الجنرال أقرايم هليفي الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي والرئيس السابق لجهاز الاستخبارات "الموساد" أخبر لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في تموز يوليو 2003 عندما كان يشغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي أن الحكومة أقامت لجنة وزارية خاصة برئاسة رئيسها آنذاك أرئيل شارون يشكل المجلس القومي طاقمها التنفيذي، لمناقشة قضايا تتعلق بالوسط العربي في إسرائيل حيث "أن السنتين المقبلتين ستنطويان على أهمية كبرى بالنسبة إلى العرب في إسرائيل، وسيكون في الإمكان خلال هذه الفترة دراسة كيفية تعاملهم مع هويتهم". أربع سنوات بعد ذلك وليس سنتين والمدة طالت نظراً لانشغال إسرائيل بتبعات أو صدمة فك الارتباط والانسحاب الأحادي من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية ورحيل أرئيل شارون عن المسرح السياسي والحزبي ثم حرب لبنان الثالثة وما تركته من تداعيات هائلة على الداخل الإسرائيلي... يعود مسؤول أمني آخر هو رئيس جهاز الأمن العام"الشاباك"يوفال رسكين إلى الحكومة هذه المرة وليس إلى الكنيست، ليبلغ رئيسها في اجتماع رسمي أن المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 بعيدون عن الطابع اليهودي للدولة ويشكلون تهديداً استراتيجياً على وجودها ويتماثلون ويتساوقون في الفترة الأخيرة مع محافل معادية من وجهة النظر الإسرائيلية مثل"حماس"وپ"الجهاد الإسلامي"وحزب الله وسورية. رئيس الشاباك رد بصلف على استفسار صحيفة"فصل المقال"عن الموضوع قائلاً إن جهازه سيقوم بإحباط أي نشاطات عربية تهدف إلى تغيير الطابع اليهودي والصهيوني لإسرائيل، وإن كانت تلك النشاطات تتم بوسائل وأساليب قانونية وغير محظورة. مواقف وتوجهات ديسكين وجدت تعبيرات وتجليات لها في اعتقال ومحاكمة الشيخ رائد صالح، وفي ما بات يعرف بقضية أو ملف رئيس حزب التجمع الوطني الديموقراطي عزمي بشارة، وهي تكرس مرحلة جديدة في التعاطي الإسرائيلي الرسمي مع المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وتمثل تجسيداً لمفترق الطرق الذي بلغته العلاقات بين اليهود والعرب داخل دولة إسرائيل. بحسب تعبير عوزي بنزيمان المحلل السياسي لصحيفة هآرتس 12-4-2004. للتوضيح أكثر، يمكن الإشارة إلى أن المرحلة الأولى في العلاقات بين عرب 1948 والسلطات الإسرائيلية امتدت إلى ثمانية وعشرين سنة تقريباً أي من العام 1948 الذي شهد نكبة فلسطين إلى العام 1976 الذي شهد الانتفاضة الشعبية والجماهيرية التي باتت تعرف ب"يوم الأرض"، وخلال هذه الفترة تعرض عرب 1948 لشتى أنواع الاضطهاد والتمييز وخضعوا لحكم عسكري قاس ووحشي امتد إلى عشرين سنة تقريباً، وحتى بعد رفعه استمرت سياسة التهميش والاقتصاد والتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو الدرجة الثالثة حيث يمكن اعتبار اليهود الشرقيين:"السفرديم"يهود الدرجة الثانية وفق الواقع العنصري الذي ساد إسرائيل خلال تلك الفترة. رد فعل عرب 1948 لا ينظر إليه بأنه خضوع أو استكانة بل يمكن إدراجه في سياق الأمل والإيمان بصدق التهديدات العربية الرسمية بأن زوال دولة إسرائيل وإلقاء اليهود في البحر ليس سوى مسألة وقت. نكسة 1967 بددت هذا الحلم أو الأمل بالانعتاق من الاحتلال الإسرائيلي وبرد عربي ملائم ومناسب على النكسة، وهذا الأمر ولد صدمة لدى عرب 1948 سرعان ما زالت مع اندلاع الثورة الفلسطينية والانتصار العربي في حرب تشرين أول أكتوبر 1973 ولا يمكن فهم يوم الأرض إلا في هذا السياق: اعتماد عرب 1948 على أنفسهم في مواجهة آلة القمع الإسرائيلية، وتعبير عن اقتناع في ضرورة المشاركة في الثورة الفلسطينية بحثاً عن الاستقلال والانعتاق من السيطرة الصهيونية. المرحلة الثانية في العلاقة بين عرب 1948 وآلة القمع الإسرائيلية امتدت إلى سبع وعشرين سنة تقريباً أي بين العام 1976 وإلى العام 1993 الذي شهد توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية آنذاك بزعامة أسحق رابين، وخلال هذه الفترة قاوم عرب 1948 سياسات التمييز بمزيد من الصمود والتمسك بالأرض وبمزيد من الإيمان بقدرة الثورة الفلسطينية على تحقيق الآمال والطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني، باعتبارهم جزءاً أصيلاً ومكوناً أساسياً من مكوناته. اتفاق