يوسف القعيد كاتب مصري قدير، احترف الصحافة والسياسة ورفقة العظماء، جمع بتوازن مدهش بين نضارة الوعي بالريف والالتزام بأخلاقياته، مع العلم ببواطن الأمور في المدينة والقدرة على اجتياز مسالكها الوعرة. ثم صبّ خبراته في منظومة متوالية من الأعمال الروائية التي تراكمت لتسجل صفحة مهمة في تاريخ السرد العربي، وتقدم وثيقة خطيرة لتطور الحياة في"برّ مصر"- على حد تعبيره - في العقود الأخيرة ولعل خصوصية يوسف القعيد تكمن في استمرار ولائه الناصري لطفرة الستينات من القرن المنصرم من دون تحفظات أيديولوجية كبيرة، وجمعه المثير، على امتداد سنوات طويلة، لصحبة نجيب محفوظ الحميمة من ناحية، والقرب الشديد من دائرة الصحافي محمد حسنين هيكل من ناحية أخرى، مع استمرار ولائه الصعب لتوأم روحه جمال الغيطاني من دون شروخ ظاهرة، ما يجعله نموذجاً في الوفاء والمعرفة بأسرار الحياة العامة بكل تياراتها العصيّة. والرواية التي نتناولها"قسمة الغرماء"صدرت عن دار الساقي في لندن، ولم يقدر لها أن تمثل حدثاً أدبياً كما تستحق، مع أنها تغوص على أعماق الواقع المصري وتوظف تقنية جديدة عند مؤلفها وهي تعدد الرواة الموزعين على الفصول بالتناوب، بما يطرح مفارقات عوالمهم المختلفة - ويقدح شرر التواصل والتناقض في علائقهم المتشابكة، وإن كانوا يبدون كما لو أنهم يسكنون صناديق متجاورة غير متحاورة، يتم الكشف التدريجي عن فحواها كلما تقدمت حركة السرد واحتدمت درامية المواقف، على أن بؤرة الأحداث التي تتكثف عبر يوم واحد فحسب هو زمن الرواية تجسد أزمة التدين المفتعل في المجتمع المصري الراهن، وما تفرز من توترات غريبة على طبيعته المستقرة في جمعها بين الأضداد باتساق محسوب، يضمن للحياة إيقاعها الباطني المفعم بالشهوة والتنسك معاً. الشارع المصري يحكي الفتى"ماجد عبود جرجس"في الفصل الأول من الراوية قصة رحلته الشهرية من الفندق المتواضع، الذي يقيم فيه مع أمه في حيّ"شبرا"المكتظ بسكانه والمختلط في شعائره، إلى"أبلة مهرة"المنطقة المعتزلة في منطقة المعادي والمخططة لسكن الجواسيس من السلك الديبلوماسي على حد تعبيره، كأن يقول:"توقف أمامي أول أوتوبيس، كانت اللافتة المعلقة على جانبه - بجوار رقمه والأماكن التي يذهب إليها - تجرح العين:"الإسلام هو الحل"كل الأوتوبيسات مغطاة بهذا الكلام، مكتوب على شكل إعلان. قد تتغير الألوان وشكل الخط لكن الجملة واحدة. لا أعرف مَن المعلن؟ مَن الذي يدفع قيمة الإعلان؟ جهة، مصلحة، أم إنسان؟". ومع أن هذا الراوي مراهق في الخامسة عشرة من عمره فإنه يهذي في داخله بهذه التأملات التي تخرق سطح الظواهر الطافية على الشارع المصري، لينفذ إلى القوى المحركة له، بلغة متدفقة، لا تشف عن خصوصية مرحلته أو تجربته القصيرة. وإن نطق بتوتر مشاعره المعادية لهذه الشعارات، لكن سنه لا تتسع للحسرة على الأزمنة الماضية ولا تذكر الملابس الأنيقة للرجال والنساء. ولو كان بوسعه أن ينسب ذلك إلى ملاحظات أمه مثلاً لكان أكثر منطقية وإقناعاً. غير أن عفوية هذا التدفق السردي تضعنا في قلب المناخ الذي تجسده الرواية، وتدمغ به العصر الذي تسجله بكل مفارقاته وأشجانه. وبقدر ما يجترح يوسف القعيد شيئاً من الانتهاكات اللغوية المحببة، يقترب من روح العامية المصرية في أطرف تجلياتها، ويشف عن حسّ الفكاهة الأصيل لديه. وأهم من ذلك ينجح في تخليق نماذج مدهشة من الشخصيات التي تعلق بالذاكرة وتستقر في الضمير الأدبي، باعتبارها علامة على تقاطع الرؤى في الحياة. و"الجنرال عفارم"الذي يطلع علينا من هذه الرواية يتميز عن دراويش محفوظ بأنه صريع الجمال ومجنون غانية فريدة هي"مهرة"التي تمثلها باعتبارها مليكة مصر، وهو وإليها المنتظر طبقاً لمبدأ تناسخ الأرواح:"يقولون إنني كنت قاضياً عندما صعقني جمالها، واكتشفت حقيقتها المطمورة تحت مظهرها الذي نقدمه إلى الآخرين، مثل الفاترينة التي تطل من ورائها عليهم، متأملة ما يجري بصمت. عرفت أنها شجرة الدر، واكتشفت شخصية المعز لدين الله الفاطمي في أعماقي، وروحه التي تلبستني. طلب مني المعزّ أن يبقى وجوده داخلي سراً، قال لي إن الأوان لم يئن... ذهبت إليها