أثارت سيطرة قوات "المحاكم الإسلامية" على العاصمة الصومالية مقديشو في 5 حزيران يونيو 2006، موجة واسعة من ردود الأفعال التي انبنت على جملة من المخاوف محلياً وإقليمياً ودولياً، وأبدت الولاياتالمتحدة الأميركية خشيتها من تحول الصومال إلى ملاذ آمن لما وصفته بپ"الإرهاب"، ونبعت هذه الخشية من المزاعم المتعلقة بوجود علاقات بين"اتحاد المحاكم الإسلامية"و"تنظيم القاعدة"بزعامة أسامة بن لادن، وهي المخاوف التي حددت خطوات السياسة الأميركية تجاه الصومال بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر وحتى بداية 2006. فقد كانت الولاياتالمتحدة وراء إنشاء ما يعرف بپ"تحالف إعادة السلم ومكافحة الإرهاب"في 18 شباط فبراير 2006، وضم هذا التحالف عدداً من جنرالات الحرب والوزراء في الحكومة الانتقالية، الذين وقفوا في وجه"المحاكم الإسلامية". في ذلك الوقت قام تحالف"إعادة السلم ومكافحة الإرهاب"باختطاف عدد من الإسلاميين المحسوبين على"المحاكم"، الأمر الذي أدى إلى حدوث اشتباكات متتالية حققت فيها قوات المحاكم انتصارات تكللت بالسيطرة على العاصمة مقديشو، وفي مرحلة ثانية عملت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش على تكوين ما يعرف بپ"مجموعة الاتصال الدولية المعنية بالصومال"التي ضمت عدداً من الدول الأوروبية والأفريقية إضافة إلى الولاياتالمتحدة، وعقدت"المجموعة"أول اجتماعاتها في حزيران 2006 في نيويورك، واستحوذ على أنشطتها بحث سبل منع نشوب حرب جديدة في"القرن الأفريقي"، ومساعدة الصومال على إنهاء حالة الفوضى والانهيار المزمن. وقامت الولاياتالمتحدة الأميركية بزيادة عدد قواتها في"القرن الأفريقي"ليصل إلى 1800 جندي، بهدف منع"الإرهابيين"من"القاعدة"وپ"الجماعات السلفية الجهادية"من الحصول على ملاذ آمن في هذه المنطقة الحيوية. وتستقر هذه القوات في جيبوتي، وكانت نواتها تشكلت في تشرين الثاني نوفمبر 2002، تحسباً لتحول أفريقيا إلى أكبر جبهة لتنظيم"القاعدة"، وأعادت واشنطن منذ أواخر تشرين الثاني 2006، اهتمامها بنشر قوات أفريقية لحفظ السلام بالصومال، بعد أن أعربت الخارجية الأميركية عن قلقها الشديد من توسيع سيطرة"المحاكم"على مناطق بلاد بونت. انتقادات واسعة جلب الموقف الأميركي انتقاداً واسعاً من أطراف داخلية وإقليمية ودولية، ورفضت"المحاكم"هذا القرار، واعتبرته دليلاً على انحياز الإدارة الأميركية إلى السلطة الانتقالية بقيادة الرئيس عبدالله يوسف، وأشارت الى أن الإدارة الأميركية تستند الى فهم خاطئ للوضع. علماً أن الجامعة العربية رفضت نشر مثل هذه القوات، ولذلك فقد جاء قرار مجلس الأمن في 6 كانون الأول ديسمبر 2006 رقم 1725 بمثابة صيغة وسط، من خلال التأكيد على أن هدف القرار هو دعم السلم والاستقرار في الصومال من خلال عملية سياسية شاملة، والدعوة الى حوار مستمر يتمتع بصدقية بين السلطة الاتحادية الانتقالية، واتحاد"المحاكم الإسلامية"، وسمح القرار لپ"الإيغاد"وپ"دول الاتحاد الأفريقي"بإنشاء بعثة حماية وتدريب في الصومال، ومنحها التفويض لمراقبة التقدم، إلا أن التطور الأكثر أهمية يتمثل في الدعم الكامل الذي قدمته الإدارة الأميركية للحرب الإثيوبية على الصومال، حيث قام الجنرال جون أبي زيد قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي بزيارة الى العاصمة الإثيوبية في الرابع من كانون الأول 2006، التقى خلالها مع رئيس الحكومة الإثيوبية ميليس زيناوي في وقت بدأت إرهاصات القتال بين قوات الحكومة الانتقالية المدعومة من إثيوبيا وپ"المحاكم الإسلامية". شعبية"المحاكم الإسلامية"... وپ"القاعدة" تتمتع"المحاكم الإسلامية"بشعبية داخل المجتمع الصومالي، وهي قادرة على تعبئة وتجنيد عدد كبير من الأنصار داخلياً وخارجياً، ولعل الانهيار السريع لقواتها يؤكد ثقتها الكاملة بعدم القدرة على مواجهة جيوش نظامية، ولذلك فقد عمدت"المحاكم"إلى الانسحاب التكتيكي من أجل الحفاظ على قواتها وقدراتها القتالية، لشن حرب عصابات شاملة هدفها استنزاف الجيش الإثيوبي المتحالف مع قوات الحكومة