حين يذكر اسم كومنتشيني اليوم في إيطاليا، لدى ابناء الأجيال الجديدة من مرتادي دور السينما، غالباً ما ترد الى ذهن المستمع السينمائية الشابة كريستينا كومنتشيني، التي حققت خلال العقد الأخير من السنين افلاماً ناجحة، نالها من النجاح الجماهيري داخل إيطاليا، قدر ما نالت من النجاح النقدي في المهرجانات والمناسبات العالمية، ومن بين آخر هذه الأفلام"كازا نوسترا"الذي لفت الأنظار في الدورة الأخيرة لمهرجان مراكش. غير ان المتفرجين الأقدم، لا شك سيفكرون من فورهم بوالد كريستينا، لويجي، الذي كان الى سنوات خلت واحداً من أقطاب ما يسمى بپ"الكوميديا الإيطالية الجديدة"بعدما كان في سنوات الأربعين والخمسين من القرن العشرين من رواد النقد السينمائي ثم من المساهمين في انبعاث الواقعية الجديدة. وإذا كان اسم لويجي كومنتشيني قفز الى الصدارة خلال الأيام الأخيرة، فإنه قفز لمناسبة رحيله عن عالمنا وهو في الحادية والتسعين من عمره. ومن المؤسف ان هذا الفنان الذي كان من اصحاب الأسماء اللامعة خلال نصف قرن، عاش آخر سنوات حياته منسياً... ولكأن عنوان اشهر فيلم من بين افلامه، ينطبق عليه. الفيلم هو"الذي لم يفهمه أحد"وهو واحد من افلام قليلة لكومنتشيني غابت عنها الكوميديا، لتحل مكانها نزعة نفسية كئيبة غلبت على الشخصيات، كما على الشخصية الرئيسة، وهي كما اعتاد الأمر ان يكون في افلام عدة لكومنتشيني - شخصية فتى مراهق. هذا الفيلم حققه المخرج في سنة 1996، ولا يزال حتى اليوم واحداً من أشهر افلامه. بل لعله افضلها في نظر كثر من النقاد الذين لم يروا أي تميز له أي لكومنتشيني في عالم الكوميديا عن زملاء له ارتبط اسمه باسمهم في هذا المجال، مثل ايتوري سكولا، ودينو ريزي، كما لم يرون متميزاً في افلامه الواقعية الجديدة، امام اسماء كبيرة مثل روسليني وبلازيتي ولاتوادا. من هنا بدا إسهام كومنتشيني كبيراً في أفلام نفسية درامية تغوص في عالم الطفولة والمراهقة... والحقيقة ان السينما الإيطالية لم تعرف من هذا السياق ما هو أجمل وأقوى من"الذي لم يفهمه احد". هنا لا بد من الإشارة اولاً، الى ان كومنتشيني، وعلى غير عادته في أفلام اخرى له، اقتبس حكاية فيلمه هذا عن رواية، في العنوان نفسه، للكاتبة فلورانس مونتغمري التي عاشت طويلاً في ايطاليا لتجعلها مسرحاً لروايات عدة لها. من هنا، حتى وإن كانت الشخصيات الرئيسة في هذا الفيلم انكليزية، فإن المناخ ايطالي والمشاكل النفسية والعائلية ايطالية وكيف لا يكون ايطالياً موضوع تدور احداثه في واحدة من اجمل مدن ايطاليا، وأكثرها غموضاً: فلورنسا؟ ثم كيف لا يكون ايطالياً عمل يدور من حول فتى هش يعيش مصيره باستسلام وسط عالم لا حب فيه، كان إنجازه الأهم ان يحول ذلك الفتى الى ضحية مثالية لقسوة الواقع؟ الواقع اننا عبر هذين السؤالين، نكون قد غصنا تماماً في عمق هذا الفيلم الهادئ والقاسي في آن معاً. اما حكاية الفيلم فتدور من حول السير جون دانكومب، قنصل بريطانيا في فلورنسا، والذي حين يبدأ الفيلم يكون فقد زوجته الحبيبة، ليبقى وحيداً مع ولديهما الفتيين. وهو، لانهماكه في عمله الرسمي، لا يجد بداً من وضع الصبيين تحت رعاية مربية مخلصة، غير ان إخلاص المربية لن يكون لإشعار الصغيرين بالأمان والسعادة طوال النهارات التي يكون فيها الأب غائباً منصرفاً الى مهماته. خصوصاً انه سرعان ما يتبين لنا ان الأكبر بين الصبيين، اندريا، فتى شديد الحساسية أثر فيه موت امه تأثيراً كبيراً بحيث انه هزّ له كل شخصيته دافعاً إياه الى ان يحوّل كل ما لديه من مشاعر وعواطف تجاه ابيه. اما الصبي الآخر، الأصغر، ميلو، فإنه لا يبدو شديد المبالاة بما حدث، إذ ها هو يمضي أوقاته متمتعاً باللعب في حديقة الفيلا، لاهياً عن الآخرين