هل يستأهل لبنان كل الذي جرى له وما تعرض له من حروب ومآس وتهديم وشروخ وخلافات وأزمات؟ وهل يتحمل الشعب اللبناني المزيد من الأزمات والأحقاد والفتن؟ ومن أجل ماذا؟ سلطة وحكم وسيطرة ونفوذ ومال وجاه؟ وهل ينجو لبنان هذه المرة من الانهيار المحتم في حال عدم تجاوز المحنة الراهنة؟ وهل يكفي أن نقول مبروك عند انتخاب الرئيس العتيد لنقفل الملفات ونعتبر أن كل شيء حُلَّ وانتهى؟ انها أسئلة ملحة مطروحة في كل مكان داخل لبنان وخارجه، ومن لبنانيين وعرب وأجانب، بينهم من أحب هذا الوطن الأسطوري الصغير بحجمه والكبير في دوره ومعانيه، ومنهم من له مصالح ومطامع ومطامح، ومنهم من يتسلل منه رغبة في موطئ قدم وسعياً الى نفوذ ودور أو الى مواقع أخرى ويستغله لأغراض في نفس يعقوب. ونحن الذين أحببنا لبنان وآمنّا بدوره وبرسالته التي تحدث عنها البابا الراحل لا نملك إلا الدعاء له بالخروج من محنته والدفاع عنه بأقلامنا وفكرنا وتوجيه رسالة حب اليه نابعة من القلب لأنه ليس في أيدينا سوى سلاح المحبة والقلم، أما الأسلحة الأخرى فهي خارجة عن إرادتنا وموزعة على أصحاب العلاقة المباشرين وغير المباشرين بالأصالة والوكالة. واختياري للرومانسية في هذا المقال نابع من الإيمان بأن كل شيء يمكن حله بالمحبة والإخلاص والوفاء لهذا الوطن الفريد الذي قدم الكثير لمواطنيه ولإخوانه العرب وقضاياهم الوطنية والإنسانية بل لكل من لجأ واحتمى بجناحيه الحانيين... قدم العلم والأدب وحقوق الإنسان والتعددية الحضارية والدينية وأمثولة التعايش الحضاري والإنساني والطب والرعاية والمقاومة الوطنية والدروس الديموقراطية. وأعطى الأمثولة في الحريات، ولا سيما حرية الرأي وحرية الصحافة والإعلام، وقدم الملجأ الآمن لكل من اكتوى بنار الظلم والديكتاتورية وانتهاكات حقوق الإنسان وحارب مع العرب ومن أجلهم ونيابة عنهم على رغم ضعفه وشح إمكاناته وظروفه المعقدة والحساسة. وآن له أن يرتاح بعد أن أدى قسطه للعلى. ولهذا تكتسب هذه الأسئلة مشروعيتها وتضفي أجواء من الحزن والألم والأسى على كل من يطرحها ويضع يده على قلبه خوفاً على لبنان... ثم خوفاً على مصيره ومصير المنطقة ككل ومصير كل عربي، لو تطورت هذه الأزمة وتحولت الى حرب تفرخ حروباً وفتناً طائفية وتقسيمية وصراعات دموية وتهجر من بقي من خبرات وأدمغة وأيد عاملة وشباب. فهل تنقشع الغمامة وتهدأ العاصفة ويتجاوز لبنان الأزمة العميقة بعد سنة العذاب وسنوات الصراع والحروب؟ وهل ينجح في استغلال الفرصة المتاحة التي يراهن الكثيرون على أنها الفرصة الأخيرة له ككيان وكوطن وتعايش ووحدة وطنية؟ لا شك أن انتخاب رئيس للجمهورية يعتبر خطوة واحدة مهمة ونقلة موضوعية جيدة نحو مسيرة طويلة لا بد أن تتبعها خطوات كثيرة أخرى للوصول الى شاطئ الأمان، خصوصاً أن العماد ميشال سليمان شخصية حيادية عاقلة ومتزنة نجح في إنقاذ الجيش الوطني من مطبات وأفخاخ كثيرة وسار به الى طريق الحكمة والمرونة وأثبت أنه أهل لتولي المسؤولية بعد سلسلة التجارب والامتحانات التي اجتازها بنجاح. ولكن هذا لا يكفي فالطريق طويل ومزروع بالألغام والمطبات، ومحكوم بالكثير من العقد والمخاوف والخلفيات والأبعاد والمواقف الوطنية والحزبية والطائفية والداخلية والإقليمية والدولية، ومسؤولية الرئيس العتيد كبيرة في إعادة دور الرئاسة كحكم وراع للحوار والتوازن وصمام أمان وحماية الوطن والدستور. ولهذا لا بد من مبادرات عملية أولية تساعد على تحصين السلم الأهلي وإزالة الصواعق المتعددة الأشكال والألوان واشراك الأفرقاء والأطياف كافة في مشروع انقاذ وطني قبل فوات الأوان وغرق المركب بهم جميعاً. الخطوة الأولى نفسية وإعلامية تقضي بمساهمة الجميع في تصفية النيات وتنقية النفوس من شوائب المرحلة السوداء المظلمة وكل ما حملته من قبح وشتائم واتهامات متبادلة وأحقاد، وزرعت في نفوس المواطنين وحوّلتهم الى قنابل موقوتة تنفجر في أي لحظة، لتنشر الكراهية والفتن وتشعل نار حروب مذهبية وطائفية تأكل ما تبقى من الأخضر واليابس وتدمر لبنان في شكل نهائي. ودور الإعلام في هذا المجال كبير وأساسي وحيوي إذ أن عليه أن يسارع الى تعديل سياسته وتطوير أسلوبه والكف عن دور أداة التحريض والاستغلال من قبل السياسيين والقادة، فقد صدمت كغيري، من ممارسات وأساليب طغت على الشأن الإعلامي في الفترة الماضية، بعد تحول معظمه حتى لا أعمم الى أبواق وإدارات للردح والشتم والقدح والذم وإثارة الغرائز وتجييش المواطنين، وراء هذا الحزب أو ذاك الزعيم، من دون أن يرف جفن لمن يلعب هذا الدور أو أن يستشعر مدى خطورة ما يُقدم عليه وما يطاله من مسؤولية في التحريض على الفتن وتشجيع الشباب على الكراهية والاستعداد لما هو أدهى وأعظم، ومن دون أن يدرك أن المحرض مشارك في الجريمة ومسؤول عن حمل تبعاتها ونتائجها المدمرة على الوطن والمواطن. ولا بد أولاً من تهدئة شاملة وكاملة على المستوى السياسي والإعلامي، ولا بد من هدنة ثابتة بين مختلف الأفرقاء مهما كانت الخلافات، ومهما كانت المطالب محقة وعادلة، فلبنان أولاً وثانياً وعاشراً وأمن المواطن واستقراره وأمانه لها الأولوية المطلقة مهما كانت المبررات. وبعد التهدئة تأتي المعالجة الحكيمة ورحلة البحث عن الحلول وأساليب المعالجة، بعيداً عن التشنج والمزايدات والمكابرة والعناد ومنطق التخوين والعزل والأنانية والتفرد. فلا أحد يستطيع التفرد بالحكم وحده ولا طائفة تستطيع أن تبعد طائفة أخرى ولا زعيم يستطيع أن يختصر الوطن في شخصه ولا طرف يستطيع أن يزعم أنه انتصر. ففي اطار الحكمة والتعقل والموضوعية والمرونة والتضحية والتفاني من أجل مصلحة الوطن وحماية السلم الأهلي يمكن البدء بحل كل المشاكل والخلافات مهما بلغت تعقيداتها وصعوباتها. وباعتماد المصلحة الوطنية يمكن تأمين الالتفاف حول الوطن وإيجاد حلول لقضايا