ستون عاماً مرت على مأساة اللاجئين الفلسطينيين وكل عام إضافي، بل كل يوم يزيد على تاريخ النكبة يحمل صعوبات وتعقيدات تقلل من أمل العودة بعدما تمكن الطغيان الإسرائيلي، محلياً واقليمياً ودولياً، من رفض البحث في أي صيغة للسلام مع العرب تتضمن الإشارة إلى حق العودة، علاوة على تمسك إسرائيل بضم القدس كلها إلى دولتها وتجاهلها المستمر لمبدأ الانسحاب من الجولان السوري ومزارع شبعا اللبنانية، مناقضة جميع قرارات الشرعية الصادرة بعد 1948، ومنها القرار رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين، فصار الحل المنشود لإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي والمتمثل بالمبادرة العربية الصادرة عن قمة بيروت عام 2002 والمتجددة في قمة الرياض الأخيرة، يصطدم بالتعنت الإسرائيلي مدعوماً بالتحالف الغربي الذي تتزعمه الولاياتالمتحدة داخل مجلس الأمن الدولي، وصار العرب المنفتحون على السلام لتجنب كوارث الحروب التقليدية - وربما النووية - في الشرق الأوسط، واستطراداً، في العالم بأسره، هم العرب الذين ينظر إليهم الغرب على أنهم معتدلون، وأصدقاء له، وهم الذين يقعون تحت احراج ضميري ووطني وقومي وإنساني تاريخي لا يفهمون معه كيف تزداد أخطاء الغرب القاتلة، وكيف يتمادى زعماؤه وزعماء إسرائيل معه، في جر العالم بقاراته الخمس نحو حالات من الاضطراب والعنف، والإرهاب بالتالي، هذا الإرهاب الذي بدأ يخيم على نصف الكرة الأرضية ونصف سكانها. والمقارنة بين اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين العراقيين تحمل على الكثير من أوجه شبه، علماً بأن القضية العراقية بدأت تتحول لما هو أخطر من القضية الفلسطينية حاضراً ومستقبلاً... واللاجئون الفلسطينيون المقيمون حالياً داخل البلدان العربية أو داخل بلدان أخرى، هاجروا إليها مع تطورات المحنة وآلامها، يساوي عددهم ربما - والاحصاءات غير دقيقة - حوالي ثلاثة ملايين مواطن، أي ما يعادل تقريباً عدد المقيمين تحت الاحتلال بين غزة والضفة الغربية، من دون اغفال فلسطينيي الداخل المعتبرين مواطنين إسرائيليين من الدرجة الثانية أو الثالثة، بينما كان عددهم مع بداية النكبة لا يتجاوز المليون توزعوا بين الأردن وسورية والعراقولبنان، وباتت الأزمات التي رافقت مراحل غربتهم حافلة بالنتائج السلبية عليهم في البلدان المضيفة، ولا يُعزيهم غير الأمل الضئيل بالعودة بعدما وضعت إسرائيل اليد على ممتلكاتهم مستندة للقوة العسكرية المتفوقة، لضرب مقاومتهم ومحاولة القضاء عليها. وهذا الجانب من المعضلة الفلسطينية، الذي يعرفه العرب والعالم بشكل عام، يخفي جانباً آخر أشد خطورة، ولا تقتصر دواعيه الاجرامية ضد العرب والمستقبل العربي الذي تحاول القمم العربية انقاذه من اطماع الأعداء الحاقدين على القيم العربية والمبادئ العربية السمحاء، المستمدة من تراث عربي خالد يدعو للتسامح والعطاء والوفاء والتقارب مع الشعوب والثقافات، بل تمتد اقليمياً لاصطناع أزمات دولية كاذبة، غايتها تفتيت المجتمعات العربية وتقسيمها وزرع الفتنة الطائفية والعنصرية فيها، عن طريق توسيع الجبهات المعادية والمتناقضة، كما حصل في لبنان عام 1975، استناداً إلى مقدمات 1958، وكما حصل في العراق عام 2003، بعدما جرّ أصحاب المؤامرات الأجنبية على العرب نظام صدام حسين لخوض حرب يائسة ضد إيران عام 1980 وحرب انتحارية أخرى تمثلت بغزو الكويت عام 1990، تمهيداً لوضع اليد على مقدرات العراق الحضارية والبشرية والطبيعية من ثروات نفطية وسواها، وهي مغامرات خسرها نظام صدام حسين أمام التهم المصطنعة التي وجهت إليه، تبريراً لإسقاطه، وما بدأ يراه العالم، وتراه واشنطن خصوصاً، من سوء فهم للعالم العربي والإسلامي أو من سوء تقدير للنتائج التي بدأت تهدد النظام السياسي الأميركي نفسه بين جمهوريين وديموقراطيين، وهو تهديد استطرادي يسيء للنظام الكوني كله إذا لم تعرف واشنطن كيف تصحح سياستها الخارجية منعاً لاحتمال هزيمة كبرى تحل بالسياسة الأميركية فتصيب سياسة أنظمة كثيرة بسببها... وبالعودة إلى المقارنة بين القضيتين الفلسطينيةوالعراقية، من زاوية تهجير المواطنين إلى الخارج، لا بد من القول إن ازدياد عدد اللاجئين العراقيين حتى اليوم عن اللاجئين الفلسطينيين، راجع الى زيادة عدد سكان العراق عن سكان فلسطين يومذاك، بحيث