وهمومهم. ولكن يحدث ذات يوم ان الصبيين يبارحان الفيلا خفية ويتوجهان الى المدينة من دون ان يدري احد، لاسيما المربية والأب، بوجهتهما. ويثور غضب الأب كالبركان حين يعود الولدان... ويبدو واضحاً ان ثورة الأب تتجاوز الحدث نفسه. إذ انه يفرغ في غضبه كل حزنه على زوجته الراحلة، وكآبته إزاء حياة الفراغ العائلي، ناهيك بأنه يفرغ ايضاً كل انزعاجه إزاء مشاعر ابنه اندريا تجاهه. ان الأب يلقي بالتالي كل ضروب اللوم على اندريا... ثم حين تزول ثورة الغضب، يتحول هذا الشعور الأخير لدى الأب، الى برودة مروعة في التعامل مع اندريا. والحقيقة ان هذا البرود يصبح بداية سيرورة عذاب اندريا النفسي. غير ان هذا النوع من العذاب لا يطول، لأنه سرعان ما يتحول الى عذاب جسدي أكثر كآبة حين يصاب الفتى في حادث يكسر له عموده الفقري... وينتهي به الأمر الى ان يلفظ انفاسه تحت صورة امه بين يدي ابيه الذي ينهار هنا تماماً. "ان الشيء الذي يثير شغفي اكثر من أي شيء آخر هو العلاقات العاطفية بين البشر، هذه العلاقات التي تترك كل ضروب العقلانية جانباً. إن معجزة الحياة تكمن في ان لدينا، نحن معشر البشر، قدراً كبيراً من العواطف والمشاعر، وفهماً لاواعياً للآخر، لا يمكن احداً إدراك اسبابه وتفسيره". بهذا العبارات اجاب لويجي كومنتشيني يوماً على سؤال طرحه عليه الناقد جان جيلي حول فيلمه هذا وما دفعه الى تحقيقه. والواقع ان كومنتشيني إنما كان يعبّر هنا عن منظومة فكرية اخلاقية، لا ريب ان من يتفحّص افلامه سيجدها ماثلة دائماً. لكنها تبدو اكثر حضوراً في افلامه التي آثر ان يجعل من الصغار أبطالاً لها. وعلى وجه الخصوص هذا الفيلم الذي لا بد ان نذكر انه حين عرض للمرة الأولى في دورة عام 1967 لمهرجان"كان"السينمائي استقبل استقبالاً سيئاً من قبل جمهور ونقاد رأوا فيه"مبالغة ميلودرامية لا تنتمي الى هذا الزمن الذي نعيش فيه"بحسب ما كتب واحد من النقاد يومها. والحال ان عدوانية النقاد وصفير الجمهور أثرا كثيراً في توزيع الفيلم خارج ايطاليا. بل انه حتى في إيطاليا لم يحقق ما كان يستحقه من نجاح. ولكن بعد ذلك بعشر سنوات، حين عاد الفيلم وعرض في باريس، استقبله النقاد انفسهم؟! استقبال الفاتحين. لم يكن الفيلم هو الذي تغير، طبعاً، بل الزمن وذوق النقاد... وحتى المزاج الشعبي العام، الذي لم يعد يرى في مثل هذه السينما الحميمة المكتئبة، ميلودراما مبالغة في مواقفها، بل انعكاساً للصراعات النفسية المعتلة داخل أفئدة البشر. ومن المؤكد ان الاستقبال الطيب المتأخر الذي حظي به"الذي لم يفهمه احد"، اثر كثيراً في استقبال الجمهور والنقاد نفسهم فيلماً مشابهاً حققه كومنتشيني عام 1983 في عنوان"قلوب"وسيكون واحداً من آخر افلامه، إذ ان حركته تباطأت بالتدريج، حتى توقف تماماً عن تحقيق الأفلام وهو سعيد، على أي حال، بالمجد الذي اتاه متأخراً. ولد لويجي كومنتشيني في مدينة سالو سنة 1916، وتوفي في روما قبل ايام. وهو بدأ حياته المهنية، كما أشرنا، ناقداً سينمائياً في رفقة ألبرتو لاتوادا وماريو فيراري، وأسسوا معاً اول سينماتيك ايطالي، ثم حرروا مجلة"آفانتي"قبل ان يصبح كومنتشيني ناقداً في صحيفة"تيمبو". وهو بدأ منذ سنة 1946 تحقيق افلام تسجيلية ثم روائية لم تلق في البداية نجاحاً، لكن منذ سنة 1953 ومع فيلمه"خبز وحب وفانتازيا"ثم مع"خبز وحب وغيرة"في السنة التالية، حقق نجاحاً تجارياً كبيراً وضعه على سكة النجاح طوال عقود تالية حقق خلالها افلاماً عدة بعضها يعتبر علامات في السينما الإيطالية وبعضها لم يفهم اول الأمر... وفي النهاية، حين رحل كومنتشيني عن عالمنا، أعيد إليه اعتباره كواحد من كبار حرفيي الفن السابع، إن لم يكن من عباقرته المميزين مثل فلليني وأنطونيوني وفيسكونتي.