الجدال البيزنطي الدائر في لبنان منذ الأزل لا يتناول جنس الملائكة ولا معضلة من جاء أولاً البيضة أم الدجاجة فحسب بل يخوض في غمار كل شأن من شؤون الحياة والسياسة والمجتمع والأوضاع المحلية والعربية والدولية. ويأخذ الكثيرون على اللبنانيين هذه العلة الجدلية ويضعون اللوم عليهم في تأزيم أمورهم وتعقيد حياتهم وتحويل المشاكل البسيطة الى أزمات وتأجيج نيران الخلافات لتتحول الى معارك وحروب ما أنزل الله بها من سلطان. ولكنني أرى في هذا المأخذ على رغم انتقادي للسلبيات ميزة من ميزات الحرية لأنها تتيح للناس التعبير عن الواقع وتفسح لهم المجال لممارسة حقوقهم المشروعة وبينها حقهم في الاختلاف وفي البحث عن حلول للعلل والآفات التي يعاني منها المجتمع على رغم كل ما ينجم عن الممارسات من شطط ومبالغات وتطرف في إبداء الرأي ومحاولات مستمرة لقمع الرأي الآخر ورفض الاعتراف به وبأن الحقيقة لها وجوه عدة وفق مبدأ: هناك رأيي ورأيك وهناك الحقيقة. هذه الميزة اللبنانية التي تتجلى في صور وأشكال عدة يرسم ملامحها الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع، على رغم سقوطه خلال الأشهر الماضية في مستنقع الانحياز والتضليل وضياع بعضه في متاهات الأزقة الضيقة للأحزاب والتيارات المتصارعة مما أفقده قدسية الموضوعية وسرق منه أضواء نيرة من إشراقة شعاع الحرية. ومع هذا تبقى إيجابيات المساحة المتبقية من الحرية في الإعلام اللبناني ومجمل أشكال التعبير لدى أطياف المجتمع وفي مجالات الفن والأدب والعمل المدني والاجتماعي. وهذه ميزة لا بد من الاعتراف بها والافتخار بتنوعات أطيافها وعطاءات انعكاساتها على لبنان والعالم العربي لأنها تكشف المستور وتفضح الخطايا وتدل على الأخطاء وتدق نواقيس الخطر محذرة من الفتن المعدة والمؤامرات المنتظرة وتتيح لأصحاب القرار مجال تلقي"إخبار"يومي بالجرائم المرتكبة وبأصحاب النيات الإجرامية وتكشف عن مواقع"القنابل الموقوتة"وصواعق التفجير التي تهدد أمن المجتمع. ومن المواضيع التي يُثار حولها الجدال في لبنان قضية ما يسمى بالتعايش المشترك بين الطوائف اللبنانية وما يتطلبه من بنود وشروط وضوابط وعوامل تحقق له البقاء والاستمرار وتحفظ التوازنات وتمنع الغبن وفق مبدأ التوافق على أساس شعارات"التفهم والتفاهم"ولا"غالب ولا مغلوب". وكم نحن بحاجة لتعميم هذه القيم والأسس على صعيد الوطن العربي كله من المحيط الى الخليج مع تعديل في التعبير من حيث المعنى والمبدأ والمبنى ليصبح"العيش المشترك"بدلاً من عبارة"التعايش"التي تفسر بمعان كثيرة تحمل صفة الفرض والاضطرار فيما المطلوب هو الاقتناع والرغبة والإرادة والنيات الحسنة والقرار النهائي بالمصير المشترك والمساواة والعدالة والمصالح الموحدة والوطن الواحد. وتعميم هذه المفاهيم مطلوب عربياً في هذه الظروف التي نعيشها لأن ميزة لبنان في"كشف المستور"بصراحة مطلقة غير متوافرة في كثير من الدول العربية حيث تطغى عوامل التعتيم وتسود المخاوف من الاقتراب مما يعتبر من المحرمات وتتعمق أخطاء إخفاء الحقائق ورفض الاعتراف بوجود علل أو صواعق تفجير أو مشاكل قد تبدو بسيطة وصغيرة ولكنها تتحول مع الزمن الى