منذ صدور التقرير النهائي الذي أعدته "مجموعة دراسة العراق" وجرى نشره قبل نحو أربعة أشهر والنقاش السياسي داخل أميركا مستمر صعودا وهبوطا مع تطور الأحداث. لقد عكس ذلك التقرير توافقا لأول مرة بين الحزب الحاكم والحزب المعارض، حيث ضمت اللجنة في عضويتها خمسة عن كل حزب، الجمهوري والديموقراطي. وبعد دراسة جادة لتطورات المشهد العراقي انتهت المجموعة إلى 79 توصية تقترح على إدارة الرئيس جورج بوش الأخذ بها كمجموعة متكاملة. في حينه اختارت إدارة بوش المكابرة كالمعتاد مفضلة التصعيد العسكري في العراق، سواء بزيادة عدد الجنود الأميركيين أو بزيادة فترة بقاء العاملين في الخدمة هناك، وكذلك بطلب اعتمادات مالية إضافية من الكونغرس الأميركي، مع تهديد الرئيس جورج بوش مسبقا باستخدام حقه في النقض إذا ربط الكونغرس الاعتمادات المالية الإضافية بجدول زمني للانسحاب العسكري الأميركي من العراق. مجموعة دراسة العراق لم تطلب أصلا وضع جدول اعتباطي للانسحاب من العراق، بل لم تطلب أي جدول زمني محدد إلا ارتباطا بتقدم الوضع الأمني في العراق. وحتى في هذه الحالة فإن التفكير السائد هو أقرب إلى فكرة إعادة الانتشار العسكري أميركيا بأكثر مما هو أقرب إلى مبدأ الانسحاب الكامل من هناك. لكن التطور الأهم الذي حققه التقرير هو أنه فتح لأول مرة نقاشا سياسيا شاملا للمشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق من أساسه: هل كان صحيحا ولازما من الأساس؟ هل اعتمد على معلومات مغلوطة؟ هل تجاهل الوقائع الصحيحة واستبدلها بوقائع ملفقة؟ ومن الذين فعلوا ذلك وماذا كانت المصالح الحقيقية التي تحركهم؟ وأخيرا جاء السؤال الهائم من الأصل: من أضاع العراق؟ للسؤال أهميته في السياق التاريخي الأميركي لأنه يأتي على الوجيعة. فحينما نجح الشيوعيون في الاستيلاء على السلطة في الصين سنة 1949 كان هذا تحولا استراتيجيا جذريا في المشهد الآسيوي وفشلا بالقدر نفسه للسياسات الأميركية هناك، وهو ما بلوره النقاش السياسي الأميركي العام وقتها في سؤال جوهري: من أضاع الصين؟ التشابه في الحالتين - الصينوالعراق - ينتهي هنا، فكل حالة تختلف جذرياً عن الأخرى. لكن تبادل اللوم والمسؤولية بعد فوات الأوان هو الذي يظل سائداً. في الحالة العراقية قامت وزارة الخارجية الأميركية - خصوصاً أيام كولن باول - بإلقاء اللوم على وزارة الدفاع الأميركية حينما احتكر دونالد رامسفيلد لنفسه صياغة المشروع العراقي مع ديك تشيني نائب الرئيس. وزارة الدفاع - أيضا أيام رامسفيلد - ألقت باللوم على العسكريين الأميركيين، الذين ألقوا بدورهم باللوم على وزير الدفاع لأنه لم يوفر القوات اللازمة اعتمادا على تقدير خاطئ بأن الشعب العراقي سيقابل القوات الأميركية بالورود والأحضان. وكما لاحظ أحد الخبراء الأميركيين أخيراً فإن الإدارة الأميركية لم تذهب إلى غزو العراق من فراغ وإنما حصلت على تفويض كاسح بذلك من الكونغرس نفسه. تفويض جرى بأغلبية كاسحة من الجمهوريين والديموقراطيين معا بما لم يحدث حتى في حرب تحرير الكويت ولا في أي حرب أخرى في الصومال أو هايتي أو البوسنة أو كوسوفو. كذلك الإعلام الأميركي في مجمله احتشد وراء سياسة الإدارة، إما بحجب معلومات صحيحة عن الرأي العام أو بتضليله بمعلومات ملفقة روجت لها الإدارة. وحينما اعتذرت صحف كبرى لقرائها مثل"النيويورك تايمز"و"الواشنطن بوست"فقد كان هذا بعد الغزو بوقت طويل حيث أصبح الاعتذار غير مجد بحد ذاته ولم يعد مؤثرا على مجرى الأحداث. الآن في 2007 أصبح الديموقراطيون يحمّلون الجمهوريين مسؤولية الفشل في العراق، بينما يقوم الجمهوريون بإلقاء اللوم على العراقيين. وفي ما بين هؤلاء وأولئك يلقي المحافظون الجدد باللوم على المحافظين التقليديين. بينما يلوم هؤلاء المحافظين الجدد على خضوعهم للنفوذ الإسرائيلي ومسايرتهم الكاملة