شائكة مثل الحكومة والحصص والسلاح والمقاومة والعلاقات العربية والأجنبية، ولا سيما العلاقات مع سورية، وإزالة أجواء التشنجات التي خيمت على سماء البلدين. والأهم من كل ذلك، أن فرصة النهوض الاقتصادي قد تضيع نهائياً، في حال عدم عودة لبنان الى الاستقرار للعب دوره المنشود، فقد أضاع فرصة الطفرة النفطية الأولى في السبعينات والثمانينات بسبب حربه المدمرة، وها هو يكاد يضيع فرصة الفورة الثانية بسبب الأزمة الراهنة وتضيع معها إمكانات حل مشكلة الديون المتراكمة وإصلاح الوضع الاقتصادي المتعثر. وقد يقول قائل إن كل هذا الكلام عاطفي وخيالي، ولكني أرد عليه بالجزم بأن لا مخرج للبنان إلا باتباع هذا النهج العقلاني والسير في هذا الطريق الإنقاذي، ولنا أسوة بالقادة والزعماء الوطنيين اللبنانيين الذين كانوا يختلفون ويواجهون الأزمات الصعبة والحالات المستعصية ويتبادلون الاتهامات ولكنهم كانوا يضعون خطوطاً حمراً لم يتجاوزوها أبداً ويلبون نداء الواجب لإنقاذ البلاد وحماية العباد، عندما يحسون بالخطر الداهم ويتنادون لاجتراح الحلول وانقاذ مسيرة التعايش والتوافق بلا شتائم ولا تجريح ولا تخوين ولا تكفير ولا خروج عن المألوف ولا تجاوز للقيم والأخلاقيات. كما كان رواد الصحافة والإعلام أول من يبادر الى وأد الفتن والمساهمة في إشاعة أجواء المحبة والتسامح على رغم ما كانوا يواجهونه من حروب متبادلة وحملات وما يختلفون فيه في السياسة و"عداوة الكار"وصراعات الساسة في الداخل والخارج. لكنهم كانوا يتسامون فوق الخلافات والصغائر عندما يرون وطنهم يواجه أخطاراً محدقة ويلتفون حوله ويؤدّون رسالة أشرف مهنة. هذه هي رسالة الإعلام الحقيقية ومهنة الصحافة الشريفة، رسالة خير ومحبة وتسامح ووحدة وتضامن ومواجهة الفتن، ليست في نقل الأخبار والمعلومات بصدق وموضوعية فحسب ولا في إبداء الرأي وتبني المواقف، وهذا حق مقدس، بل أيضاً في المبادرة الى الدعوة لتوحيد الصفوف ورأب الصدع وبذل الجهود من أجل خير الناس وحماية المجتمع وصون السلم الأهلي والدعوة للعمل المثمر والبناء، وإشاعة أجواء الأمن والأمان والاستقرار وتجنب إثارة الغرائز وتأجيج المشاعر ونشر الأحقاد الاجتماعية والدينية والمذهبية والطائفية، وصب الزيت على النار. أما رسالة السياسيين وكل من يعمل في الشأن العام فهي تتعدى موجبات السلطة والمعارضة وغرائز شهوة السلطة والجاه والمال، وتتجاوز الشؤون الحزبية والدينية والطائفية، بل هي تصل الى مرتبة الرسالة الوطنية والروحية. إنها رسالة الحكمة والتضحية والمرونة وفتح الأبواب المغلقة وتجاوز الحساسيات والأنانيات والتحزب الأعمى والتعصب القاتل والتطرف المدمر، رسالة المحبة، محبة الوطن ورعاية المواطن. ولنا أسوة وقدوة بالزعماء الوطنيين الذين أشرت اليهم رغم كل ما قيل ويقال عنهم. وأختار هنا اليوم زعيماً بارزاً منهم لعب أدواراً انقاذية في الليالي الظلماء التي نشهد منها الكثير هذه الأيام ونفتقده فيها، وهو الرئيس الراحل صائب سلام صاحب شعارات وطنية رائعة مثل:"لا غالب ولا مغلوب"، و"التفهم والتفاهم"، و"لبنان واحد لا لبنانان"و"المؤمن لا ييأس". وقد وجدت في أرشيفي مجموعة من تعليقاته وآرائه الحكيمة اختار منها هذه الإضاءات لعلها تنير طريق أهل الحل والعقد في حاضرنا المظلم وهي: * علينا أن نعمل على إنقاذ الحرية لكي ننقذ هذا الوطن. * لا ديموقراطية سياسية من دون الديموقراطية الاجتماعية. * من رعى غنماً في أرض مسبّعة ونام عنها تولّى رعيها الأسد. * إن الوحدة الوطنية لا تقوم على الفساد ولا يستقيم لها أمر في أجواء الفوضى والفضائح والمخازي. * المسؤولية هي التحسب والمعرفة والمصارحة والجرأة والبطولة. * التفهم والتفاهم يبقيان الصيغة الوحيدة الكفيلة عندما تسلط عليها قوى العقل والرؤية والمصلحة العامة لحلّ جميع الأمور. * لبنان يعيش على المحبة وعلى الحرية، ولا يمكن أن يكون لبنان من دون المحبة والحرية. * لا يجوز أن يبقى مظلوم نكون عنه مسؤولين، فالسكوت عن الظلم هو أشد من الظلم. * الواجب يدعونا بإلحاح غريب في هذه الظروف أن نحتضن كل الظواهر الشابة وأن نفهمها وأن نحلل دوافعها وأن نتعامل معها بمحبة مقربة وليس بإدانة مبعدة، أن ننظر اليها بعين الرحمة والعطف لا أن يُحكم عليها من موقع الغضب والترهيب. * المؤامرة التي حيكت ضد لبنان هي مؤامرة على الأمة العربية بأسرها وعلى سلامتها وأمنها القومي واتخذت لها من لبنان منطلقاً لضعفه وساحته السائبة. واذا استمرت هذه المؤامرة الخبيثة من دون وعي كامل وفاعل عند قادة الأمة العربية والعمل على صدها، فيا ويل لبنان ويا ويل الأمة العربية. فإسرائيل ستنقل حتماً استراتيجية التفتيت هذه الى البلاد العربية بلداً بعد بلد. وهناك الكثير الذي يقال ويتردد من حكم لمعالجة أزمة لبنان وأي أزمة في عالمنا العربي مهما طالت واشتدت وتعقدت... فالتسامح يمحو الأحقاد، والوطنية تزيل كل ما علق من شوائب، والمرونة تفتح الأبواب المغلقة، والمحبة تحيي القلوب وتمسح البغضاء،"وشعرة معاوية"تصبح حاجة أساسية للتفهم والتفاهم والكف عن العناد والمكابرة والمزايدات. وما دمنا في سيرة الحب فيا ليت رجال السياسة والحكم يستمعون الى صوت الوطنية الحقة المنبعث من قلوب الفنانين والأدباء والشعراء الذين تغنوا بلبنان وبينهم من غير اللبنانيين مثل نزار قباني وغادة السمان وعمر أبو ريشة والجواهري. فمن يلبي نداء فيروز والرحابنة في"بحبك يا لبنان"وغيرها ويسمع شدو وديع الصافي في"لبنان يا قطعة سما"ويتغنى بقصائد سعيد عقل التي يوصل فيها لبنان الى المجد والخلود؟ ومن يحتكم الى شعر نزار و"يا ست الدنيا يا بيروت"ونصيحته للبنانيين وغيرهم في قوله: كل ما يريده لبنان منكم أن تحبوه... أن تحبوه قليلاً. وعندها نستعيد معاني مقولة"نيال من عنده مرقد عنزة في لبنان"! * كاتب عربي