبعاً، الى تجربة روزفلت، سمات الأميركي الحقيقي. وفي ذلك الحين ما كان أحب على قلوب الأميركيين، من أن يشاهدوا على الشاشة أميركياً حقيقياً. ولنضف هنا أن ذلك الأميركي وعلى الأقل منذ الفيلم السابق الذي كان جمع بين كابرا وستيوارت، وكذلك جين آرثر، التي لعبت في"مستر سميث..."دور البطولة، ونعني به"لن تأخذها معك" كان يتسم بتعبيره عن قيم الحرية والديموقراطية والأخلاق الأميركية، ليس في خطاباته فقط، بل كذلك وخصوصاً في شخصيته وفي تفاعله مع تطور الأحداث والمواقف. وكان هذا كله يستمد جزءاً أساسياً من فاعليته وقوته من الصورة التي عرف كابرا كيف يرسمها بحذق لانتصار السياسي الشاب العاطفي والقلق والمثالي والمتردد، والساذج أول الأمر، والذي يحدث لديه ذلك التحول الخطير الذي يجعل مشروعه ينتصر في النهاية في مجلس النواب، الذي أرسل اليه مدافعاً عن ذلك المشروع، بصفته سيناتور شاب آت من ولاية ثانوية الأهمية، لا تسمى في الفيلم. ان هذا الفيلم يقدم إلينا، هنا، مجلس النواب مجلس الشيوخ في شكل أكثر تحديداً، بصفته حصن الديموقراطية والحرية في أميركا، انطلاقاً من أن هذا المجلس إذ ينتخب من الشعب مباشرة، يستمد من هنا صلابته ومنعته ويصبح مؤتمناً، من دون أية مؤسسة أخرى، على مصالح الشعب وحريته ورفاهيته. طبعاً لا يعني هذا أن المجلس وأعضاءه منزهون. لكنه يعني انه المكان الأصلح لعيش الصراع بين أصحاب النيات الطيبة والمشاريع الشعبية الصالحة، وبين السياسيين الفاسدين، سواء كانوا نواباً أم لم يكونوا... بل انه استطراداً المكان الوحيد الذي يمكن فيه لپ"الخير"وپ"الصواب"أن ينتصرا على"الشر"وپ"الخطأ". واضح إذاً، ان هذا كله في شكل موضوع"السيد سميث يذهب الى واشنطن"، حيث ان السيد سميث هو في نهاية الأمر المواطن الأميركي البسيط الذي يؤمن بقيم ربّيَ عليها... لكنه يجد نفسه على مجابهة، مع سياسيين فاسدين، لهم نظرياً الحول والطول في إدارة شؤون البلد والاستفادة منها. لكن السيد سميث يجد نفسه، إذ يتم اختياره ممثلاً لولايته الصغيرة في مجلس الشيوخ، يجد أن في إمكانه أن يدافع عن مواقفه، كما عن مصالح الشعب البسيط، في المكان الوحيد الذي يصلح لهذا الدفاع، إنما من دون أن يكون واثقاً، أول الأمر، من الانتصار. ومعظم مشاهد الفيلم يدور بالتالي داخل ديكور بني فيه مجلس الشيوخ الأميركي وملء بالشيوخ، وكذلك بالصحافيين والناس العاديين، كمتفرجين على الشرفات. وأمام هذا الجمع في تلك القاعة المهيبة، يجد السيد سميث نفسه وقد أخذ دفة الكلام مندداً بسياسيين حاضرين مثله في القاعة يريدون تحويل قطعة رائعة من الأرض الطبيعية البرية الى مشروع عمراني يتناقض مع مصالح أهل المنطقة. في البداية لا تبدو القوة الوحيدة ? تقريباً ? التي يمتلكها سميث، قادرة على مجابهة قوة السياسيين وحلفائهم الاقتصاديين وثروتهم التي تشتري الناس والصحافيين وتفسد حتى البشر البسطاء العاديين. ولكن بالتدريج، وبالاستناد الى حرية الحركة والقول التي يتيحها الدستور الأميركي وما يتفرع عنه من قوانين وتعديلات، يكشف السيد سميث مجال قوته الحقيقية: الكلام. ويدرك ذات لحظة ان في وسعه اللجوء الى هذه القوة طالما أمكنه ذلك، مجبراً الآخرين على الاستماع إليه والى حججه، كي يصل في النهاية، اما الى إقناع غالبية أعضاء المجلس بحجته أو الى إقناع الشعب خارج القاعة ما يفضح تكالب السياسيين. ومن هنا يصبح الفيلم ماراتون كلام، ويقف سميث ساعات وساعات عارضاً بعض الأحيان محاججاته التي تزداد اقناعاً مع تقدم الوقت، مكتفياً في أحيان أخرى بقول أي شيء لمجرد ألا يفقد حقه في الكلام ونعرف بل يمكننا أن نتوقع حتى إذا كنا لا نعرف ان هذا التكتيك الذي يتبعه سميث ينجح في النهاية، وتثبت الديموقراطية الأميركية جدواها وقوتها، إذ يصبح سميث، من ناحية صورة للأميركي العادي المؤمن بها، ومن ناحية ثانية مرآة لروزفلت وسياسته التي قامت على الإقناع ما مكنه من ربح كل معاركه. فرانك كابرا 1897- لم ينكر هذا الجانب الأساسي من جوانب فيلمه، بل نراه يتحدث عنه بكل فخر، خصوصاً أنه كان من شأنه أيضاً أن يفخر بأنه - ومهما كان الدرس السياسي بارزاً في الفيلم لم يضح أبداً بالسمات الفنية لعمله، أو بكونه عملاً ترفيهياً خالصاً أيضاً، لمصلحة الطروحات السياسية. والحقيقة ان هذا كان دائماً دأب كابرا في القسم الأكبر من أفلامه - إذا استثنينا سلسلة"لماذا نقاتل"التي حققها، بأسلوب دعائي خالص لحساب الحكومة الأميركية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية ومن أبرزها الى ما ذكرنا"إنها حياة جميلة"1946 وپ"حدث ذات ليلة"1934 وپ"السيد ريدز يذهب الى المدينة"1936.