أوسلو كان بمثابة المأساة لأنهم فهموه على أنه تخل من منظمة التحرير عنهم وتركهم لمصيرهم في مواجهة السلطات الإسرائيلية وآلة قمعها التمييزية. حتى هذه الصدمة لم تكسرهم بل كسرت المرحلة الثالثة في العلاقة مع الدولة العبرية، مرحلة التعايش مع الواقع والإقرار بأنهم مواطنون من الدرجة الأولى وأصحاب الأرض الأصليون، والعمل بجد لتحسين أوضاعهم المعيشية من ناحية والاستمرار في التصدي لسياسة الاسرلة والمطالبة بحقوق المواطنة الكاملة مع حفظ الروابط الوطنية والقومية مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وكذلك مع الشعوب العربية المجاورة. عزمي بشارة ورائد صلاح رمزان ساطعان لهذا التوجه، إضافة إلى عمل وجهد دستوري وقانوني وجماهيري قام به عديد من منظمات المجتمع المدني العربية والإسرائيلية الديموقراطية واليسارية، تمخض عن انتاج ثلاث وثائق تحدد تصور العرب لشكل علاقتهم مع المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، هذه الوثائق هي: ملف النقاط العشر جمعية مساواة، التصور المستقبلي لجنة المتابعة العليا، الدستور الديموقراطي منظمة عدالة، وتجمع الوثائق على تمسك عرب 1948 بكونهم أهل البلاد الأصليين ورفضهم التساوق مع الطروحات الصهيونية واليهودية لإسرائيل وإصرارهم على ضرورة أن تمثل الدولة جميع مواطنيها بكل ما للكلمة من معنى. الرد الإسرائيلي على الوثائق ينقلنا مباشرة إلى المرحلة الرابعة من العلاقة التي ظهرت في تصريحات رئيس الشاباك والقرار بملاحقة المناضل والمفكر عزمي بشارة. قبل الحديث عن أهم ملامح المرحلة الرابعة لا بأس من إلقاء نظرة على خلفيات الموقف الإسرائيلي بفتح النار والخروج في معركة ضد عرب 1948 وتصوراتهم السلمية وإن كانت غير خارجة عن القانون. يجب الانتباه إلى الفراغ القيادي والزعامي الذي يعصف بإسرائيل منذ غياب أرئيل شارون - آخر القادة العظماء والكبار بالمفهوم الإسرائيلي ومن المفهوم أن هذا الفراغ يترك الفرصة لأصحاب الرؤوس الحامية وللتصرف وفق غرائزهم عن ذلك ثمة شعور بالهزيمة وفقدان قدرة الردع الإسرائيلية تجاه الفلسطينيينواللبنانيين والمحيط العربي الإسلامي في شكل عام، وطالما أن الجيش عجز عن استعادة القدرة وتحقيق الانتصارات على الأعداء، فلا بأس من إعطاء الفرصة لجهاز الشاباك لتحقيق الانتصار وإن كان وهماً وخادعاً وتجاه أشخاص يمارسون عملهم وفق القانون الإسرائيلي. أما بالنسبة إلى طابع المرحلة الرابعة فإنها تشبه في شكل كبير المرحلة الأولى مع اختلاف في الأساليب متعلق بالمتغيرات المحلية والدولية، وفيما أن من الصعوبة بمكان وربما من الاستحالة إعادة فرض الحكم العسكري على العرب فلا بأس من إطلاق يد الشاباك لتخويفهم وحياكة الملفات شبه القانونية ضدهم، مع استنفار سياسي وإعلامي يغطي الحملة الأمنية بقناع فكري وإيديولوجي، من زاوية ان إسرائيل هي تعبير عن حق اليهود في تقرير مصيرهم والعيش ضمن دولة يهودية ديموقراطية ومع مزاعم بأن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني يتحقق فقط عبر دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وهي الدولة التي تعمل حكومة إسرائيل الضعيفة والمتطرفة على منع تشكلها وفق وقائع ميدانية بالتهديد والاستيطان ومصادرة الأراضي وبناء جدار الفصل العنصري ورفض التفاوض السياسي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تمثل أكثر من تقطيع للوقت. في العام 1969 تنبأ الفيلسوف الإسرائيلي يشيعاهو ليبوفيتش ان الاحتلال العسكري للأراضي المحتلة عام 1967 سيؤدي إلى انهيار دولة إسرائيل وتآكلها كدولة ديموقراطية يهودية، وأنها ستتحول في النهاية إلى دول شاباك، يتحكم هذا الجهاز بمفاصلها الرئيسة. هذا الأمر يتحقق، وبحسب الوزيرة السابقة شالاميت ألوني فإن قادة الشاباك غالباً ما هددوها بسبب نشاطها الديموقراطي المتعلق بحقوق الإنسان، قائلين لها إن لا أحد يمكنه الحيلولة دون حياكة ملف ضده. سطوة الشاباك هذه ستكشف حتماً عن وجه إسرائيل الحقيقي دولة عنصرية قائمة على سياسة الفصل العنصري ليس فقط ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وإنما أيضاً ضد عرب 1948 المفترض أنهم مواطنون في دولة تدّعي الديموقراطية وانها واحة خضراء في صحراء المنطقة القاحلة. * كاتب فلسطيني - مدير مركز شرق المتوسط للصحافة والإعلام