الانتقالية. ويعود اهتمام"القاعدة"بپ"القرن الأفريقي"إلى بداية التسعينات من القرن الفائت بعد انتهاء"الجهاد الأفغاني"ضد الاتحاد السوفياتي حيث لجأ كل من بن لادن والظواهري إلى السودان مع عدد كبير من القادة الميدانيين، كأبي عبيدة البنشيري، وأبي حفص المصري، وغيرهم. ومن المعروف أن البنشيري أول قائد عسكري لتنظيم"القاعدة"مات غرقاً في بحيرة فكتوريا أثناء التحضير لضرب سفارتي الولاياتالمتحدة في تنزانيا وكينيا، والذي تم فعلاً عام 1998. وتمكنت"القاعدة"من تجنيد الكثير من الأفارقة في صفوفها قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، ولذلك فقد جاء خطاب أسامة بن لادن في رسالته الصوتية التي حملت عنوان"إلى الأمة عامة، ومجاهدي العراقوالصومال خاصة"، كدعوة الى الصوماليين لبدء"القتال ضد نظام الحكم في بلادهم الذي يترأسه عبدالله يوسف". نشأة"المحاكم الإسلامية" في عام 1991، عقب سقوط حكومة سياد بري وانتشار حالة من الفوضى، حاول العالم الأزهري الصومالي الشيخ محمد معلم حسن إنشاء محكمة شرعية بمنطقة"طورطيجلي"جنوب مقديشو بالتعاون مع شيوخ القبائل للفصل بين المتخاصمين بالاحتكام إلى الشريعة، غير أن الجنرال الراحل محمد فارح عيديد - الذي كان يسيطر على جنوب العاصمة آنذاك، وخلفه ابنه حسين عيديد وزير الداخلية في الحكومة الفيديرالية الحالية - أحبط هذه المحاولة، لأنه اعتبرها محاولة لإضعافه . وفي بداية عام 1994 جرت المحاولة الفردية الثانية لتأسيس محكمة شرعية على أسس عشائرية في الشطر الشمالي من العاصمة، وعين الشيخ علي محمود طيري رئيساً لها، حيث استطاعت بسط نفوذها على أجزاء واسعة من شمال العاصمة مستعينة بالميليشيات التي كونتها والتي جاءت غالبية عناصرها من العشائر التي تفتقد الأمن، ونجحت"المحاكم"بالفعل في فرض النظام بعدما نفذت أحكام"رادعة من الرجم إلى القصاص والإعدام". وفي عام 1996 بدأت"المحاكم"تظهر بقوة كنظام قضائي في العاصمة، وبالتنسيق مع رؤساء العشائر. وفي عام 1997 ظهرت"المحاكم"في مقديشو للمرة الأولى، وكانت أشبه بوزارتي عدل وداخلية، وذلك بعد فشل مبادرات فردية لإقامة"محاكم"في مناطق متفرقة في عامي 1991 و1994، وكونت هذه المحاكم ميليشيات داخل كل قبيلة في العاصمة لتقوم بدور وزارة الداخلية ونفذت عمليات مشتركة لإرساء الأمن في محاولة للقضاء على حال الفوضى التي شهدتها البلاد في غضون الحرب الأهلية، وهو ما أكسبها نفوذاً وصدقية كبيرة لدى الصوماليين . بيد أن زعيم الحرب القوي آنذاك علي مهدي محمد دخل في صراع مع"المحاكم"وتمكن من القضاء على نفوذها القومي وحبسها في الإطار المحلي فقط عبر تفكيك أجهزتها القضائية والتنفيذية الميليشيات. ومع تصاعد أعمال العنف والفوضى عام 2001 عادت الميليشيات لتلعب دوراً عسكرياً في"فرض النظام"، ونجحت في تنفيذ عمليات مشتركة حتى وصل نفوذها إلى جنوب مقديشو. ومع استمرار الصراع بين أمراء الحرب وعدم اعترافهم بحكومة الرئيس صلاد حسن الانتقالية التي تمخضت عن قمة جيبوتي، وتفشي الفوضى عقب سقوط هذه الحكومة مرة أخرى، تم في عام 2005 تأسيس المجلس الأعلى لاتحاد المحاكم الإسلامية في مقديشو، وانتخب الشاب الشيخ شريف شيخ أحمد رئيساً له، بحيث أصبحت العاصمة مقديشو تضم ما لا يقل عن 11 محكمة شرعية تنتمي إلى تحالف معروف باسم"المجلس الأعلى للمحاكم الشرعية بالصومال". منهج السلفية الجهادية ويبدو أن المحاكم الإسلامية في الصومال تنتهج المنهج نفسه الذي اتبعته الحركات السلفية"الجهادية"في أفغانستانوالعراق، وذلك من خلال الانسحاب وإعادة ترتيب القوات والبدء في حرب عصابات طويلة الأمد، باعتماد العمليات الانتحارية. هذا فضلاً عن بدء تكوين جماعات"مقاومة جهادية"ذات طابع سلفي بدأت تعلن عن نفسها تباعاً مثل"حركة الشباب المجاهدين"وپ"كتائب التوحيد والجهاد"وغيرها، ومن المتوقع أن يبدأ"الجهاد الصومالي"في استقطاب عدد من مقاتلي"القاعدة"في العالم العربي والإسلامي وعلى وجه الخصوص تلك الموجودة في أفريقيا وفي مقدمها"تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي".