أدركت منذ سنوات بعيدة أن مسرح الثقافة الجماهيرية هو الحارس الفعلي لذاكرة المسرح المصري وجسر التواصل بين حلقاته المتتابعة. كان ذلك في آخر السبعينات من القرن المنصرم، حين عدت إلى مصر بعد ارتحال دام عشر سنوات، تبدلت خلالها ملامح الوطن وضاعت أشياء كثيرة. أحسست حينذاك بغربة طاحنة، وكعادتي في تلك الأحوال، وجدتني أرتد إلى موطني الأصلي: المسرح، أروم فيه الخلاص. لكنني سرعان ما اكتشفت أن المسرح الذي خبرته في مطلع الستينات تلاشى ضمن ما تلاشى، وآلمني أنني لم أكن عرفته ما يكفي قبل الرحيل، بل وأجهل كل ما أبدعه من أعمال في ما بعد. لم تكن قراءة النصوص المطبوعة وحدها، أو مشاهدة ما تيسر من تسجيلات تلفزيونية لبعض منها لتعالج هذا النقص، ولم تكن زيارة مسارح العاصمة لتجدي في الأمر شيئاً. كانت الفرق الرئيسة لمسرح الدولة الرسمي آنذاك تتخبط على غير هدى في أروقة الكوميديات الموسيقية التافهة ودهاليز الهزليات الفجة، في تهافت واضح لتقليد الفرق التجارية طمعاً في اجتذاب بعض من جمهورها الثري، الباحث عن الترفيه السطحي والمتعة السهلة. تجاهلت فرق العاصمة دورها الأساسي في تفريخ مبدعين جدد، والحفاظ على تراث المسرح العربي حياً في وجدان الأجيال المتعاقبة. وبدلاً من تقديمه في رؤى وتفسيرات جديدة من خلال نظام"الربرتوار"، وهو نظام مارسته معظم الفرق المسرحية المهمة منذ بدايات المسرح في مصر كي تختبر قدرة النصوص وتقاليد الأداء على الاشتباك مع الواقع وتجاوز أزمنتها التاريخية، فضلت فرق العاصمة التسكع في ميادين المسرح التجاري الرخيص. في تلك السنوات العجاف، التي محت مرافئ الصبا الوارفة، حتى بدا الوطن قاسياً جهماً، سوقياً غليظاً، مبتذلاً، كان مسرح الأقاليم على فقره وتواضعه أحد أطواق النجاة ومصادر السلوى. ووجدت في بؤره المنتثرة عبر الوادي طولاً وعرضاً مخزوناً حقيقياً من الفن الجميل والأصالة الفكرية، وكأنه مصفاة دقيقة لا تحتفظ إلا بأفضل ما أنتجته القريحة العربية من إبداعات مسرحية. على خشبات هذا المسرح الهامشي وأمثاله من مسارح الظل، القابعة بعيداً عن أضواء الإعلام واهتمامات المسؤولين وجمهور الصفوة - مسارح العمال وطلبة الجامعات والهواة - شاهدت روائع لم أكن رأيتها من قبل، واكتشفت كتابا لم أكن سمعت بهم، وبدا لي فنانو هذا المسرح ومبدعوه أشبه بكتائب من المجاهدين - العاشقين، الذين نذروا أنفسهم في تصوف رقيق لخدمة المسرح والحفاظ على هويته وكرامته. كنا نرتحل أنا ومجموعة من النقاد عبر الدلتا والوادي بحثاً عن هذا المسرح الصادق في باصات متهالكة، تداعت مقاعدها وأبوابها ونوافذها، نتحمل قيظ الصيف وبرد الشتاء، ومطبات الطرق المهملة، التي ترجنا من دون هوادة حتى تقضقض عظامنا، ناهيك عن قذارة المواقع وسخافات الموظفين الكسالى وتزلفهم الممجوج، وتدمي قلوبنا لرقة حال الفنانين البادية في ملابسهم ووجوههم، حتى ليخال المرء أنهم يقتطعون من قوتهم اليومي لتمويل متطلبات أدوارهم، ثم نعود آخر الليل في حالة توهج غريبة، وكأنما مستنا عصا سحرية لجنية طيبة، أو عثرنا على خبيئة فرعونية قديمة. الكارثة وآثارها لم يخطر في بالنا آنذاك أن سنوات الإهمال الطويلة هذه، التي طالما تندرنا خلالها في شيء من الزهو الأحمق بالمثل المصري القديم القائل إن"الشطرة تغزل برجل حمار"ربما تحمل في أحشائها بذور مأساة مروعة