أنه إذا بدأ عدد الفلسطينيين المشردين عن بلدهم بحوالي مليون شخص عام 1948، فإن عدد العراقيين المشردين البالغ حالياً نحو ثلاثة ملايين يتوزعون بين سورية والأردن، وربما تركيا، وداخل المناطق العراقية نفسها، استعداداً لتدبير إمكانات الخروج هرباً من الموت بالأسلحة المذهبية والطائفية وما يتفرع منها عند جميع طبقات الشعب العراقي المنكوب، هذا العدد من العراقيين المرشح للارتفاع مع الارتفاع الجنوني للعنف اليومي والعمليات الانتحارية المنظمة بدقة واضحة يصعب الاقتناع بأن القوات العسكرية الحليفة الموجودة في العراق والعاجزة عن ضبط الأمن غير ملمة بحقيقتها لفضح مدبريها ومنفذيها ضد الأبرياء، طالما أن الرأي العام العربي والأميركي - والدولي تأكيداً - يخشى أن يبقى السكوت عن هذه الأوضاع تمويهاً وتمهيداً لاتساع موجات التشريد والهجرة واللجوء، فيصبح المشهد العراقي بارز النتائج كما يلي: خطة داخلية تقسيمية تعتمد العنف والقتل لاخراج المواطنين من منازلهم وقراهم ومدنهم، لاحلال مواطنين آخرين بدلاً منهم تتفق أوصافهم مع ما هو مطلوب من ترسيخ دويلات طائفية بغيضة تتعارض اتجاهاتها مع أبسط المبادئ الإنسانية ومع أهم قواعد الشرعية الدولية، حيث تخضع أكثريات من المواطنين الشرفاء غير المتعصبين لأقليات معروفة من الميليشيات المتعصبة المدربة من الخارج بغية تدمير واحد من أهم البلدان العربية تاريخاً وإمكانات نهوض وتقدم لصالح العرب وجميع شعوب الأرض معهم. ولئن كان عدد اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 يشكل ثلث عدد السكان الأصليين، مثلاً، فإن عدد اللاجئين العراقيين سيبلغ ثلث عدد سكان العراق، أي حوالي سبعة ملايين عراقي خلال عام واحد، في حال استمرت أوضاع العراق على هذا الوضع من التمزق الذي يصيب المجتمع العراقي ويصيب هويته المدنية من خلال انفجار الكراهيات المصطنعة قبل انفجار القنابل التي توسع اضرام النزاعات الحائرة أمام مشاريع فيديرالية أو كونفيديرالية لا تقدر دراسة سياسية على تصنيفها في ضوء مزاعم العولمة الرامية للتقريب بين الثقافات والشعوب، ولا يؤدي تطبيقها لغير زرع الفتن المهددة لكنوز التاريخ الإنساني أي للفضائل والمكارم التي تفوق أي مصلحة تجارية يسعى إليها الحكام الكبار أو الصغار. ومشكلة اللاجئين العراقيين التي لا تزال في بداياتها، والتي تفقد المجتمع العراقي ميزة أبنائه، لا يدرك أحد بعد كيف يمكن أن تنتهي إذا لم ينته الوجود العسكري الأجنبي بعودة الوحدة الوطنية السليمة لأبناء الشعب العراقي جميعاً، وقيام حكم وطني غير طائفي يواجه قضايا العصر بنظرة واعية تأخذ في الاعتبار مقومات الشعب واتجاهات أبنائه المشروعة، علاوة على الاعتبارات الاقليمية التي تفرض أن يدرك الحكم العراقي المطلوب قيامه كيفية التعامل معها حتى يسلم تعامله مع الدول الخارجية الأخرى. والأخطر في مشكلة اللاجئين العراقيين - إذا طالت وإذا استمر تدفقهم للإقامة والانتظار لدى الأشقاء أو الأصدقاء - هو أن يكون العراقيون اللاجئون أصحاب إمكانات مالية محدودة، تنضب مع الزمن، ليصبحوا عبئاً على اقتصاد البلدان المضيفة، مهما ضحت هذه البلدان لأجل الاشقاء والأصدقاء بدافع الروابط المصيرية والاعتبارات الانسانية، وعلماً بأن العدد الأكبر من اللاجئين تجاه هذه الحالات سيكون مؤلفاً من المنكوبين الذين فقدوا كل شيء وخرجوا بانتظار المساعدات. على أن ما هو أخطر من كل ذلك أن يتحول وضع اللاجئين العراقيين إلى أمر واقع طويل الأمد، بسبب انهيار الأوضاع العراقية، ويصير من الضروري انشاء صناديق دعم عربية لأجل غوثهم، أو من الضروري أن تهتم الأممالمتحدة بانشاء وكالة غوث جديدة للاجئين العراقيين أسوة بوكالة الغوث التي أنشأتها للاجئين الفلسطينيين، وهذا ينذر بوجوب اللجوء إلى الأممالمتحدة لاستصدار قرارات بعد قرارات، غايتها اثبات حق اللاجئين بالعودة إلى العراق، بينما تكون الدويلات العراقية المصطنعة التي يتم رسم حدودها الآن ضد الاعتراف بحقهم الطبيعي وتماماً مثلما حصل للاجئين الفلسطينيين مع إسرائيل، فلا يكون أمام العرب من مسؤولين ومواطنين غير توقع كارثة لاجئين أسوأ من كارثة اللاجئين الفلسطينيين، علماً بأن اللعبة الدولية التي نجحت في فلسطين، والتي يتم انجاحها في العراق، يمكن ان يشمل تطبيقها بعدئذ أقطاراً عربية أخرى. * كاتب لبناني