أزمات معقدة ومركبة وكبيرة وفق أساليب بالية شائعة تشبه الى حد كبير أسلوب رمي الأوساخ تحت سجادة أو دفن الرأس تحت التراب. ففي كل دولة قنبلة موقوتة، وفي كل مجتمع صواعق تفجير، وفي كل شارع فتنة جاهزة، وفي كل زاوية علة كامنة، وفي كل خاصرة شوكة تؤرق وتزعج وتنذر بخطر قادم. ولا مناص من الاعتراف أولاً بوجود العلل أو على الأقل البحث عنها لتنظيف طرقها من حقول الألغام واللجوء للمصارحة والموضوعية في الطرح والمعالجة وإشراك الجماهير وأصحاب الخبرة وأهل الرأي والعلم في الحوار وطرح الوقائع بجرأة حتى يتحمل كل إنسان مسؤولياته ويشارك في إطفاء نار أي حريق قد ينشب في أي لحظة في زمن خطر يحمل إلينا الكثير من نذر التفتيت ومؤامرات التقسيم والعواصف المثيرة للفتن. وما يجري في العراق وفلسطين ولبنان أكبر دليل على هذا الواقع، وما يشهده الصومال والسودان وصولاً الى المغرب العربي ودول الخليج يجب أن يدفعنا الى الاقتناع بأن صواعق التفجير والتفتيت متعددة الوجوه والغايات والأقنعة وبالتالي الى المسارعة الى وأد الفتن العرقية والطائفية والمذهبية وإزالة الأسباب والدوافع والمبررات والذرائع وتحصين الذات وسد الأبواب والنوافذ التي تحاول رياح الشر أن تنفذ منها. والميزة اللبنانية في طرح المشاكل بصراحة يجب أن تعمم، على رغم المآخذ على الممارسات الخاطئة والحدة في التعاطي ولغة الخطاب وتبادل التهم والشتائم، لأن الحرية المسؤولة هي الكفيلة بتصحيح الأوضاع ورأب الصدع والوصول الى الحلول الناجعة عند توافر النيات الحسنة خصوصاً أننا نعيش الآن في عالم متطور تحكمه ثورة اتصالات وتكنولوجيا لا مجال معها لتعتيم وإخفاء وتضليل ونفي وإنكار. وأعطي هنا مثالاً واحداً على العلل الكامنة في مجتمعاتنا وهو الشروخ الخطيرة التي تسهم في تفتيتها على أسس قبلية وعشائرية وعرقية ومذهبية وطائفية ودينية والتي لم يعد في الإمكان إنكار وجودها أو التقليل من أخطارها وتجاهل تداعياتها وانعكاساتها وتزايد إمكانات تحولها الى قنابل موقوتة. وقد استفزني سؤال طرحه علي زميل في برنامج تلفزيوني موضوعه: هل هناك عنصرية في مجتمعاتنا العربية؟ فقد فتح في قلبي جروحاً كامنة ودفعني للإجابة بصراحة متناهية والإسهاب في الحديث عن الواقع بألم ومرارة وأقول: نعم العنصرية متجذرة في ممارساتنا وأدبياتنا وتعاملنا اليومي مع الآخر... والمؤسف أنها قد تكون أهون شرور واقعنا وأحسن العلل السيئة التي نعاني منها... نعم هناك عنصرية ومعها تعصب وتطرف وعشائرية وإقليمية وعائلية ومذهبية وطائفية ودينية وهي أمراض اجتماعية ونفسية تستشري في الجسد العربي يوماً بعد يوم ينفخ في نارها الأعداء ونشرف على تغذيتها وصب الزيت عليها بأيدينا وبممارساتنا وبإصرارنا على الغي والمغالاة والإمعان في ارتكاب الخطايا والأخطاء مع عدم إنكار العامل الصهيوني ودور إسرائيل في التآمر والتسبب في إشعال نار الفتن. فهذه الأرض الطيبة التي حباها الله بالثروات والأديان والقيم الروحية والأخلاقية لتجمع"خير أمة أخرجت للناس"أصبحت مرتعاً للخلافات والشقاقات والنزاعات والحروب بدلاً من أن تكون نقطة التقاء وتعارف وتعايش وتكافل وتضامن الشعوب والقبائل