تنمو حثيثاً في الظلام، وأن الأبرياء وحدهم سيكونون ضحاياها. وذات مساء، في الخامس من أيلول سبتمبر - مصر الأسود عام 2005، داهمتنا الكارثة. احترق الأصدقاء والأحباب والأبناء. عشرات وعشرات من خيرة مبدعي ونقاد الثقافة الجماهيرية تفحمت أجسادهم في محرقة قصر ثقافة بني سويف. وقبل أن نفيق من هول الصدمة أو تواري الجثث التراب، تكشفت الأبعاد الحقيقية للكارثة، وتعرت كل السوءات. لم تكن مجرد كارثة أصابت أحد أجهزة وزارة الثقافة، بل نكبة وطن بأكمله، وطن طاول الفساد والإهمال والتسيب جل مؤسساته، بما في ذلك المستشفيات وأجهزة المطافئ والإسعاف، وأصبح الزيف والتربح والتقنع ديدنه، فهانت عليه أرواح أبنائه حتى إذا طاولتهم النار لم يجدوا فيه مغيثاً. كانت أياماً سوداً بحق، خلت فيها أن جهاز الثقافة الجماهيرية - ذلك الصرح العتيق، الغالي على علاته، الحيوي على رغم مثالبه - انهار أخيراً ولن تقوم له قائمة بعد الآن. أذكر كم تندرت في تلك الأيام العصيبة، بقلب يقطر مرارة، بالاسم الجديد، الأنيق، الذي اختاروه منذ سنوات لهذا الجهاز:"هيئة قصور الثقافة". لم يكن تغيير الاسم يعني فقط التنكر لأصحاب المشروع الحقيقيين - الجماهير، أو مناورة ساذجة لتجميل واقع كئيب بوضع لافتات براقة وهمية وما أرخص الأسماء في بلادي!. كان الاسم الجديد ينطوي على تورية لفظية كاشفة، أشبه ما تكون بزلة اللسان التي تفضح النيات الخفية من دون قصد في علم النفس الفرويدي، وكأن القائمين على هذا الجهاز انزلقوا من دون وعي إلى الاعتراف بنية"التقصير"في أداء الواجب وتقليص الدور الثقافي لهذه المؤسسة. لكن"الوردة تحت أي اسم تنشر عطراً"كما قالت جولييت شكسبير في ترجمة صلاح عبدالصبور، والفكرة لا تموت باحتراق المواقع والجدران وسقوط الشهداء. لهذا، احتفظت الثقافة الجماهيرية برسالتها على رغم تغيير الاسم، وخرجت من محنة الخامس من أيلول بفضل أبنائها. لم أكن أتصور أن ينبعث من رماد تلك المحرقة الكئيبة طائر العنقاء الأسطوري ويتحقق رؤية عين. انطلق الأولاد والبنات، الشيوخ والشبان، في أروقة الصحافة والمحاكم يطلبون القصاص ويبحثون عن حقوق الموتى الضائعة، ويرفضون أن تتخذ الحكومة فجيعتهم ذريعة لإهدار حقوق اكتسبوها بعرق السنين. وعلى رغم إغلاق معظم المواقع حتى يومنا هذا بحجة تأمينها ضد الكوارث، وهو أمر قد يستغرق سنوات، استطاعت إدارة المسرح بهذا الجهاز، في قيادة الشاعر محمود نسيم، وجهود فريق فدائي من العاملين - المبدعين، أن تقدم عدداً من العروض المسرحية الناجحة في السنة الماضية، بل وأن تقيم أيضاً في السنة نفسها أول مهرجان مسرحي يخصص لإبداع المرأة في مجال الإخراج، وتعقبه بورشة في الإسكندرية امتدت ستة أشهر لإعداد كوادر جديدة من المخرجات الشابات. ولأن محمود نسيم وأعضاء فريقه الرائع يعون جيداً البعد العربي لهويتهم، ويحرصون عليه، قرروا أن يكون مهرجان هذه السنة لقاء حميمياً بين المخرجات المصريات ونظيراتهن في كل أرجاء الوطن العربي. المسرح وجمهوره يظل مسرح الأقاليم هو أساس هذه الهيئة وخط دفاعها الأول، ويظل توصيل الخدمات الثقافية إلى البسطاء والمحرومين واجبها المقدس ومبرر وجودها. لهذا جاءت"ليالي الحكيم"، التي افتتحت في أوائل آذار مارس هذه السنة في قصر ثقافة الزقازيق، في محافظة الشرقية، مشروعاً رائداً، يتبنى فكرة العودة