لبرنامجه. وخرج اثنان من كبار الأكاديميين الأميركيين بدراسة رصينة يسجلان فيها المدى الذي بلغه النفوذ الإسرائيلي على"المؤسسة"السياسية الأميركية، وهو ما جعل اللوبي الإسرائيلي يلاحقهما بهدف خنق صوتهما وقطع الطريق على دراسات مماثلة في الطريق قد تدفع إلى مراجعة بعض جوانب العلاقة الأميركية - الإسرائيلية. ما فجر كل هذه السلسلة من الأفعال وردود الأفعال، واللوم واللوم المضاد، لم يكن المشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق من حيث المبدأ، ولكن ارتفاع تكلفته عما كان مخططا له. في أحاديث التكلفة، وبالمنطق العملي المعتاد، يتوقف الأميركيون أولا عند الجانب المالي المتصاعد. فبعد مرور أربع سنوات من الحرب في العراق - وحسب"تقرير واشنطن"- فإن التكلفة الاقتصادية للحرب بلغت 400 مليار دولار. ومع نهاية السنة الجارية من المفترض أن تصل التكلفة إلى 500 مليار دولار، بما يزيد عن تكلفة الحرب في كوريا، وما يوازي تقريبا تكلفة 12 سنة من حرب فيتنام. كما أن الحرب في العراق تكلف الاقتصاد الأميركي خسارة ما يقرب من واحد في المئة من قيمة نمو الإنتاج المحلي. وعشية غزو العراق في سنة 2003 لم يتوقع الرئيس جورج بوش وإدارته أن تصل التكلفة حتى إلى ربع هذا المبلغ. بل إن الإدارة كانت قدرت موازنة الحرب بنحو 75 بليون دولار في مراحلها الأولى، لكنه بدأت منذ شهر نيسان ابريل 2003 في طلب موزنة إضافية تبلغ 54.4 مليار دولار، ثم بعدها بسبعة أشهر طلبت اعتمادا إضافيا آخر ب70.6 مليار دولار، ثم اعتمادا آخر وآخر، إلى أن طلبت في كانون الثاني يناير الماضي مئة مليار دولار أخرى، ليصل إجمالي تكلفة غزو العراق إلى 400 بليون دولار ترتفع في نهاية السنة الجارية إلى 500 بليون دولار. وبافتراض أن الغزو الأميركي للعراق توقف اليوم - وهو افتراض غير واقعي بالمرة - فإن التكاليف الإضافية مستمرة بما في ذلك تكاليف الرعاية الطبية وتكاليف العلاج للمحاربين المصابين في الحرب، وهو ما بدأت بسببه أزمة كبيرة بين وزارة الدفاع وجمعيات المحاربين القدامى. وفي دراسة حديثة شارك فيها جوزيف ستيغليتز أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل قدرت التكلفة الإجمالية للحرب في العراق بعد إضافة النفقات المستقبلية ب2 تريليون دولار. هناك أيضا دراسة ثالثة تشير إلى أنه بالمتوسط فإن كل اسرة أميركية ستتحمل عبئا قدره خمسة آلاف دولار من نفقات الحرب في العراق، وهو عبء لا يزال الإعلام الأميركي يداريه عن النقاش العام. هناك أيضا التكلفة البشرية الأميركية لغزو العراق وهي - حسب"تقرير واشنطن"مرة أخرى - تمثل 3223 جنديا أميركيا قتيلا حتى الذكرى الرابعة للحرب، اضافة الى 24042 جريحا حسب الإحصائيات الرسمية الأميركية، مع ملاحظة أن الضحايا من القوات الأميركية من غير حاملي للجنسية الأميركية لا يتم احتسابهم في هذه الأرقام الرسمية. الجانب الملفت حقا في كل ما سبق هو أن البيانات الرسمية الأميركية لا تتطرق بالمرة إلى الضحايا من العراقيين أنفسهم. وحسب دراسة لجامعة جون هوبكنز جرى الكشف عنها في شهر تشرين الأول أكتوبر الماضي فإن عدد القتلى في صفوف العراقيين منذ بدء الحرب بلغ 655 ألف شخص مع أن وزارة الصحة في الحكومة العراقية القائمة بحماية الاحتلال لا تعترف إلا بمئة وخمسين ألف قتيل منذ آذار مارس 2003 وكأن هذا يخفف من فداحة المأساة المروعة. مع ذلك تظل كل تلك الأرقام - بأعلاها وأدناها - مجرد جزئية واحدة في التكلفة الإنسانية الشاملة التي يتحملها الشعب العراقي. فمنذ الغزو الأميركي للعراق في آذار 2003 غادر العراق نحو أربعين في المئة من المهنيين كالأطباء والمهندسين والمدرسين والعلماء، وانخفضت نسبة طلاب المدارس والجامعات بصورة غير مسبوقة. ومع زيادة العنف الطائفي منذ شباط فبراير 2006 حينما جرى بفعل فاعل مجهول تفجير مزار شيعي في