وأنا في أبهة القضاء، كنت أشاهد إحدى مسرحياتها، وبعد انتهاء العرض ونزول الستارة لم أعد إلى بيتي، ولم أرجع إلى عملي، حتى من أجل أن أجمع أوراقي وألملم أسراري، أطلقت لحيتي التي غطت صدري، وأطلقت شاربي وتركت سالفيّ، هكذا أشار عليّ الحلاق، وهو حلاق ملتحٍ... لبست الجلباب وأصبح شعاري:"الشيوخ هم الحلّ"، اشتريت بدلة ضابط كبير. رابعة العدوية هي التي قالت لي ان رتبة صاحبها جنرال، وهذا ما جعلني أذهب إلى سيدنا الحسين"سيد الشهداء وإمام أهل الجنة"كنت أتصور أن النياشين والأنواط تباع هناك، قالوا ستجدها في ميدان العباسية، أو في موقف أحمد حلمي، أصبح صدري وكتفاي غابات من الأوسمة، وأصبحت أمسك عصا الماريشالية ويظنني الناس مجنوناً. وإذا كان استلاب المجاذيب المتصوفة أمراً مألوفاً في الحياة العربية، فإن"الجنرال عفارم"، مجنون"مهرة"الذي يلازم باب منزلها صباح مساء يبدو بالغ الطرافة، لأن ماضيه القانوني المزعوم، ولوثته التاريخية المثيرة للدهشة والتي تذكرنا بمن يدعو اليوم لإحياء الخلافة الفاطمية من دون أن تكون هناك شجرة الدر، كل ذلك يجعل منه نموذجاً فادحاً لاختلاط الدلالات وتباين المؤشرات العبثية في الحياة المصرية الراهنة. العنوان الفقهي للرواية يستخدم بطريقة مجازية تحتمل تأويلات عدة، لعل أقربها إلى الأحداث هو شراكة المواطنة عندما يتهددها الاحتقان والإفلاس، فتهرع كل طائفة لكي تحظى بنصيبها من الدَّيْن في رقبة الوطن ولو أدّى ذلك إلى ذبحه. وينطلق الحدث الرئيس لرواية القعيد من سيرة"عبود جرجس"والد ماجد الذي كان مديراً ناجحاً في إحدى الشركات في أسيوط، فطاردته رياح التعصب المقيتة وهددته في حياته لمجرد أنه قبطي يترأس مسلمين ويصبح له حق الولاية عليهم، فيفكر في الفرار من موطنه. وعندما يأتي دور زوجته"مرام"في الحكي طبقاً لتقنية تبادل الرواة تكشف عن أبعاد أخرى لقراره بالسفر:"تكرس الانفصال النفسي والجسدي بيننا، قال لي إن مشاركتي له جفّت في منتصف الطريق، لأنني عجزت عن استيعاب الخطر الذي يتهدد حياته... نجا وحده وتركنا غارقين في هذه البلاد التي لا نعرف كيف ولا متى ستكتب لنا النجاة والإفلات منها... سمعت كلاماً في الكنيسة ومن بعض الناس الذين استمعوا إلى اسم"المُبعد"و"المطرود"و"المسيحي الهارب من إرهاب المتطرفين في مصر، لم يشر في مقابلاته إلى ابنه ولا إليّ، بالطبع تجاهلنا خوفاً علينا". وعندما تهاجر هذه الأم من أسيوط إلى القاهرة بحثاً عمن يلحقها بزوجها، لا تظفر في نهاية الأمر بسوى وسيط يرشدها إلى الوسيلة التي دبرها الزوج لتحصل على معونة شهرية منه، تصلها من طريق الممثلة المعتزلة"مهرة". ومع أن الشكوك تأكل صدرها من طبيعة علاقة زوجها بهذه الممثلة فإنها تنتظم في إرسال ابنها كل شهر ليقبض من يدها المعونة الشحيحة المنتظرة. يضن يوسف القعيد على قرائه بإضاءة هذه العلاقة ليضمن التشويق الروائي، لكنه يستطرد كثيراً في الحديث عن هذه الفاتنة المحجبة، التي تضع كل ثروتها في إحدى شركات توظيف الأموال المتأسلمة، ويصور صاحبها ذا اللحية الطويلة وهو يغرر بالشهيرات من نجوم الفن ليتزوجهن عرفياً إشباعاً لنهمه الجنسي، وتسكت الرواية أيضاً عن المعلوم من انهيار هذه الشركات وفقدان المساهمين لثرواتهم واقتسامهم للفتات المتبقي منها باعتبارهم غرماء، ولكنها في مقابل ذلك تضيء لحظات أخرى في تاريخ الفاتنة الخاسرة عندما ساوموها لارتداء الحجاب، وأنكروا عليها الحق في إقامة مصنع صغير للملابس، وعندما اشتدت بها الضائقة المالية وجعلتها تنفق الجنيهات القليلة التي يبعث بها المهاجر لأسرته من طريقها من دون سبب واضح تهرع إلى زوجها السابق الذي كان ضابطاً كبيراً في الجيش فتجده في براثن الجماعة نفسها بعد إحالته الى التقاعد. وتصب الفصول الأخيرة للرواية في مغامرة طائشة ومحسوبة، تغوي فيها الصبي المراهق ماجد، لتلهيه عن تقاضي حقه، منتهزة فرصة استعارته لأحد الأفلام الإباحية كي يراها عندها، فتعود إليها طبيعة الأنثى المولعة بفتنة العشاق وتمزيق أقنعة الطهارة المصطنعة، وتضع حميّا الجنس اللاهبة نقطة الختام في رواية تفجر أسئلة المستقبل وهي تحفر في ألغام الحاضر.