إلى الأصول، وقيادة فناني مسرح الأقاليم وجمهوره، على مدار شهور من التدريب وشهر كامل من العروض، إلى منابت الفن الدرامي الأصيل في مصر. كان صاحب الفكرة هو المخرج الشاب عمرو قابيل، الذي يحلو لي أن أصف موهبته بأنها"طويلة التيلة"مثل القطن المصري الفاخر، الذي لم يعد له الآن وجود. لكن فكرة إحياء خمس مسرحيات منوعة لتوفيق الحكيم دفعة واحدة، واستخدامها منطلقاً لإحياء فرقة إقليمية تفككت أواصرها وصدأت مواهبها بفعل سنوات من التجاهل والإهمال، لم تكن لتظهر إلى النور لولا حماسة فنان أصيل مثل محمود نسيم الذي ساند المشروع في كل مراحله. على مدى شهر كامل، شاهد أهل الزقازيق، ونحن معهم،"السلطان الحائر"،"مجلس العدل"،"الصفقة"،"رصاصة في القلب"، وپ"أهل الكهف"على التوالي. كانت كل مسرحية تعرض أربع ليالٍ، ويفصل بين كل مسرحية وجارتها يومان"لزوم التسخين"للعرض التالي. مثل هذا الإيقاع اللاهث - الذي يذكرنا بإيقاع العمل في فرقة"رمسيس"، كما كانت"الست"أمينة رزق رحمها الله تصفه لنا - يتطلب برنامجاً صارماً للتدريب على كل المسرحيات يسبق ميعاد العرض بشهور، بحيث تكون كل المسرحيات جاهزة للعرض في الوقت نفسه، ولا يحتاج الممثل أو التقني إلا ليوم أو اثنين لاستحضار ما سبق التدرب عليه. كانت"ليالي الحكيم"مشروع إحياء بحق، إحياء لقيم كادت أن تندثر، ومنها رصانة اللغة العربية التي امتهنت إلى حد الزوال، ورشاقة الحوار وذكاؤه وألمعيته، وأناقة الجدل الفكري الحر المتسامح، وجرأة التساؤل حول معاني العدل والحب والزمن، وحقيقة الحياة والموت والبعث. وقبل هذا وذاك قيمة الانضباط، وعلى رغم أن هدف عمرو قابيل كان إحياء تراث مسرحي متفرد، واستخدامه لجلو الصدأ عن أصوات ممثليه وأجسادهم وعقولهم، من طريق تعريضهم لجرعات مكثفة من إشعاعات عبقرية الحكيم على مدى شهور طوال من التمارين، وتقديم دورة تثقيفية مجانية للجمهور عن مسرح هذا الرائد، لم تخل العروض من اجتهادات إخراجية طريفة، منها تغيير نهاية"السلطان الحائر"عبر الصورة والحركة لتقول إن الحاكم، وإن اكتسب شرعيته من الشعب، لا يمكن أن يكون عادلاً بحق ما لم يتخلص من زبانيته، ومنها أيضاً وضع الجمهور على خشبة المسرح والقاضي في أعلى مكان في"البلكون"، في"مجلس العدل"، بحيث تحولت الصالة إلى فجوة أشبه ببئر مظلمة تهدد بابتلاع كل من تسول له نفسه بتجاوز الحدود والقفز إلى الحضرة السامية، ناهيك بتقديم"الصفقة"في الباحة المكشوفة، خارج قصر الثقافة في وضح النهار، في وجود حمار أبيض لطيف، حمل السيد المستغل إلى ساحة الأداء. كانت مي رضا، التي تألقت في دور الغانية في"السلطان الحائر"وفي"رصاصة في القلب"، العنصر الخارجي الوحيد في هذا المشروع المحلي الصرف. لكنها لم تكن غريبة تماماً عن السياق، فهي ابنة الثقافة الجماهيرية وعضو في فرقة السامر القاهرية. وعلى مدى ستة أشهر كرست هذه الفنانة الجميلة المثقفة نفسها للمشروع، وتعاملت مع فرقة الزقازيق لا كنجمة وافدة من العاصمة، تشق طريقها بثبات في مجال الدراما التلفزيونية، بل كزميلة لا تستنكف طلب العون والمشورة من أعضاء الفرقة المخضرمين، أو الظهور ضمن"الكورس"في"الصفقة". وبعد آخر ليلة عرض افترقنا على وعد من محمود نسيم بتكرار التجربة في أماكن أخرى من الوادي، درءاً لرياح السموم، وكما قالوا قديما، أول الغيث قطرة. * ناقدة مصرية