على اختلاف مشاربها واتجاهاتها وأعراقها وألوانها لا تمييز بينها ولا تفريق إلا ب"التقوى"وبالإيمان بالخير والمحبة والمودة والتراحم. وأدرك جيداً عند طرح مثل هذه العناوين أن البعض لم يعد يعترف بالمثاليات والقيم، وأن البعض الآخر بدأ يفقد الأمل بالحل والإصلاح وتصحيح الأوضاع ظناً منا بأننا وصلنا الى نقطة اللاعودة في علاقاتنا داخل أوطاننا ومجتمعاتنا وبيننا وبين الآخر بعد عقود من التخلف والهدر والفتن والتفتيت والحروب. ومع هذا فعلينا أن لا نيأس وأن لا نسمح لمعاول الهدم أن تواصل مهمتها التدميرية. كما أن علينا كإعلاميين مسؤولية كبرى وواجبات تقضي بإشاعة أجواء المحبة ونشر ثقافة التسامح وفتح أبواب الحوار الهادف والمسؤول لوقف مسيرة انتحار أمة بكاملها. فقد اكتوينا بنيران الحروب ودفعنا ثمن الخلافات والنزاعات دماً ودماراً ونكاد نخسر الحاضر والمستقبل بسبب غياب العقل وتواري الحكمة وضياع الحق وتجاهل الحقائق ورفض الاعتراف بالواقع والإصرار على ضرب المصالح الحيوية الواحدة تلو الأخرى. إنها حالة تشبه اللعنة التي أصابت كل مفصل من مفاصل الأمة لتسود الفرقة في عصر نجد فيه العالم كله يتجه للوحدة والتعاون والمشاريع المشتركة بغض النظر عن الخلافات والاختلافات العرقية والقومية ورواسب التاريخ وجراح الحروب. لعنة أصابت أبناء الأمة الواحدة والدين الواحد والأديان السماوية، وأهلنا في الأرض الواحدة السخية التي استوعبت كل الأعراق والشعوب ووحدتها وصهرتها في قالب فسيفسائي جميل عبر العصور. حتى مفهوم العروبة لم يكن يحمل طابعاً قومياً ولا شوفينياً ولا عرقياً فكل من أقام على هذه الأرض هو عربي وكل من تحدث بلغتها هو عربي لا فارق ولا تمييز ولا ظلم ولا كراهية ولا أحقاد بل تعايش ووفاق وتسامح. فقد عاش الجميع كالأهل والأخوة وارتبطوا بوشائج الدم والنسب والمصالح: المسلم والمسيحي والعربي والكردي والبربري والأفريقي وانضم اليهم الأرمن والسريان وحتى اليهود كانوا جزءاً من هذا النسيج الموحد قبل أن تزرع إسرائيل في خاصرة العرب وتسهم الصهيونية، ومعها أخطاء البعض، في تهجيرهم أو هجرتهم الى الكيان الدخيل. أما اليوم فإننا نجد باب الفتن مفتوحاً على مصراعيه فصرنا نسمع عن أكراد وعرب وبربر وسنّة وشيعة وعن مسيحيين ومسلمين، ومتطرفين ومعتدلين كما نسمع عن خطوط دم وفرقة وتشرذم بين الأوطان وداخل المجتمعات بل امتد السرطان الى العائلة الواحدة والأحياء المتجاورة. وبكل خجل أطرح هذه القضية... وبكل أسف أقدمها بصراحة وبلا لف ودوران بعد أن بلغ السيل الزبى ووصل الأمر الى حافة الخطر وتعدّى الخطوط الحمر لأذكِّر بالماضي لعل الذكرى تنفع... وأدق ناقوس الخطر لعل التحذير يسهم في الدعوة لليقظة والنهوض من أجل وأد الفتن ونزع صواعق التفجير ومساهمة الإعلام في جمع الكلمة ووقف مؤامرة التفتيت. والاعتراف بوجود العلل يشكل بداية طريق العلاج ومن بعده يأتي البحث عن المخارج والحلول وتصحيح المسار وطرح جميع القضايا بشفافية وتجرد بعيداً من التعصب والفردية والأنانية والحساسيات ورواسب الماضي والشروط المسبقة فالحاجة ملحة للمصارحة والمصالحة والتسامح قبل فوات الأوان. * كاتب وصحافي عربي