سامراء اضطر 425 ألف عراقي إلى مغادرة أحيائهم خشية الانتقام الطائفي. وقبل أيام قليلة تابعنا قيام مجهولين بتفجير جسر الصرافية في بغداد، وهو ما اعتبره البعض بداية مؤامرة أخرى لعزل شطري بغداد عن بعضهما البعض تحت شعارات طائفية. لكن التكلفة الإنسانية الأكثر شمولا - وبالتالي الأكثر ترويعا - فهي ما كشف عنه المؤتمر الدولي الذي عقد مؤخرا في جنيف في سويسرا وشارك فيه وزير الخارجية العراقي ووكيلة وزارة الخارجية الأميركية ومسؤولون أوروبيون و450 مسؤولا من 60 دولة. وحسب منسق الإغاثة الطارئة في الأممالمتحدة فإن"حوالي ثمانية ملايين عراقي في حاجة ماسة للإغاثة الإنسانية لأنهم يعانون من أزمة بقاء داخل بلادهم". ثم نأتي إلى ملف مستجد بالكامل، يتعلق بمن جعل الاحتلال الأميركي حياتهم مستحيلة فاضطروا إلى مغادرة العراق بحثا عن الأمن أو الرزق، أو كليهما معا. كانت الولاياتالمتحدة وعدت من قبل بقبول لجوء سبعة آلاف عراقي إليها، ثم رفعت الرقم مؤخرا إلى 25 ألفا. في التنفيذ لم تقبل حتى الآن سوى 420 لاجئاً عراقياً. أما بريطانيا، وهي الشريك الآخر في الغزو، فقد رفضت من الأصل قبول أي لاجئ عراقي. في المقابل قبلت سورية حتى الآن مليون لاجئ عراقي، والأردن 750 ألفا، ومصر 150 ألفا، وإيران 54 ألفا، ولبنان أربعين ألفا. هذا يعني مليوني لاجئ خارج العراق اضافة الى مليون و900 ألف نازح عراقي داخليا، اضطروا إلى مغادرة مناطقهم الأصلية ونزحوا إلى مناطق أخرى داخل العراق، مع ملاحظة أن الأكراد في إقليمهم في الشمال يرفضون قبول غير الأكراد، ونصف الأقاليم العراقية الأخرى ترفض قبول نازحين إليها ما لم يثبتوا ارتباطهم السابق بالاقليم. نحن إذن أمام تكلفة إنسانية مروعة للغزو الأميركي للعراق. وبحساب البشر فإن هذه التكلفة تتجاوز بمراحل ما جرى في فلسطين سنة 1948 بسبب الإرهاب والتهجير القسري. هذه التكلفة غائبة تماما عن البيانات الرسمية الأميركية. ولو حسبنا فقط تكلفة إعاشة مليوني لاجئ عراقي في دول الجوار حاليا فستتجاوز ألفي مليون دولار سنويا، وبدلا من ذلك تتحملها فعليا دول فقيرة أصلا بمستوى سورية والأردن. وكأنهما أصبحتا عمليا ضحيتين إضافيتين للغزو الأميركي للعراق. وفي مؤتمر جنيف الأخير كان كل ما وعد به وزير خارجية العراق هو أن تساهم حكومته بخمسة وعشرين مليون دولار لدعم احتياجات اللاجئين العراقيين في الدول المجاورة كل الدول المجاورة. أما السكرتير العام للأمم المتحدة فكل ما فتح الله به عليه هو أن يناشد الدول المجاورة للعراق فتح حدودها أمام المزيد من اللاجئين العراقيين. أما الغزاة أنفسهم - سواء بدأنا بالأميركيين أو انتهينا بالبريطانيين - فهم غير مشغولين بالمرة بهذه المأساة المروعة ولا يقتربون من سيرتها. هم مشغولون فقط بالغزو والذي منه: احتلوا العراق لأسباب ديموقراطية، ومستمرون في احتلاله لأسباب إنسانية. وقبل أيام قليلة أعلن روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي خلال زيارته للقاهرة انه لا يحترم أصلا من يعارض الوجود الأميركي في العراق. هو حر في رأيه، لكن الحقائق المروعة في أرض الواقع تسلك مسارا آخر. وعلى حد تعبير معلق بريطاني مؤخرا: كان مفترضا بحرب العراق أن تنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط، لكن أكثر نتائجها وضوحا حتى الآن هو أنها نشرت العراقيين حول العالم. هم منتشرون بحكم الضرورة وليس بدافع من الرغبة. فكأي مواطن آخر ليس في العالم كله ما يعوض المواطن العراقي عن بيته وأسرته ومدينته. إنما المشروع الإمبراطوري الأميركي كان واضحا من البداية: نريد العراق وليس العراقيين. وبتفكير المحافظين الجدد فربما يعتبرون هجرة ملايين العراقيين خارج بيوتهم ووطنهم إنجازا ملموسا أخذا بنظرية: بترول بلا شعب إلى شعب بلا بترول. مع أن لدى أميركا الكثير من البترول. * كاتب مصري